الخميس 8 مارس 2012 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة -- الشروق / بقلم : فهمي هويدي --- --- حين ناقشت فكرة «الوفاق» فى الأسبوع الماضى، قلت إننا لا ينبغى أن نرحب بأى وفاق قبل أن نعرف مع من وحول ماذا. لذلك تحفظت على بعض الأخبار التى تحدثت عن لقاء نائب مرشد الإخوان مع السناتور جون ماكين وعن الاتفاق بين أبومازن وأبوالوليد، لكن ما أقدمت عليه وصفه البعض بأنه «مأزق»! ــ إذ قرأت تعليقا بهذا المعنى نشرته صحفية المصرى اليوم (عدد 4/3) فى زاوية تحمل توقيع «نيوتن»، قال فيه كاتبه إننى انتقد من دافعت عنهم من قبل. وذكر أن مقالتى تعبر «عن الأعضاء حبيسى سجن الأيديولوجية والماضى». وإن ما قلته صدر عن «كاتب ناضل سنوات ضد حكم مبارك معترضا على سياساته الإقليمية. (كما) ناصر أفكار الإخوان وحلفائهم فى المنطقة مثل إيران وحزب الله وحماس». والمأزق الذى ارتآه يتمثل فى أننى صرت أناقض ما انتقدته طيلة ثلاثين عاما، فأصبحت أطبق على الإخوان ما سبق أن طبقته من معايير على حكم مبارك وحكم بن على وسياسة محمود عباس.
استوقفنى فى التعليق أمران، أحدهما شكلى والثانى موضوعى. من حيث الشكل فإن الكاتب ــ الذى قيل لى إنه الأستاذ صلاح دياب مؤسس الجريدة وصاحبها ــ تحدث من موقع فكرى يضع مخالفيه فى موضع الاتهام، إذ يعتبرهم «حبيسى سجن الأيديولوجية والماضى»، وهذا اختيار يفهم. لكن ما استلفت نظرى فى تعليقه أنه تحدث بأدب غير معهود فى الحوارات الصحفية، التى يشكل «الردح» إحدى سماتها، الأمر الذى شجعنى على أن أراجع الفكرة التى طرحها. لذلك فإننى ما إن وقعت على لغة التعليق حتى قلت: أخيرا هذا واحد مهذب ينتقد ويستحق أن يناقش رأيه.
أما من حيث الموضوع فأزعم أن الكاتب وقع فى مطب التصنيف الذى يعد أحد أمراض الحياة الثقافية المصرية. أقصد بالتصنيف عملية توزيع أصحاب الرأى على مربعات ومعسكرات فكرية بذاتها تحاصرهم وتلاحقهم طوال حياتهم المهنية. تماما كما يحدث فى كرة القدم، حين يفترض فى المشجع المصرى أن يكون واحدا من اثنين أهلاويا أو زملكاويا، الأمر الذى يستغرب معه البعض ألا يكون المرء كذلك، كأن يغدو مشجعا للعبة الجيدة، سواء جاءت من فريق الأهلى أو الزمالك أو الأوليمبى أو حتى من فريق المصرى البورسعيدى.
يحدث ذلك فى الحياة الثقافية، حيث يفرض على الشخص إما أن يكون «مع» وإما «ضد».. إسلاميا أو ليبراليا.. دينيا أو مدنيا.. حتى أصبح البعض يستغربون ــ وأحيانا يرفضون ــ أن يكون المرء إسلاميا وليبراليا ومتدينا ومدنيا فى نفس الوقت.
وكما أن هناك ــ فى الأندية ــ مشجعين متعصبين يسمونهم «الألتراس»، فإخواننا هؤلاء ــ والكاتب المذكور بينهم ــ افترض أنه هناك «ألتراس» فى عالم الأفكار. وربما كان ذلك صحيحا بالنسبة للبعض، لكن تعميم الفكرة يهدر حق من يريد أن يمارس حريته فى التعامل مع ما يراه إيجابيا من أفكار ومواقف، بصرف النظر عن مصدرها أو الوعاء الذى خرجت منه.
ثمة فرق بين من ينتصر لتنظيم أو جماعة أو حتى دولة، وبين من ينتصر لقيمة أو موقف يمثله هذا الطرف أو ذاك. إذ الأول مع التنظيم أو الجماعة على طول الخط. وهو أقرب إلى «الألتراس» فى هذه الحالة، أما الثانى فنصرته مرتبطة وجودا وعدما بمدى الالتزام بالقيمة.
ذكر الكاتب اننى ناصرت خلال الثلاثين الماضية الإخوان وحماس وحزب الله وإيران، وهذا صحيح. ولكن عقلية التصنيف لم تتح له أن يدرك أنها كانت نصرة لمواقف وقيم عبر عنها حينذاك كل واحد من تلك الأطراف، ولم تكن نصرة لجماعة أو دولة أو حزب. ولأنها عندى كانت كذلك فقد اتسعت العلاقة للاختلاف كما تخللها الاتفاق. ولم يكن فى الأمر تناقض أو مأزق من أى نوع. لقد انتقدت حركة حماس مثلا حين ظهرت فى عام 1987، وذكرت فى ميثاقها أن فلسطين وقف إسلامى. وكتبت حينذاك مقالة أثارت لغطا وجدلا فى الأردن كان عنوانها «فلسطين المحررة قبل فلسطين الإسلامية». ثم وقفت مع حركة حماس بعد ذلك باعتبارها تجسيدا لقيمة المقاومة، وحين اهتزت الصورة نسبيا بما قيل عن «اتفاق غير مسبوق» مع أبومازن، سجلت تحفظى على ذلك الوفاق الذى اعتبرته «مذموما». بنفس المنطق تعاملت مع الإخوان وحزب الله وإيران. ولولا ضيق المساحة لعرضت تفصيلا أين كانت مواضع الاتفاق ومواضع الخلاف. ولم يعد خافيا اختلافى مع الإخوان فى مسألة تشكيلهم للحكومة فى مصر، واختلافى مع إيران وحزب الله فى موقفهما الداعم لنظام الأسد فى سوريا.
إن الأزمة الحقيقية تكمن فى شيوع الانطباع بأن الصحفى أو الكاتب لابد أن يكون تابعا لجهة ما ومجندا فى معسكر ما. وأن مواقفه خصوصا إذا كانت مغايرة للرياح السائدة ناطقة باسم تلك الجهة، وليست تعبيرا عن ضميره ورؤيته أصاب فى ذلك أم أخطأ. ولست أنفى أن ذلك الصنف موجود بيننا، لكننى أذكر بأن هناك آخرين ليسوا كذلك. ومواقف الجميع منشورة على الملأ، وبوسع أى أحد إذا خلع نظارة التحيز والتصنيف أن يميز بين هذا وذاك. أما إذا أصر على ألا يرى التمايز الذى أعنيه، فتلك إذن تصبح أزمته ومأزقه هو.
ساحة النقاش