حلم أم كابوس؟ ذلك هو السؤال المطروح الآن فى دوائر عدة، بعدما أطلت الحالة الإسلامية برأسها فى فضاء الصحوة العربية المشهودة، الأمر الذى استدعى ردودا متباينة، كشفت عن عمق الأزمة التى نواجهها فى الداخل. (1)
الدهشة بدت مثيرة للدهشة. إذ حين سئلت عن دلالة هذه الإطلالة و«المفاجأة» فيها، وهو السؤال الذى يردده عدد غير قليل من الصحفيين الغربيين والإعلاميين العرب، كان ردى أننا يجب ألا نستغرب ظهور الأحزاب التى تعبر عن الهوية الإسلامية فى قلب المجتمعات الإسلامية. وفى حوار تليفزيونى جرى بثه فى الأسبوع الماضى قلت إن ذلك لو حدث فى الفاتيكان أو فى ألمانيا أو فى أمريكا اللاتينية لكان مفاجأة مثيرة حقا، لكنه ينبغى ألا يدهشنا حين يحدث فى العالم العربى، أما لماذا لم يحدث ذلك من قبل فالتفسير واضح وسهل، إذ ينبغى أن نلاحظ أن هذا التطور ظهر بعد سقوط الأنظمة الدكتاتورية، التى قمعت شعوبها وكممتها، ولم تسمح لها بأى تعبير عن ذاتها وهويتها الحقيقية. ولم تكتف بذلك وإنما حرصت على طمس الهوية حين فرضت على مجتمعاتها نخبا إما منفصلة عن تلك الهوية أو معادية لها. فسلمتها مقاليد التوجيه ومنابر الثقافة والإعلام. من ثم فقد اقترن الاستبداد بتزوير الهوية وطمس معالمها. حتى بدا كأننا قلبنا وضعا، وبمضى الوقت ألفنا صورته الجديدة حتى صار تصحيحه أمرا مستغربا.
قال لى أحد الباحثين الأمريكيين إن حضور الجماعات الإسلامية فى الساحة السياسية حدث بعد مقتل أسامة بن لادن، الذى اعتبر رمزا للعنف والاشتباك مع الآخر. إلا أننى اعتبرت ذلك مجرد مصادفة، علما بأن بوادر الربيع العربى لاحت فى الشهر الأول من العام وان بن لادن قتل فى بداية الشهر الخامس، ثم اننى ذكرت محدِّثى بأن الصحوة التى شهدتها المنطقة وطنية بأكثر منها إسلامية، وان الانتعاش الحاصل ليس مقصورا على الإسلاميين وحدهم، ولكنه إعادة الحياة إلى مختلف العناصر والقوى الوطنية التى كانت محاصرة فى ظل الأنظمة الديكتاتورية التى سقطت.
(2)
فى عام 1994 نشر الباحث الفرنسى أوليفيه روا كتابه «فشل الإسلام السياسى» واستند فى توثيق ذلك الفشل إلى تجربة حركة طالبان فى أفغانستان، وإلى التجربة السودانية، وحكم رجال الدين فى إيران، ومنذ أطلق مقولته تلك أصبح عدد غير قليل من الباحثين والمعلقين يعتبرون ذلك الفشل أمرا طبيعيا ومسلَّما به. حتى أزعم أنه ظل العنوان الأكثر جاذبية وحفاوة من جانب أولئك المعلقين والباحثين، فتجاوزت اصداؤه مفعول كتاب الباحث الأمريكى ريموند هير، الذى صدر تحت عنوان «إسلام بلا خوف»، ولفت الانظار فيه إلى نماذج من التفكير الإسلامى المعتدل والنهضوى. كما تجاوزت كتابات البرفيسور جون سبوزيتو (مدير مركز التفاهم الإسلامى المسيحى فى جامعة جورج تاون) التى قدم فيها قراءة أكثر توازنا وموضوعية اعتبر فيها أن الإسلام السياسى ظاهرة مجتمعية طبيعية فى المجتمعات العربية والإسلامية. وكانت تلك الفكرة أوضح ما تكون فى كتابته «الوهم والحقيقة فى الخطر الإسلامى» و«مستقبل الإسلام السياسى».
