أبحاث وفكر

أبحاث منطقية في القرآن الكريم، وموقف القرآن من قضايا العادات الموروثة

الخلقُ السَّبَبِي

".. فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ{11}" فصلت41

نلاحظ أنه عند حدوث جريمة ما، تجمع أجهزة العدالة الشواهد، وتستقرئها لتحديد أدلة الاتهام لتقديم المتهم للمحاكمة، وفي سبيل ذلك تُعْمِلُ المَنْطِقَ بحثا عن الحقائق، وكل هذا انطلاقا من مبدأ أن لكل شيء سبباً، ولو كان الإنسان لا يؤمن بهذا المبدأ، لضاعت حقوق، وزُهقت أنفس، بلا تعويض للمجني عليهم، أو ردع للجناة.

وهناك بعض الناس يظنون عكس هذا المبدأ، فعندهم ليس هناك ضرورة لارتباط إرادة الله بمبدأ السببية، انطلاقا من الاعتقاد بأن الله على كل شيء قدير، وذهب ظنهم إلى أن قدرة الله تقتضي عدم سببية نواتج إرادته، أي عدم ارتباط المسبَّب بالسبب، وفسروا الشواهد الدالة على أسبابٍ ظاهرةٍ على أنها نشأت بحكم العادة، وليس بحكم الضرورة، ويقولون قولا يشبه أننا تعودنا أن نضع كوبا على موضعه ولا يتغير وضعه إلا إذا فعَلَت به ذلك قوةٌ أخرى، ولكن من الممكن ألا نجده في نفس الموضع، والنار لا تحرق إلا بحكم العادة، ومن الممكن ألا تحرق، وضربوا أمثلة من الخوارق على أنها أدلة لما وصلوا إليه من ظن.

فهل ما ذهبوا إليه حقيقة؟ أم مجرد رأي بني على خطأ؟!.. وهل دنيانا التي نحياها سببيةٌ في إدارتها؟

وأَدَعُ القرآنَ يقول كلمته:-

".. فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ{11}" فصلت41

في الآية السابقة.. نجد التعبير (طَوْعًا)، والتعبير (كَرْهًا)، وللتعرف على معنى التعبيرين نستعرض معا الآية:-

"وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ{15}" الرعد13

فكيف السجود طوعا؟، وكيف السجود كرها؟

السجود هنا ليس سجود النسك كما في الصلاة، وإنما هو الإذعان والخضوع الشامل، كما تدل عليه الآيات الآتية:-

"أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ{45} أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ{46} أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىٰ تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ{47} أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَىٰ مَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ[1]{48} وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ{49} يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ{50}" النحل16

وعلى ذلك فالسجود هنا هو الرضوخ التام، بل والمطلق لله، ودون اعتبار للوعي، بمعنى أن الساجد سواء علم بسجوده أو لم يعلم فهو ساجد أو راضخ أو مذعن لأمر الله.

والآية السابقة 15 الرعد13.. ذكرت كلمة (مَنْ) التي تفيد بأن الخطاب للعقلاء، وهم يتميزون بالاختيار الحر[2]، ولذلك فإنه يوجد احتمالان عند صدور أمر تشريعي إليهم من الله، أحدهما أن يطيع الفرد العاقل هذا الأمر، والاحتمال الآخر هو أن يرفض الطاعة، ففي حالة أن يكون الفرد منفِّذا باختياره الأوامر التشريعية لله وحده دون [شرك][3]، فهو في هذه الحالة ساجد لله طوعا، أما إن اختار الفرد رفض التشريعات الإلهية، وظن أنه حر طليق بعيد عن الله[4]، وهو في الواقع ليس كذلك، حيث أنه وُجِد في الحياة دون إرادته، ويموت دون رغبته، ويُبْعث رغم أنفه، ويُحاسب ويُعاقب بغير رضاه، فيكون بذلك ساجدا لله كرها.

ويمكن أن نقول بأن الفرد الساجد طوعا، هو الذي يختار [طاعة] الله، والفرد الساجد كرها، هو الذي يختار عصيان الله.

أي إن اتفقت إرادة المخلوق مع [الإرادة] التشريعية لله، فالسجود طوعي مع الإرادة العليا لله التي تَقهر ولا تُقهَر.

وإن اختلفت إرادة المخلوق مع الإرادة التشريعية لله، فالسجود كرهي مع الإرادة العليا لله التي تَقهر ولا تُقهر أيضا.

ولمزيد من التفصيلات حول الإرادة التشريعية والإرادة العليا، اقرأ في التعريفات الاشتراطية لتعبيرات القرآن الكريم.

ونلاحظ أن الله -سبحانه وتعالى- لم يذكر التعبير (طوعا وكرها) في الآيات التي ذكرت السجود لغير العقلاء والملائكة في الآية 49 النحل16، لأن السجود هنا لفئة لا تملك الاختيار حول {الإرادة التشريعية} كالإنسان، راجع الشكل المرافق لتعبير الإرادة.

وبالعودة مع الاستنتاج السابق إلى أمر الإتيان طوعا أو كرها للسماء والأرض، نجد أن الرد جاء "قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ".

فيعني هذا الرد أنه يوجد اتفاق بين إرادة السماء والأرض للتواجد من جانب، وبين {إرادة الله التنفيذية} من جانب آخر، فماذا يعني اتفاق الإرادتين؟ وماذا كان يحدث لو كانت الإرادتان اختلفتا بالاحتمال الآخر لو قالتا (أتينا مُكْرَهين) مثلا؟

نحاول أولا إخراج معنى [الإرادة] لغير العاقل كالجماد، والآية الآتية فيها غايتنا:-

"فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ ۖ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا{77}" 77//الكهف18

والجدار جماد غير عاقل وإرادته للانقضاض من الواضح تماما هنا أنها أسباب الانهيار، كالميل والتهرؤ والشروخ.

