السبت 10 مارس 2012 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة --- الشروق / بقلم : فهمي هويدي --- ---
منذ متى كانت واشنطن تغضب وتثور دفاعا عن المنظمات الأهلية فى بلد أجنبى؟.. إن الناطقين (الأمريكيين) باسم تلك المنظمات يتعاملون مع الإجراءات التى اتخذت بحقها فى مصر باعتبارها تدخلا فى أنشطة منظمات حكومية خيّرة وغير مسيسة، منخرطة فى مساعدة المصريين فى تحقيق التحول الديمقراطى، وهذا التعميم إذا صح فى جوهره، إلا أنه يعكس أيضا حالة بائسة من الجهل، وربما انطوى على خداع متعمد، ذلك أن وصف بعض تلك المنظمات بأنها غير حكومية، أو أنها تعبر عن المجتمع المدنى هو تزييف للواقع، لأن الوصف الأكثر تطابقا مع طبيعتها هو أنها منظمات حكومية غير رسمية.
لست صاحب السؤال، ولا علاقة لى بالجواب، إنما الذى سأل وأجاب هو ريتشارد فولك القانونى الأمريكى المخضرم، الذى عمل أستاذا للقانون الدولى بجامعة برنستون طوال 40 عاما، كما عمل ممثلا للأمم المتحدة لحقوق الإنسان فى فلسطين. وقد كتب الرجل مقالة فى الموضوع نشرتها «الجزيرة نت» ومواقع أخرى فى 15 فبراير بمناسبة الضجة التى حدثت عقب الإجراءات التى اتخذتها السلطات المصرية إزاء بعض المنظمات الحقوقية العاملة فى البلاد، وبمقتضاها اتهمت 47 أجنبيا بينهم 19 أمريكيا بممارسة أنشطة غير قانونية، وأحالت الجميع إلى محكمة الجنايات، وهو ما آثار أزمة فى العلاقات بين القاهرة وواشنطن، هدأت بصورة نسبية بعد إلغاء قرار المحكمة بمنع الأمريكيين من السفر، ثم مغادرتهم البلاد فعلا على النحو الذى فجر أزمة أخرى فى مصر لا تزال تداعايتها مستمرة إلى الآن.
خص فولك بالذكر ثلاث منظمات أمريكية شملت الإجراءات المصرية ممثليها هى: المعهد الجمهورى الدولى والمعهد الوطنى الديمقراطى وبيت الحرية، وقال: إن المنظمتين الأوليين تحصلان على كل تموليهما من الحكومة، وقد تأسستا فى الأصل عام 1983 عقب الخطاب الذى ألقاه (الرئيس الأمريكى الأسبق) رونالد ريجان أمام البرلمان البريطانى، ودعا فيه إلى تقديم العون للبلدان غير الغربية المستقلة حديثا من أجل مساعدتها على إقامة البنى الديمقراطية، ومنذ لحظة إنشائهما وهما يحصلان على تمويل سخى بملايين الدولارات من خلال منح سنوية يقدمها الكونجرس، إما مباشرة وإما عن طريق كيانات حكومية مثل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية والوقف الوطنى للديمقراطية، ورغم أنهما يدعيان انهما غير حزبيين، فإن كلا منهما تابع صراحة لأحد الحزبين السياسيين المسيطرين فى الولايات المتحدة، وله مجلس إدارة ولديه موظفون وكذلك مستشارون أغلبيتهم العظمى مسئولون وموظفون حكوميون سابقون مرتبطون بهذين الحزبين السياسيين الأمريكيين، والطابع الأيديولوجى والحكومى لهاتين المنظمتين تلخصه طبيعة قيادتيهما، إذ إن مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية فى عهد بيل كلينتون هى رئيسة مجلس إدارة المعهد الوطنى الديمقراطى، فى حين أن المرشح الجمهورى السابق للرئاسة والسيناتور البارز حاليا جون ماكين يتولى المنصب ذاته فى المعهد الجمهورى الدولى.
أضاف: أما بيت الحرية وهو المنظمة الثالثة التى استهدفها الإجراء القضائى المصرى فإنه يعتمد بنسبة تزيد على 80٪ من تمويله على الوقف الوطنى للديمقراطية، كما انه مرتبط بدوره بالسياسات الحزبية الأمريكية، وقد أنشئ عام 1941 كبادرة مشتركة من الحزبين خلال الحرب الباردة.
اعتبر الكاتب أن نشاط المنظمات الثلاث فى مصر كان تدخلا مقنعا فى السياسة الداخلية للبلاد يمثل تهديدا محتملا لاستقلالها السياسى، ومن الحكمة أن تصر مصر على أن تلك المنظمات المرتبطة بالحكومة الأمريكية يجب أن تسجل لتحصل على ترخيص بالعمل بها. وقال إن السويد لو عرضت أن تقدم مساعدة للولايات المتحدة فى مجال الديمقراطية لقوبل الطلب بالرفض بلهجة خشنة باعتباره مهينا لسيادة الولايات المتحدة.
فى هذا السياق أشار فولك إلى أن التحقيقات الموثقة أثبتت أن المعهد الجمهورى الدولى والمعهد الوطنى الديمقراطى لعبا أدوارا فى زعزعة استقرار حكومات أجنبية معادية للسياسة الأمريكية. والأول اسهم فى تمويل الانقلاب فى هاييتى للتخلص من حكومة الرئيس جان برتران ارستيد واستبداله بسلطة أخرى رجعية. كما كان له دور فى تقوية أحزاب الوسط ويمين الوسط ببولندا، الأمر الذى يعد تدخلا فى شأنها الداخلى.
رغم تفهمه للموقف المصرى فإن الباحث الأمريكى اعتبر أن الأمر أكثر تعقيدا مما يبدو، لأن السلطة العسكرية فى مصر ربما تكون قد تعمدت إثارة الزوبعة، فتذرعت بحكاية التراخيص والأنشطة غير القانونية لمنظمات المجتمع المدنى لقمع وترهيب مختلف الجمعيات الأهلية التى أدانت الانتهاكات التى ارتكبتها بحق المتظاهرين. كما أن واشنطن ربما لم تسترح من جانبها لاحتمالات تفاهم الإخوان والسلفيين مع المجلس العسكرى فى التخطيط لمستقبل مصر، فسعت إلى تأييد المعارضة الديمقراطية لتعزيز إمكانية إقامة حكم علمانى فى البلاد يكون أقل تهديدا للمصالح الأمريكية والإسرائيلية. وختم كلامه قائلا: إن الحكومتين الأمريكية والمصرية تناوران وتخفيان نواياهما الحقيقية فى حين تعرضان حججا وحججا مضادة تعتم على دوافعهما الخفية بدلا من كشفها، وهو كلام إذا صح فهو يعنى أن الجزء الغاطس فى المسألة أكبر بكثير مما ظهر على السطح.
ساحة النقاش