لماذا الأن ..الأن يحدث لي ؟
هذه الفكرة ظلت تراوده في معركته الأولى , قد يكون يفكر في امور أخرى لكن هذه الفكرة هي المسيطرة , هذا ما قد حدث ! لم يكن في وسعه أن يفعل شيئا ...
كان مجاهد يحاول أن يركض ليكو ن جنبا إلى جنب مع زملائه من قوات العاصفة الذين كانوا يسيرون وهم يحملون بنادقهم وأصابعهم في حالة استعداد وهي تحمل الغضب , وكان قائدهم يشير إليهم ببندقيته وهو يحملها فوق رأسه بالتقدم .. كانوا يعرفون انه لا بد من السرعة قبل أن تستعد قوات الاحتلال , لأن زخات الرصاص لا يمكن إلا أن تكون قد نبهتهم . لم يحدث الهجوم المفاجئ الذي كانوا قد دبروا له , ولم يكادوا يصلوا إلى القرية حتى سمعوا صوت الطلقات خلفهم دون معرفة مصدرها . كان مجاهد يسير في المؤخرة , أحس وكأن سكينا قد شق ظهره .. صرخ من الألم , لكن صرخته كانت مملؤة بالغضب " الأوغاد " وسمع إخوانه صرخته الغاضبة ولكنهم لم يشعروا بما رافقها من الم . حاول مجاهد أن يخفف من آلامه فأخذ يجري وهو يشعر شعورا غريبا بأنه تفصل بينه وبين إخوانه ساعة من الزمن , وأن هناك شيئا يجعله بعيدا عن إخوانه , هو كتمانه لما حدث ...
ظل يركض والرصاصة ما تزال في جسمه ولكن بما انه ما زال قادرا على الركض فلا شك أن العظام سليمة , من حسن حظه أن الدماء لم تكن تظهر على بنطلونه لكنها كانت قد انزلقت إلى قدمه وحذائه في لحظات شعر أن قلبه يكاد يتوقف " هل يمكن أنني ؟ كلمات فظيعة إلى درجة انه ما زال في الخامسة عشرة من عمره , ولم ينضم للمقاومة إلا منذ شهرين فقط .
وأخرجه صوت رقيق من أفكاره .. مجاهد .. لماذا تتمهل هكذا خلفنا ؟ وضغط على أسنانه , حاول أن يلحق برفاقه , يمكن رفيقه قد لاحظ , لماذا شردت بأفكاري , لا يهم لا بد أنه ظن أنني تعب .. يجب ألا أقول لهم الحقيقة لأنهم سيدعونني بالعودة . كان حلمي الانضمام إلى قوات العاصفة , فلنفرض أنني أخبرتهم .. سيتركونني خلفهم لا .. لا داعي لأن يقلقوا علي إذا علموا بأنني مجروح , انه تصرف حسن , مجرد مناضل جديد أصيب لا أحد أخر , لكن يجب ألا أعمل على تعطيل الهجوم الذي سيشترك فيه الجميع ..
رجلي تؤلمني إنها متورمة , الدماء تنزف , الظلام يخيم سأدبر أمري وهرولوا إلى ساحة القرية وانطلق الرصاص كسيل جارف على مركز قوات الاحتلال , انطلقت عليهم رصاصات مضادة , وصاح بهم قائد المجموعة وهو يرمي بنفسه بين النيران .. أطلقوا رصاصكم على هذه الحشرات ..
حواس مجاهد أيقضها تبادل النيران .. احتمى خلف ساتر من الحجارة , انه موقع ممتاز يستطيع أن يصوب منه . طلقات النيران الكثيفة تبادلها الفريقان , كان أفراد المجموعة ستة فقط .