ولكي تتكون [إرادة] تواجد السماء والأرض؛ يجب تكوين أسباب هذا الوجود، واتفاق أسباب وجودهما مع [إرادة] الله التنفيذية؛ أو اختلافها، لم يكن مانعا اللهَ من إيجادهما طبقا لمقتضى [الإرادة] المشيئية القاهرة، حيث قال "ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا"، فالإيجاد لهما أمر حتمي، كما سبق في مبدأ الحتمية، ولكن هذا الإيجاد له احتمالان انطلاقا من حقيقة القدرة المطلقة لله، الاحتمال الأول هو الإتيان طوعا أي أن الإرادتين متفقتان، بمعنى أن أسباب إيجاد [السماء] و[الأرض] متفقة مع {إرادة الله التنفيذية}، والاحتمال الآخر، هو الإتيان كرها بمعنى أن أسباب إتيانهما لا تتفق مع {إرادة الله التنفيذية}، ومع هذين الاحتمالين، ومع قدرة الله المطلقة على أن يفعل ما يشاء منهما، فقد بيَّن الله القدير أن الخلق للسماوات السبع قد حدث بالاحتمال المُبَيِّن أن الإرادتين اتفقتا، حيث قيل "أَتَيْنَا طَائِعِينَ"، وليس بالاحتمال الآخر، وليس بالخلط بين الاحتمالين.

والإيجاد للخلق مع كون الأسباب متفقة مع إرادة الله التنفيذية معناه سببية الخلق، أي أن أي باحث في أي فرع من فروع العلم، حتى الخوارق، سوف يجد دائما حلقات الأسباب متصلة على هيئة دائرية بمعنى أن البداية هي النهاية والنهاية هي البداية من جديد وهكذا، مهما طالت سلسلة الأسباب وتعقدت.

أما إن خلق الله الكون بدون اتفاق الأسباب مع إرادة الله التنفيذية فهذا معناه أن مبدأ اللاسببية هو الذي يعمل وتكون النتائج مقطوعة عن أسبابها (وهذا حادث بالفعل مع السماوات العلا -الأكوان من النوع الثاني- وليس في السماوات السبع -الأكوان من النوع الأول- التي نحن في أحدها)، والباحث لن يصل إلى شيء يفيده في بحثه ولن يكون لأي بحث معنى، ويمكنك مثلا أن ترى في وقت معين شجرة وبعد قليل لا تجدها، ويمكن أن ترى رجلا لم يكن طفلا من قبل، وهكذا، وقد نادى بعض المفكرين بهذا المبدأ (مبدأ اللاسببية)، وعلى رأسهم <الإمام الغزالي> في كتابه تهافت الفلاسفة -حيث قال بأننا اعتدنا على أن نرى النتائج مرتبطة بأسبابها ولكن هذا غير حقيقي وضرب مثلا وهو عدم حرق النار لإبراهيم حينما حاول قومه حرقه- ولم يعجب هذا الرأي <الإمام ابن رشد>، فرد عليه في كتابه تهافت التهافت -حيث بين أن عدم وجود أسباب معناه غياب المنطق وتوقف الفكر-، ولكلٍّ وجهة نظره، ولكن للقرآن الرأي الأخير دائما بشرط أن يكون فهمه صحيحا. وقد قال بنفي السببية أيضا <ديفيد هيوم>.

وقرار الله -سبحانه وتعالى- أن يكون الخلق سببيا، هو رحمة كبرى للإنسان، فابحث ما شئت، سوف تجد دائما أن النتائج لها أسباب متصلة لا انقطاع لها[5] إلا بسبب عدم العلم بها، وابحث عن كيفية بدء الخلق، وسوف تعلم كيف بدأ الله الخلقَ، بالبحث لا بالخرافات، وبالعلم لا بالجهل وعدم العلم.

"أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ{19} قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{20}" العنكبوت29

 


[1] أذلاء لله وتحت قيادته.

[2] راجع تعبيرات الإرادة والاختيار والجبر في "التعريفات الاشتراطية لتعبيرات القرآن الكريم"

[3] الشرك هو الطاعة المطلقة لغير الله- راجع "التعريفات الاشتراطية لتعبيرات القرآن الكريم"

[4] اقرأ في التعريفات الاشتراطية عن الإرادة والقهر.

[5] مثل الدورات التي ذكرتها من قبل كدورة حياة الفراشة أو دورة الأكسيجين وثاني أكسيد الكربون وغيرها، كلها أسباب متصلة حلقيا، ولولا وجود نتائج مرتبطة بأسبابها ما علمت المحاكم من المذنب ومن البريء وما أقيم عدل، وما حاسب الله أحدا على أي شيء سواء كان شرا أو كان خيرا، وما فكر مفكر وأخرج شيئا مثمرا، فالفكر سببي وهو خير دليل على وجود مبدأ السببية.

 

SaidAM

عدم تعريف الألفاظ يربك القارئ

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 108 مشاهدة
نشرت فى 10 مارس 2017 بواسطة SaidAM

سعيدعبدالمعطي حسين عبدالمعطي

SaidAM
مواطن مصري يحب بلده، ويحب العالم كله، له فكر مستقل حر، درس القرآن منذ عام 1967م وحتى الآن، له العديد من المؤلفات والاختراعات الهندسية الالكترونية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

47,800

تعريفات التعبيرات

عندما يكتب معبرٌ ما نصًا؛ ولا يُعَرِّفُ معاني تعبيراتِه يُصبحُ النصُّ كلُّه غامضًا.