نهيب بكم بعدم سداد فواتير الكهرباء حتى تتم مخاطبة محافظ القاهرة وهيئة النظافة للإسراع فى رفع المخلفات من الشوارع» ـ النداء موجه إلى أهالى قايتباى وبرقوق فى مناطق الدراسة بمحافظة القاهرة، وقد نشرت صورته جريدة الوفد يوم 4/11، إلا أننى تمنيت أن يوجه النداء إلى جميع المصريين الذين يدفعون كل شهر رسوما للنظافة، فى حين أن أكوام القمامة تحيط بهم من كل صوب.
لست أخفى أننى رحبت بالفكرة، ولم أتردد فى الترويج لها لأكثر من سبب، الأول أنه لا يعقل أن يطالب الناس بدفع قيمة خدمة لا يتلقونها، ثم يستمرون فى الدفاع فى استسلام غير مبرر وغير مفهوم. الثانى أن جهاز الإدارة إذا لم يحاسب المسئول عن تقديم تلك الخدمة على تقصيره، فلا أقل من أن يمتنع الناس عن دفع الرسوم المقررة حتى تتعهد الجهة المعنية أن تؤدى ما عليها، وتشرع فى إزالة هذه الوصمة من الشوارع. السبب الثالث أننا بعد الثورة ينبغى أن نتخلص من عقلية الرعية المستكينة التى لا حول لها ولا قوة، فتستقبل ولا ترسل. وتؤدى ما عليها من واجبات دون أن تتلقى أية حقوق. وهى العقلية إذا كانت قد سادت حين كان البلد مختطفا من قبل القلة التى احتكرت السلطة ونهبت الثروة، فقد آن لنا أن نتخلص منها بعدما عادت البلد إلى أصحابها، وأصبح الرعايا مواطنين لهم حقهم فى الكرامة والعزة. كما أنهم كسروا حاجز الصمت والخوف.
ثمة اقتراح آخر أكثر إيجابية مما نحن بصدده. لا يطالب الناس بالامتناع عن سداد رسوم النظافة، ولكنه يدعوهم إلى تجميع أكياس القمامة ووضعها أمام رئاسة الحى أو مقر المحافظة، لكى يرى المسئولون بأعينهم ما يعانى منه الناس. خصوصا أننا نعلم أن هؤلاء المسئولين وغيرهم من «أكابر» البلد ربما سمعوا بالخبر فقط، ولم يروا أكياس القمامة أمام بيوتهم، لأن مسئولى النظافة يحرصون على إبعاد ذلك الأذى عن أعينهم. وربما كانت تلك مهمتهم الوحيدة التى يؤدونها بجدية وإخلاص.
إذا استطعنا أن نجمع بين الاقتراحين فخير وبركة، وإذا وجد البعض هنا أن الثانى منهما يحملهم عبئا لا يقدرون عليه فلا تثريب عليهم. لكنى أزعم أن أضعف الإيمان فى هذه الحالة أن يتوقفوا عن دفع رسوم النظافة. إذ المهم أن يخرج الجميع من حالة الاستكانة والسلبية وأن يدافعوا عن حقوقهم ولا يترددون فى انتزاعها بكل ما يملكون من قوة يحميها القانون.
المثير للعجب أن هذه التلال من القمامة التى نتعامل معها باستهانة وازدراء تمثل ثروة كبيرة يمكن الإفادة منها من خلال إعادة تدويرها واستخدامها فى توفير العديد من المنتجات التى لا تخطر على البال. هذا إذا تعاملنا مع الموضوع بما يستحقه من جدية، وإذا استفدنا من الخبرات العلمية التى حققت نجاحات مدهشة على ذلك الصعيد. صحيح أن بعض تجار القمامة فى القاهرة يحققون مكاسب كبيرة من ورائها، وأصبح بعضهم من أصحاب الملايين، إلا أن المجتمع لم يستفد كما ينبغى من التوظيف العلمى لتلك القمامة. وهو ما نجده مثلا فى أربعة معامل أقامتها الجامعة الأمريكية لإجراء تجارب الإفادة من القمامة والمخلفات الصناعية والزراعية. وما سمعته فى هذا الصدد من الدكتور صلاح الحجار رئيس قسم الهندسة الميكانيكية بالجامعة الذى يشرف على الأبحاث التى تجريها تلك المعامل يفتح الأعين على آفاق واسعة وعريضة فى كيفية استثمار ثروة القمامة التى نتحدث عنها. فقد قال لى إن القاهرة وحدها تنتج يوميا 8 آلاف طن قمامة، وإن كمية القمامة التى تلقى فى مصر سنويا كلها تقدر بنحو 26 مليون طن. وقد نجحت المعامل فى تدوير القمامة بنسبة مائة فى المائة. بمعنى أن القمامة التى تلقى الشوارع يمكن استخدامها بالكامل فى إنتاج سلع أخرى، من ذلك مثلا أنهم نجحوا فى تصنيع جميع منتجات البلاستيك من أكياس القمامة السوداء. واستطاعوا أن يوفروا لها خواص شديدة القرب من البلاستيك الأصلى. كما نجحوا من خلال عملية التدوير فى تصنيع أغطية بالوعات المجارى التى تقام على الأرصفة. بدلا من أغطية الزهر التى يتكلف الواحد منها نحو 900 جنيه، فى حين أن قيمة المنتج الجديد لا تتجاوز عشر هذا الرقم. صنعوا منها أيضا بلاط الأرصفة .. إلخ
ذكر الدكتور الحجار أن تدوير القمامة الذى قطع أشواطا بعيدة فى الدول الصناعية إذا تم فى مصر فإنه يمكن أن يحقق نقلة مهمة. ليس فقط فى مجال التصنيع ولكن أيضا فى فرص التشغيل واستيعاب الأيدى العاملة. أشعرنى كلامه بالحزن والحسرة، لأنه جاء مع اتساع وعمق الفجوة بيننا وبينهم، حيث مازلنا نبحث عن الدولة القادرة على رفع القمامة من الشوارع، قبل أن نتطلع إلى التفكير فى تصنيعها. وألسنتنا تلهج بالدعاء: اللهم إنا لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه.
ساحة النقاش