لماذا الخوف فى المشرق؟
يواجه الطموح إلى التغيير فى الواقع العربى، والذى يتخذ شكل انتفاضات شعبية، مشكلات جدية لم تهيأ قواه متباينة الاتجاهات السياسية والمنابت الفكرية ذاتها لمواجهتها.
لا الانتفاضات موحدة المنشأ، فكريا وسياسيا، اقتصاديا واجتماعيا، ولا الحلول جاهزة، ولا توصيف المشكلات واحد.. والوقت أضيق من أن يتسع لإدارة نقاش مفتوح بين القوى متباينة المواقف من اجل التفاهم على قاعدة الحد الأدنى، تمهيدا لقيام جبهة وطنية تستطيع تحويل الانتفاضة إلى سلطة مؤهلة لقيادة التغيير نحو أهدافه الكاملة.
ذلك أن الأنظمة التى جرى أو يجرى اقتلاعها بزخم الجماهير التى كانت مستكينة فتحررت من خوفها ونزلت إلى الشارع، قد حكمت وتحكمت بالبلاد دهرا فمسخت القيم وزورت الشعار وحقرت العمل الشعبى بالقمع أو بشراء القيادات أو بنفاق الجماهير فى مطالبها الحقيقية تمهيدا لتزويرها.
وإذا كانت وحدة مصر ثابتة بقوة كيانها وتماسك مكونات شعبها فإن دولا أخرى كالتى فى أقطار المشرق العربى تفتقر إلى تاريخية كيانها واستقراره جغرافيا، فضلا عن تنوع المكونات والجذور والهويات المختلفة للعناصر التى اندمجت بقرار سياسى، مصدره الخارج فى الغالب الأعم، فى كيان سياسى موحد لا فرق فى أن يكون نظامه جمهوريا أم ملكيا..
إن سقوط النظام فى بلد صلب التكوين التاريخى والجغرافى والاجتماعى لا يهدد الدولة، أو على وجه التحديد وحدة الشعب.. وبالتالى الكيان السياسى.
أما فى دول المشرق عامة، كالعراق وسوريا والأردن ولبنان وصولا إلى دول الجزيرة والخليج فإن اضطراب الكيان السياسى قد يذهب بالدولة.. هذا من قبل زرع الكيان الإسرائيلى فى قلب هذه المنطقة، فلسطين، وعند خط التواصل بينها جميعا.
ذلك أن الكيانات السياسية لهذه «الشطور» التى صيرت دولا قد أنشئت بقرار من خارجها فرضه الاستعمار القديم غالبا... وعندما عجز الشعب المعنى عن إسقاطه أو تجاوزه إلى حلم استعادة وحدة الإقليم، اضطر إلى التسليم به كأمر واقع.
وعلى سبيل المثال:
لم تكن بلاد الشام (أو سوريا الطبيعية) دولة واحدة، بالمعنى المألوف لكلمة الدولة، فى أى يوم... ولكنها كانت ــ بالنسبة لأهلها، كما بالنسبة للعالم خارجها ــــ مشروع وحدة جغرافية ــــ بشرية تاريخية كاملة.
كان فيها العرب العاربة والعرب المستعربة والكرد والسريان والآشوريون وبعض بواقى الفرس والسلاجقة والتتار والمغول والترك، ثم أضيف اليها الأرمن، فى أوائل القرن الماضى... أما الأديان والطوائف والمذاهب فكان إلى جانب الأكثرية السنية من يمثل الأرثوذكس والكاثوليك والشيعة والعلويين والدروز والإسماعيليين واليزيديين والصابئة ... إلخ.
ثم إن هذه البلاد لم تعرف الدولة بمعناها الحديث فى أى حقبة من تاريخها لا فرعون قبل آلاف السنين، ولا «محمد على» قبل مائتى سنة.
صحيح أن بعض مدنها (بابل، دمشق، ثم بغداد) كانت فى الماضى القديم عواصم لإمبراطوريات عظيمة، ثم صارت دارا للخلافة التى تحولت إلى إمبراطوريات إسلامية وممالك مقتتلة يتحالف بعضها ضد البعض الآخر حتى مع التتار والصليبيين، لكنها لم تكن أبدا عواصم لدول، بالمعنى المتعارف عليه لكلمة دولة: شعب واحد أو غالبية شعبية كاسحة مع مجموعة من الأقليات المتعايشة والقابلة بالدولة ونظامها، حتى لو كان لها مطالب تتوجه بها إلى الدولة من داخلها وليس من خارجها.
فلما عرفت هذه المنطقة «الدولة» عرفتها كقرار اتخذ خارجها وفرضه عليها الاستعمار الغربى بالتحديد، على حساب وحدة الشعب والأرض والتاريخ.
وفيما يعنى المشرق العربى فإن دوله لم تقم عبر استفتاءات شعبية أو بالاستناد إلى حقائق تاريخية أو حتى إلى واقع جغرافى، بل هى قامت بقرار فرضه الاستعمار الغربى عندما احتل هذه المنطقة فى الحرب العالمية الأولى ليرث فيها الاحتلال التركى الذى غلفته السلطنة العثمانية بالإسلام.
إن المرجعية السياسية ــ التاريخية لدول مثل العراق وسوريا والأردن ولبنان وفلسطين هى معاهدة سايكس ــ بيكو، بين الوريثين البريطانى والفرنسى للمستعمر التركى السابق.