امتلاء الجو بالدخان ورائحة البارود .. نسي مجاهد جراحه وهو في موقعه , صرخات إخوانه في المجموعة وكرهه للعدو ملأت قلبه .. كما ملأت الدماء حذائه .. شعر بأنه قوي أقوى مما كان طيلة حياته , أخذ يطلق النار بشراسة .. خذ هذه أيضا وهذه .. تصاعد شعور من الفرحة المنتصرة إلى قلبه , شعور كالحمى أخذ يرفعه فوق فوق , قبل ذلك كان الصمت سلاحك في مركز قيادة الاحتلال , لقد وقف هناك مرة بقلب مكسور ليس بسبب اعتداء جنود الاحتلال وضربهم له بل لشعوره بالعجز .. أن لا يقدر أن يقف في مواجهتهم رأسا برأس .
أمرضه الغضب , فها هو الآن ومع كل طلقة من طلقاته كأنما يرد بها جبنه وعجزه .. لقد شفي جراح قلبه .. هذه هي المعركة الحقيقية وجها لوجه .. لماذا لا نطردهم كلهم ؟ فكل المجموعة مشتركة الآن في الهجوم , لتنالوا ما تستحقون , وكان القائد يحاول أن يرفع صوته على أصوات رعد القتال وهو يصيح .. راقبوا جيدا , غطوا رجالنا , وكان اثنان من المجموعة يزحفان بطريق دائري بمحاذاة جدران المركز . لماذا لا أكون معهما , لماذا لم يرسلوني ؟ وشاهد يدي إخوانه ترتفعان إلى داخل نافذة المركز وسمع صوت انفجار عنيف واشتعلت النيران , وصاح القائد .. هيا بنا نعود وقفز مجاهد في نفس اللحظة سقط وهو يضغط على شفتيه ليكتم صرخة الألم , هذا الجرح اللعين .. كيف تناساه ؟ والتفت القائد بمراقبة أفراد مجموعته وهم يتبعونه وصاح فجأة ... مجاهد هل جرحت ؟
لا ... لا ...
خانه صوته , كشف عن خوف مجاهد , أراد أن يخفي ما حدث له .
قال القائد ساخرا .. ماذا حدث ؟ هل عملته ؟
وكأن أفعى لسعت وجه مجاهد ينهض وعينان تلمعان غضبا , وحاول أن يخفي دموعه التي أثارتها الإهانة .. لم يصدق القائد عيناه , هذا الفتى الذي كان صامت , الذي كان يستمع فقط , هذا الفتى الذي كان محبوبا من قبل الجميع خلال هذين الشهرين , يقف أمامه الآن يتحداه شيء غريب حدث لمجاهد . وتجمع الناس حول أفراد المجموعة في ميدان البلدة , شاهد مجاهد الناس يوزعون الخبز عليهم .
أخذت نقط حمراء تتراقص أمام عينيه وعرق بارد بغمر جسده .. يجب على الأن أن اخبرهم .. الآن يمكنني أن أفعل لقد أعطينا العدو درسا .. لكن لا انهم الآن مع أهل البلدة .. يجب ألا يعلموا أن احدنا قد جرح , أقوياء يجب أن نكون أمامهم , واتجه إلى غرفة صغيرة قرب الميدان .. فك زراير بنطلونه وأخذ يمسح جرحه بقطعة من القطن وهو يضغط على أسنانه , شعر انه مريض , تحامل ووقف , جاءته فكرة في ذهنه , يجب ألا افقد حواسي , لكن لو تركني إخواني وجاءت قوات الاحتلال ووجدوني هكذا بلا بنطلون حقا أنها ستكون مصيبة , وعلت على محياه ابتسامة لهذه الفكرة وكانت الضمادة غير طويلة فمزق الجزء الأسفل من قميصه وربط ساقه بشدة . كان رأسه يدور , النقط الحمراء تكبر سيفقد وعيه , خلع حذائه .. ونفض الدماء منه ... آه أيها القائد أنك تسألني ماذا فعلت في بنطالي ؟ نعم عملتها ! لكن بطريقة أخرى غير تلك التي أنت فكرت فيها , ثم أخذ يعاتب نفسه يجب أن اصمت فيما تفكر .. ؟ لكن لماذا سخر مني ؟ إنني أسف لكنك كنت مخطئا يا صديقي ...