للكاتب الأمريكى من أصول إيرانية عاصف بايات (كان أستاذا بالجامعة الأمريكية فى مصر) كتاب بعنوان «ما بعد الإسلاموية»، قدم فيه نظرية ارتأى فيها أن الإسلام السياسى يتطور مع تطور المجتمعات التى يتحرك فى محيطها. وقال إن ذلك التيار فى تطوره يأخذ منحى حضاريا بأكثر منه دينيا. الأمر الذى يجعله أكثر تفاعلا مع البيئة التى يتحرك فيها، سواء كانت ديمقراطية أو علمانية.
كل هذه الكتابات ظهرت قل أن يسقط جدار الخوف الذى يذكرنا بسقوط جدار برلين، ومثل أن يتفجر غضب بعض الشعوب العربية فى شهر يناير الماضى. ويستطيع المرء أن يلمس فيها مختلف المواقف الكارهة والمتفهمة والحذرة، لكن أكثر ما يلاحظ المرء فيها أن المتفهمين من الكتاب الغربيين يتابعون بشكل جيد المتغيرات الفكرية فى الساحة الإسلامية، رغم بعد المسافة واختلاف اللغة. ولأن عمر الصحوة العربية الراهنة لا يتجاوز عدة أشهر، فلا أعرف كتبا ظهرت عنها، لكن سيل التعليقات والتحليلات الصحفية لم يتوقف منذ ذلك الحين، معبرة عن ذات التوجهات التى أشرت إليها توا. وقد استوقفنى فى نصوص المتفهمين أربعة تعليقات خلاصتها كما يلى:
● فى 26/10 نشرت صحيفة «لييراسيون» الفرنسية مقالة لبرنار جيتا اعتبر فيها ان نتائج الانتخابات التونسية تمثل تحولا ديمقراطيا واعدا. ومما قاله أن الغرب يعشق تخويف نفسه. ويعتقد كثيرون فيه أن العرب غير مؤهلين للديمقراطية، وان الجمع بين الإسلام والديمقراطية مستحيل، لكن الشعب التونسى اختار ان يصوت لحزب النهضة فى حين أن الأحزاب العلمانية ظلت مشتتة ومتحاربة مع نفسها، كما أنهم الذين خانوا الثورة التونسية ولم يرتقوا إلى مستوى المسئولية ـ أضاف أنه لا ينبغى أن يعد فوز حزب النهضة أمرا كارثيا، لأنهم أعلنوا على الملأ انحيازهم إلى جانب الديمقراطية وحقوق المرأة. وطالما أنهم أعلنوا نبذهم للعنف واحترامهم للتعددية والتغيير السلمى وانحيازهم إلى صناديق الاقتراع، فإن هذه كلها مؤشرات ايجابية تجعل حزب النهضة فى موقف متقدم، يمكن أن يكون له تأثيره القوى لدى بقية الأحزاب العربية.
● فى أول شهر أكتوبر الماضى نشرت صحيفة «واشنطن بوست» تقريرا من القاهرة تحدث ظاهرة «ما بعد الإسلاموية» التى تعكس التطور الحاصل فى الفكر السياسى الإسلامى، ويعد التقرير رصدا للواقع الذى تحدث عنه عاصف بايات فى كتابه الذى سبقت الإشارة إليه. إذ يتحدث عن أن المواجهة القادمة ليست بين الإسلاميين والعلمانيين فحسب، ولكنها أيضا بين إسلاميين محافظين ومتشددين وإسلاميين آخرين منفتحين ومعتدلين. وينقل التقرير عن الباحثين الإسلاميين، الدكتور عماد شاهين فى مصر والدكتور عزام التميمى فى لندن ــ قولهما إن ذلك صراع المستقبل، وان مصر وتونس الآن تعيشان لحظة انعطاف فى مسار الفكر الإسلامى، حيث يتراجع نموذج بن لادن، ويتقدم عليه كثيرا فى الساحة نموذج رئيس الوزراء التركى رجب طيب أردوغان.