ولقد استكمل البريطانيون، منفردين، هذه المعاهدة التى قسمت بلاد الشام ممالك ودوقيات طائفية وإمارات عشائرية بوعد بلفور بإقامة دولة يهودية (لم يكن لها وجود فى التاريخ) على أرض فلسطين.
على هذا قُطْعت بلاد الشام خمس دول، وفقا لتوازنات القوة بين الاستعمارين البريطانى والفرنسى. ومعروف أن الاحتلال البريطانى كان يضع يده، من قبل الحرب العالمية الأولى على بعض العراق وبعض شبه الجزيرة العربية والخليج العربى وصولا إلى جنوب اليمن حيث كانت اكبر قواعده فى عدن.
من قبل، كان «جبل لبنان» قد حظى بكيان سياسى خاص، نتيجة فتنة طائفية مدبرة بين أهله وهكذا استولد الغرب «المتصرفية» التى تعين لها دول حماية الطوائف «متصرفا» من بين الرعايا المسيحيين للسلطنة (ولذلك كانت الغالبية الساحقة من المتصرفين من الأرمن) يعاونه مجلس إدارة محلى بطابع مسيحى غالب وشراكة إسلامية ضعيفة.
إذن، كانت سوريا الطبيعية تمتد ما بين البحر الأبيض المتوسط وحدود الرمل فى الجزيرة والخليج مع تواصل برى مع مصر، وبحرى عبر خليج العقبة وبعض البحر الأحمر.
على أن معاهدة سايكس ــ بيكو قد وزعت سوريا الطبيعية على المستعمريْن الجديدين، البريطانى والفرنسى، ثم إنها قطّعتها إلى مجموعة من «الدول» التى لا تستطيع واحدة منها أن تعيش بشكل طبيعى: اقتطع بعض سوريا الطبيعية ليكون مملكة هاشمية تحت الانتداب البريطانى (العراق)، واقتطع بعضها الجنوبى ليكون إمارة هاشمية تحت الانتداب ذاته (الأردن) فى حين (أقصيت) فلسطين تماما ليهيئها الاحتلال البريطانى لتكون دولة إسرائيل، تحقيقا لوعد بلفور عام (1917).
حتى ما صار يعرف باسم سوريا فإن الفرنسيين حاولوا تقطيعها إلى أربع دول طائفية، قبل أن يتواطأوا مع أتاتورك الذى كان قد ألغى السلطنة وأقام الجمهورية فيعطوه «لواء الاسكندرون».
ومن دون دخول منهك فى التفاصيل التاريخية وفى القرارات الجغرافية المفروضة بالأمر، تتبدى طبيعة التنوع فى هذه المجتمعات التى لا تطمس أكثرياتها العربية (السنية) حقيقة اشتمالها على مجموعات من الأقليات العرقية والدينية والطائفية والمذهبية التى كانت إقامة الدولة شرطا لاستيعابها فى كيانات سياسية مستولدة حديثا، ومعظمها لا يملك مقومات الحياة.
إن عمر «الدولة» القائمة الآن فى كل من العراق وسوريا والأردن ولبنان أقل من قرن... وعمر «الاستقلال السياسى» لكياناتها لا يزيد على ستين سنة، مع الأخذ بالاعتبار أن هوية هذه الكيانات لا تتصل دائما بهوية رعاياها.. فنكبة فلسطين قد حولت الإمارة الهاشمية فى الأردن إلى مملكة، وجعلت الفلسطينيين فيها أكثرية، قياسا إلى بدو الأردن، لكن قوة الكيان والوظيفة السياسية المناطة بدولته همشت الفلسطينيين المتهمين دائما بنقص الولاء للعرش الهاشمى، لارتباطهم بقضية التحرير، مؤكدة مرة أخرى أن الكيان هو الأقوى، لأنه قرار من يملك القرار فى الغرب، لا يهم أن يكون قد صار امريكيا إسرائيليا بعد أن كان بريطانيا ــ إسرائيليا.
ربما لهذا كله يخاف أهل المشرق من أن ترتد الانتفاضات على الواقع الجيو ــ سياسى للكيانات القائمة، فتنتهى إلى حروب أهلية بين أديان وطوائف وعناصر ومذاهب وأعراق لم تنجح «الدول» التى أنشئت على عجل فى توحيدها وصهرها شعبا واحدا يرتضى كيانه السياسى كوطن نهائى.
وربما لهذا يخاف أهل المشرق من أن تنهار الكيانات السياسية فتمهد ليس فقط لعودة «الاستعمار الجديد» بل لأن تكون «إسرائيل» هى الدولة الوحيدة فى هذا المشرق، الذى لا يقصر أهل نفطه فى البذل من اجل ضرب احتمال قيام دول قوية فيه، بما يكشف أنها ــ هى الأخرى ــ لم تكن دولا ولن تكون دولا فى أى يوم... وإنما هى محميات غنية ترحب بحماتها الذين يتركون لها من أسباب الثروة ما يغنيهم عن الدول وصراعاتها العديدة، وعن الهم العربى كله.
ومازلنا فى بداية البدايات على الطرق إلى اقتحام الصعوبة لتحويل الكيانات إلى أوطان والرعايا إلى شعوب تقيم دولها وتحميها بإرادتها.
ساحة النقاش