حتى الآن لا يبدو أن المصالحة تمت بين السلطة والمجتمع فى مصر، صحيح أن الحكومة استقالت، وتم تكليف حكومة جديدة، وأن ذلك ما كان له أن يحدث لولا أن المجتمع رفع صوته، وأعلن عن غضبه، واعتصمت جماهيره فى ميدان التحرير وبقية ميادين مصر تعبيرا عن احتجاجها على الإهانة التى لحقت بها. صحيح أيضا أن المجلس العسكرى عبّر عن أسفه على لسان رئيسه تارة، ثم قدم اعتذاره عما جرى فى حديث اثنين من أعضائه فى وقت لاحق، إلا أن البطء فى تدارك الموقف من جانب والتلكؤ فى تقديم الاعتذار إلى حد «تقسيطه» على أكثر من مرة أفقده مفعوله، خصوصا أن المطالبة بالاعتذار صدرت حين تم الانقضاض على معتصمى ميدان التحرير صبيحة السبت الماضى 19/11، حين كانت حصيلة «الغارة» قتل اثنين فقط من المحتجين وإصابة نحو عشرة أشخاص. لكن حينما استمر عدوان الشرطة، ووصل عدد القتلى إلى نحو أربعين شخصا، وأصبح المصابون بالمئات. وبدا أن القمع يزداد شراسة وعنفا يوما بعد يوم، فإن الأمر اختلف كليا، إذ تعمق الجرح واتسعت بحيرة الدم وتضاعف الشعور بالإهانة والنقمة، التى جاوزت وزارة الداخلية والحكومة، وطالت المجلس العسكرى ذاته، وهو الذى تدخل دفاعا عن كرامة المصريين وصونا لدمائهم. لكن بعد تسعة أشهر من تسلمه للسلطة اكتشف المصريون أن كرامتهم لا تزال تهدر وأن دماءهم لا تزال مستباحة، وأن الثمن الذى دفعوه من شهدائهم فى بداية الثورة لم يكن كافيا لتحقيق أهداف الثورة. لذلك فإن خروجهم إلى الميادين والشوارع كان إعلانا عن إصرارهم على إنجاح ثورتهم واستردادهم لكرامتهم. وهى الرسالة التى لم تفهمها الأجهزة الأمنية ولا المجلس العسكرى للأسف طوال الأسبوع الماضى على الأقل، بدليل أنها واصلت القمع الذى ثار الناس لإيقافه وطى صفحته.
منذ اليوم الأول دعوت إلى اعتذار علنى ومحاسبة للمسئولين عن إهانة المصريين، ناهيك عن أهالى الشهداء وغيرهم من المصابين. وإذا كنا قد تلقينا اعتذارا خجولا، فإننا لن نقتنع بجديته إلا إذا أعلن المجلس العسكرى بصراحة وبغير مواربة عن أن الذين اسالوا دماء المصريين مجددا سوف يحاسبون جنائيا وسياسيا.
أيا كان رأينا فى مطالب ثوار التحرير التى نشرتها الصحف، فإننى أزعم أن رد الإهانة التى لحقت بالمصريين على مدى الأسبوع مطلب كان يستوجب استمرار الاحتجاج والاعتصام. لذلك فإننى لست من مؤيدى الإسراع بإخلاء ميدان التحرير، ما لم يرد لجماهير الثورة اعتبارها، وما لم يدرك المجلس العسكرى أن خطأه فى حقها يجب أن يصحح بلا تردد أو تأخير.
على صعيد آخر، فإننى ما زلت عند رأيى فى أن إجراء الانتخابات فى موعدها يشكل ضرورة قصوى، ليس فقط لكى تشكل فى مصر مؤسسة منتخبة تمثل الشعب حقا تستطيع أن تراقب وتحاسب، وتخرجنا من دوامة المزايدات السياسية التى نعيش فى ظلها منذ قامت الثورة. ولكن أيضا لأن تلك هى الخطوة الأولى باتجاه تسلم السلطة من المجلس العسكرى. إذ فى هذه الحالة فإن الوزن السياسى للمجلس المنتخب سيكون أقوى بكثير من وزن المجلس العسكرى الذى أدى دوره مشكورا فى حماية الثورة، ذلك أن المجلس المنتخب أهم بكثير من أى مؤسسة حكومية حتى إذا ضمت عدوا من الرجال الوطنيين والشرفاء. فضلا عن ذلك فإن الانتخابات ستتيح لنا أن نعرف الحجم الحقيقى للقوى التى تتزاحم فى الفضاء السياسى المصرى، الأمر الذى يوفر لنا صورة طبيعية للخريطة السياسية، بدلا من تلك المشوهة والمفتعلة المتداولة الآن.
لست من أنصار فكرة تشكيل مجلس رئاسى موازٍ للمجلس العسكرى، ليس فقط لأنه أما أن يكون معينا من قبل المجلس، وفى هذه الحالة فإنه سيكون بمثابة حكومة موازية أو أنه سيضم تشكيلة من القانونيين الذين يتبوؤن مناصب رفيعة فى الهيئات القضائية. ورغم أن ذلك مخالف للإعلان الدستورى، فإنه يورط هؤلاء الخبراء فى الملف السياسى الذى لا دراية لهم به.
كما أننى لم أفهم تلك الدعوة التى أطلقها البعض لرحيل المجلس العسكرى، دون أن يقدموا لنا بديلا معقولا عنه، علما بأن التصويت فى الانتخابات هو خطوة فى الطريق إلى رحيل ذلك المجلس.
من ناحية أخرى، فإننى لست ممن يؤيدون فكرة تأجيل الانتخابات، التى تعد مغامرة قد تضيع علينا فرصة الانتخابات كلها إذا جدت أمور استدعت ذلك. وأتفق مع القائلين بأن إجراء الانتخابات فى موعدها يعد نوعا من المغامرة، لكنى أضيف أن المغامرة ستكون أكبر إذا ما تأجلت الانتخابات. وفى أحد المقابلات التليفزيونية التى أثير فيها الموضوع قلت إننا نختار فى المشهد الراهن بين سيئ وأسوأ وليس بين جيد وردىء. بما يعنى أنه إذا لم يكن إجراء الانتخابات فى موعدها وضعا مثاليا فإن تأجيلها يضعنا على أعتاب وضع أشد بؤسا.
خلاصة الكلام أنه إذا كان الاعتصام ضروريا وإجراء الانتخابات فى موعدها لازما، فلماذا لا يعتصم الناس وينتخبون فى نفس الوقت، خصوصا نتحدث عن المرحلة الأولى فقط. حتى إذا اقتضى الأمر توزيع اللجان الانتخابية على مقرات مؤقتة فى الميادين التى تجتمع فيها حشود الغاضبين، لكن ذلك كله يظل مشروطا بأمر واحد هو أن تستمر «الهدنة» بين الشرطة والمتظاهرين.
ساحة النقاش