● الفكرة ذاتها عرضها وليام ماكنتس فى مجلة الشئون الخارجية «فورين افيرز» ــ عدد سبتمبر أكتوبر للعام الحالى، إذ تحدث عن مواجهة فى الساحة الإسلامية بين «الجهاديين والديمقراطيين».. وهو يصف الأخيرين بالبرلمانيين الذين امتدحهم الكاتب، واعتبر أن المناخ الديمقراطى الذين سمح لهم بالظهور يمثل فرصة ممتازة لتراجع دور جماعات العنف الذين يتقدمهم تنظيم القاعدة، ويصفهم بأنهم «جهاديون»، وهو يعتبر أن حزب النهضة فى تونس وحركة الإخوان المسلمين فى مصر، من نماذج الإسلاميين البرلمانيين، الذين يمكن أن يظهر نظائرهم فى ليبيا وسوريا واليمن.
● باتريك سيل الكاتب البريطانى المختص بشئون الشرق الأوسط نشرت له صحيفة «الحياة» اللندنية (فى 28/10) مقاله تحت عنوان «صعود الإسلام السياسى فى الشرق الأوسط»، ومما ذكره أن بعض الدوائر الغربية وأناسا من الديمقراطيين والعلمانيين يعبرون عن خوفهم من ذلك الصعود الذين يعتبرونه تهديدا لحرياتهم وطريقة عيشهم. «لكن من المؤكد أن هذه المخاوف مبالغ فيها، إن لم يكن لا أساس لها، أقله فى معظم البلدان العربية». وقد دعا فى مقاله إلى الاطمئنان إلى فوز المعتدلين فى التيار الإسلامى، ونبه إلى أهمية عدم الخلط بينهم وبين غيرهم من السلفيين المتشددين. أضاف فى هذا الصدد أن الحركات الإسلامية تتفوق على غيرها فى أنها أوضح تعبير عن الهوية الإسلامية، كما أنها تلبى شوق شعوب المنطقة إلى إقامة نسخة إسلامية من العدالة الأجنبية المتحررة من الوصاية الأجنبية.
(3)
الملاحظة التى لا يستطيع المرء أن يتجاهلها ان المتفهمين والمنصفين من الكتاب والباحثين الغربيين. أكثر منهم فى العالم العربى، على الأقل فذلك انطباع شخصى خرجت به مما وقعت عليه من كتابات خلال الأسبوعين الأخيرين. ذلك أننى أزعم أنه فى تلك الفترة لم اقرأ نصا ايجابيا لأحد من الكتاب العلمانيين، سواء عن فوز حركة النهضة فى تونس، أو عن انخراط التيارات الإسلامية فى العملية السياسية وخوضهم معركة التعددية. بما فى ذلك «الجهاديون» الذين انحازوا فى الماضى إلى العنف وسوغوه، أو السلفيون الذين خاصموا المجتمع وسفهوه أو كفروه، وجل ما وقعت عليه إما كان غمزا ولمزا وتخويفا وتحذيرا، أو كان إنكارا لحقائق الواقع، من قبيل الادعاء فى الحالة التونسية مثلا ان الناس صوتوا للتغيير وليس للدين، أو أنه صعود للطبقة الوسطى وليس للإسلاميين (باتريل سيل قال كلاما أكثر انصافا). قرأت كذلك لمن كتبت أن ما حدث فى تونس مفاجأة فاجعة، ولمن حذر من أن السلفيين الجهاديين عادوا إلى أوطانهم تاركين خصومة حلف «الناتو» وراءهم. وهو مقال نشرته جريدة الحياة اللندنية فى 30/10 ويدور محوره حول التشكيك فى نوايا رموز الحركات