جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
الدم الفلسطينى المنسى
حين قتل الإسرائيليون 11 فلسطينيا يوم الخميس الماضى. بحثت عن الخبر فى ست صحف مصرية صدرت صبيحة اليوم التالى (الجمعة 26/8). ولاحظت أن صحيفتين فقط ذكرتا الخبر على إحدى الصفحات الداخلية. فى حين لم تشر إليه الصحف الأربع الأخرى. إذ كان تركيزها منصبا على تطورات الموقف فى ليبيا والقمع الحاصل فى سوريا، إضافة إلى اللغط والتراشق بين الجماعات السياسية فى مصر.
لم أفاجأ بمستوى التعامل الإعلامى مع الشأن الفلسطينى والعدوان الإسرائيلى. ذلك أن قتل الفلسطينيين أصبح خبرا عاديا ليس فى مصر وحدها، وإنما فى العالم العربى أيضا.
كأنما اقتنع الجميع بأن الفلسطينى كائن خلق لكى يقتل، وأن الخبر الحقيقى، الذى يستحق التسجيل، ويثير الانتباه أن يبقى الفلسطينى حيَّا. وهذا الانطباع جعل مشهد الجنازات فى شوارع وكأنه جزء طبيعى من انتظام حركة السير يتدفقه على مدى النهار. وليس ذلك أمرا مستغربا تماما. فمنذ اختلت الأولويات فى العالم العربى، وخرجت مصر من المعادلة بمعاهدة «السلام» انكفأ الجميع على ذواتهم، ولم تعد فلسطين قضية العرب الأولى ولا المركزية بطبيعة الحال، وبصورة تدريجية تراجع الخبر الفلسطينى، وظل ينسحب إلى الصفحات الداخلية، وفى بعض الأحيان يغيب تماما عن الواجهة حتى يكاد يغرق فى بحر النسيان.
أدرى أن «الربيع العربى» شغل الجميع، وأن أحداثه وأصداءه المثيرة صرفت الانتباه عن كل ما عداه. وكما مر انفصال جنوب السودان عن شماله، ولم يحرك شيئا فى العالم العربى، وكما استمر مسلسل تآكل العراق وتقطيع أوصاله تحت أعين الجميع، وكما وقف العرب يتفرجون على المجاعة فى الصومال تماما، كما وقفوا متفرجين على حصار غزة، فإن الانقضاض الإسرائيلى على الفلسطينيين استمر واشتد مستثمرا حالة الذهول والغيبوبة المخيمة على العالم العربى.
الأدهى من ذلك والأمر أن السلطة الفلسطينية فى رام الله لم تعد تتحدث حتى عن استعادة الأرض، التى تم احتلالها فى عام 1967. التى تشمل كامل الضفة الغربية وغزة، وإنما باتت «تناضل» لتقيم دولة فلسطينية، وترفع علمها على 20٪ من أرض فلسطين تشمل المنطقة «أ» فقط من الضفة، فى مشروع الاستقلال، الذى تنتوى تقديمه إلى الأمم المتحدة فى الشهر المقبل.
قلت أن التراجع فى الاهتمام بالقضية بدأ بخروج مصر من المعادلة منذ وقعت المعاهدة المشئومة فى عام 1975، مما أدى إلى إضعاف الصف العربى والفلسطينى ضمنا، الأمر الذى أدخل الجميع فى نفق المساومة على القضية وشجع الإسرائيليين على الاستعلاء والتغول والسعى الحثيث إلى تصفيتها وإغلاق ملفها إلى الأبد. وبلغت المأساة إحدى ذراها العالية حين اجتاحت إسرائيل غزة فى ظل صمت مصرى مدهش ومريب، ثم حين اشتركت مصر فى حصار غزة على النحو المفجع والمخزى الذى يعرفه الجميع.
كما رأيت فى النموذج الذى أشرت إليه فإن الغيبوبة أصابت الإعلام العربى أيضا، والنخب بوجه أخص، التى اختلت لديها الأولويات بدورها، ولم تعط ممارسات الاحتلال الإسرائيلى حقها من المتابعة، التنبيه ليس فقط إلى ما تمثله من خطر يمهد لتصفية القضية وسحق الفلسطينيين، ولكن أيضا إلى ما تمثله تلك الممارسات من تهديد للأمن القومى المصرى وللأمن والسلم فى المنطقة بأسرها.
إزاء ذلك، يبدو أن مراهنتنا ينبغى أن تظل قائمة على وعى الشعوب وصوت الشارع فى مصر بوجه أخص، ذلك أن الغضب العارم، الذى اجتاح الشارع المصرى فى الأسبوع الماضى بعد قتل الإسرائيليين للجنود المصريين جاء كاشفا عن عمق المشاعر الرافضة للممارسات الإسرائيلية، وهى المشاعر التى حاول بعض الشباب المصريين التعبير عنها فى ذكرى النكبة (مايو الماضى)، حين اتجهت جماعات منهم صوب مقر السفارة الإسرائيلية بعد نجاح الثورة مطالبة بإغلاقها وطرد السفير الإسرائيلى.
إن الإيجابية الوحيدة للغارات التى شنتها إسرائيل على غزة أنها ذكرتنا بأن الربيع العربى سيظل منقوصا ما دام الاحتلال مستمرا لفلسطين وما دام دم الفلسطينيين ينزف فى شوارع غزة وأزقتها. كما ذكرتنا بأن الخطر الذى يهدد الوطن العربى ليس الاسبتداد وحده وإنما الاحتلال أيضا.
المصدر: الشروق / بقلم : فهمي هويدي
ساحة النقاش