حينما سار نحو الميدان كان أهل البلدة يصيحون فلتعيشوا كلكم , وكانوا يلوحون بأيديهم ونساء القرية أحضرن خبزا . شاهد كل شيء وكان يشعر بالرضا , انهم كانوا ليسعدوا الناس .. شعر أن كل هذه الهتافات من أجله هو الجريح , كان صغيرا وذا رومانسية خيالية . تمنى أن تخف هذه الهتافات وأن ينصتوا إليه وهو يتحدث إليهم .
" أيها الناس ... لتكونوا سعداء وأنا أموت من أجلكم وبعد ذلك يستشهد أمامهم . وجمع نفسه ووقف أفراد المجموعة في الصف ووقف معهم مجاهد , أخذوا يغنون وبحماس غنى معهم مجاهد , أخذوا بالمسير . رفع مجاهد , بندقيته أعلى من الآخرين , ما زالت خيالته رومانسية .. سيقول وداعا لهؤلاء الناس البسطاء للمرة الأخيرة , وكان القائد يسير في المقدمة وهو راضي عن القتال .. عجبا ماذا حدث لمجاهد ؟ قد يكون خائفا , قد يكون أفزعه إطلاق الرصاص , للمرة الأولى يشارك في معركة , لكن كيف حدث هذا وهو فتى شديد البأس , حين قبض عليه رجال الاحتلال وعذبوه لم يتفوه ولا بكلمة واحدة وتمكن من الهرب .. أنه دائما ساكت "الكشر" إنني ألوم نفسي سخريتي منه يبدو إنني لا اعرفه كما يجب ...
كان مجاهد فعلا قليل الكلام , انه خجول رغم أنه اجتماعي وهو في بداية دراسته المتوسطة , لم يكن يجروء أن يفكر أن يكون مع مثل رجال المقاومة هؤلاء .. كان يخاف إذا تفوه بكلمة .. تشعرهم بأنه خائف .. وسمع القائد من يقطع عليه حبل أفكاره ..
مجاهد متخلف ورائنا .. وأسرع إلى الخلف , كان مجاهد يمشي متثاقلا ..
أمسك به من كتفه ..
ماذا حدث يا أخ ؟
لو كان القائد أصدر له أمرا صعبا لهب منتصبا على قدميه , لكن هذه اللمسة الرقيقة جعلته يتهادى , كان شابا طويلا ممتلئا , لم يستطيع أن يمسك به من ذراعه فوقع ليرقد على الحشائش أزاح بيده بنطاله المخضب بالدم ..
مجاهد ؟ أين أصابوك .. متى ؟
استدار مجاهد إلى جانبه الأيسر , استند إلى ذراعه وقال في صوت خافت .. لا
متى إذن ؟ متى حدث هذا ؟
أخذ يسأل ويكرر الأسئلة كان شيئا في غاية الأهمية مرتبط في إجابته .
حينما كنا في الطريق إلى القرية .. هذا الوغد الذي احسبته .
قال القائد وهو يقيس نبضه ...
قتلته ولم يلفظ كلمة ؟ لماذا لم تخبرني على الأقل بأنك مجروح ؟
أجتمع أفراد المجموعة حولهما .. ظلوا صامتين كان في صمتهم أعظم تقدير .. واحد فقط تكلم أنه محمد يوسف الذي كان مولعا بالمزاح ..
لا يهمك يا مجاهد .. مستشفى بسرعة . ولكن يا للأسف أيها الأخ .. انهم أصابوك في هذا المكان , لن تستطيع أن تتفاخر به .
وضحك الجميع بروح مرحة تشجيعا لمجاهد , كان مجاهد يحتاج هذا الشعور الآن ..
وامتدت يد القائد إلى مجاهد وبان وكأنه يسوي له شعره ... حتى لا يظهر أنه يربت عليه بلطف وحنان *
ساحة النقاش