الجهادية الذين اشتركوا فى العملية السياسية، ولا يقل عنه سوءا مقال آخر نشرته الشرق الأوسط فى 1/11 تحت عنوان «المتأسلمون قادمون على موجة المال السياسى». وهو من قبيل عرائض الاتهام التى تحاكم الإسلام السياسى فتسخر منه وتشكك فى نواياه، ولا تستثنى أحدا، استثنى مقالة لأحد المثقفين العلمانيين الأصوليين نشرته صحيفة الشرق الأوسط فى 28/10، وفرق فيه كاتبه الأستاذ هاشم صالح بين أصولية منفتحة وأخرى منغلقة، ودعا فيه إلى عدم التسرع فى الحكم على تجربة الإسلاميين فى تونس، حيث قال ما نصه: لقد سارع قادة النهضة إلى التصريح بأنهم سيضمنون للحريات العامة وحقوق المرأة. ولن يتراجعوا عن قانون الأحوال الشخصية الذى سنه بورقيبة والذى هو الأكثر تحررا فى كل أنحاء العالم العربى. فماذا نريد من ذلك؟ كما رحبوا بالتعاون مع الأحزاب اليسارية أو العلمانية التى تقبل بالتشارك معهم لقيادة تونس الجديدة وإذا ما نفذوا عمليا تصريحاتهم هذه فلا أعرف لماذا نظل نلاحقهم بتهمة الأصولية والعنف والإرهاب؟.
الصحف المصرية حافلة بالكتابات المسكونة بالشك والداعية إلى التخويف والاستنفار ذلك غير سيل الأخبار اليومية التى تتصيد كلمة قالها واحد هنا أو حماقة ارتكبها آخر هناك، لتحولها للغم يروع الجميع وتهمة تنسب إلى كل من ينسب إلى الإسلام السياسى وسُبَّة فى جبين الذين يوحدون الله.
المقلق فى الأمر أن هذه المرارات التى تحجب الانصاف وتحول دون تحقق الرؤى المتوازنة والرصينة لم يسلم منها بعض المثقفين المحترمين، الذين نراهم غاية فى الهدوء والاعتدال حين يتناولون أى قضية. لكنهم يفقدون أعصابهم ويتحولون إلى كائنات أخرى حين يتعلق الأمر بالتيار الإسلامى أو فصائل الإسلام السياسى.
إن أى باحث جاد يستطيع أن يرصد تطورات بالغة الأهمية ومتقدمة للغاية فى ساحة الفكر السياسى الإسلامى بوجه أخص. التى انحازت كلها إلى صف التعددية السياسية واحترام الآخر والتوافق معه، إلى جانب تأصيل حقوق المواطنة والمساواة مع المرأة فى الحقوق والواجبات، إضافة إلى احترام الحريات العامة وحقوق الإنسان، وغير ذلك من القيم العليا التى يعتبرها الدارسون «مقاصد شرعية».
المحزن فى الأمر أن الهوة العميقة التى تفصل بين الطرفين العلمانى والإسلامى تزداد اتساعا حينا بعد حين، وحين يحدث ذلك فى أجواء التحولات التاريخية التى نعيشها فإنها لا تعدو مشكلة بين فصيلين سياسيين متخاصمين، وإنما تصبح عقبة تحول دون تقدم الأمة فتمزق شملها وتهدر طاقاتها. وإذا لم يدرك المثقفون ذلك، فإننا لا نستطيع أن نطالب به عوام الناس وبسطاءهم. ان خطر الانقسام والاستقطاب الذى يهددنا من الداخل أشد خطرا من أية تحديات أخرى تهددنا من الخارج.
ساحة النقاش