تكنولوجيا الإعلام والاتصال والعولمة
العولمة مصطلح حديث النشأة والعهد . لكنه تمكن , على الرغم من ذلك
من غزو أكثر من خطاب واخترق وأكثر من ممارسة.
فعلى مستوى الخطاب الاقتصادي, أسس المصطلح من بين ما أسس له لما
أعتيد على تسميته بالعولمة ألاقتصاديه بينما أسس بالنسبة لخبراء التكنولوجيا لما سمي بالعولمة التكنولوجية في الوقت الذي تبناه "أهل الثقافة"فيما أسموه بالعولمة الثقافية أو رجال الإعمال فيما اصطلحوا على نعته بعولمة المال والإعمال ورأس المال .
على مستوى الممارسة وظف المصطلح من بين ما وظف فيه لتبرير وبالتالي تمرير برامج ومخططات لم ينجح الخطاب السائد إلا جزئيا في تبريرها وتمريرها من هنا فإننا نجد من يفسر طبيعة ألازمه بظاهرة العولمة وينادي بضرورة مسايرتها أو على الأقل التكيف معها ونجد من يرى فيها إحدى فرص الخلاص نظرا لما توفره من حوافز ولما يمنحه تبنيها من امتيازات.
ما نعيبه على الخطاب السائد في العالم الثالث حول العولمة (وخصوصا الخطاب الأكاديمي منه) عدم تحديده للمفهوم وتركيزه الجلي على إبعاده وتجلياته فتاتي الإسقاطات أم مؤدلجه أو عديمة الموضوعية أو مجانية للسياق العام وهو ما يفرغها في كل الأحوال من طابعها العلمي وفرضية تجردها .
وما نعيبه على الممارسة تبنيها للمصطلح من باب الترويج الديماغوجي المحض وعلى خلفية من "تحيزها" الصارخ ,إذ باسمه تفسر الأوضاع , وتحت مسوغاته تبرر السياسات .
ليس في الوارد , في هذا المقام , الوقوف عند أوجه قصور الخطاب الأكاديمي السائد حول ظاهرة العولمة , أو تفكيك إشكالية المصطلح الابستمولوجية , ولا مساءلة الممارسة (السياسية بالأساس ) حول "استغلالها" له بغية تجديد خطابها بقدر ما نهدف إلى مقاربة ظاهرة ومصطلح العولمة بحثا في مضمونها ومحاولة لتحديد فضائها على ضوء التحولات التكنولوجية الكبرى التي ميزت العقود الثلاثة الأخيرة للقرن العشرين لا سميا في ميدان الإعلام والاتصال .
1_ حول مفهوم وظاهرة العولمة
دأبت الأدبيات الاقتصادية منذ عهود بعيدة على التحديث عن اقتصاد أو علاقات اقتصادية بين الدول والشعوب للتدليل على وجود علاقات تبادل السلع والخدمات وتنقل للإفراد والرسام يل بين هذه الدول والشعوب . وقد نظر لذلك بعمق ومؤسس له بجدية كبيرة منذ الثورة الصناعية وانتصار الرأسمالية وتقدم القيم الليبرالية على الأقل.
لم يكن الجدل دائرا حول الاعتراف بوجود هذه العلاقات أو عدم وجودها بقرارنا تأتي من المجادة التي دارت حول طبيعتها ومدى عدالة تبادل فائض القيمة الناتج عنها وفي داخلها ولا سميا مع ظهور نمط الإنتاج والتوزيع والتبادل الرأسمالي...وهو النمط إلي ساد وهمين على العلاقات الدولية بلا منازع وأبان عن مناعة كبرى وتجدد مستمر على الرغم من الحروب ولازمات والنكسات وبالتالي فالمصطلح مصطلح الاقتصاد العالمي إنما جاء لتكريس وجود علاقات اقتصادية دولية يجري من خلالها تبادل السلع والخدمات بين الدول وفي إطارها تتنقل الرسام يل وفي سياقها يتحرك الأفراد وتنتقل المجموعات .
وما كان لهذه العلاقات الدولية ألا إن تتطور أكثر مع مرور الزمن وتتعقد بتطور الاقتصاديات الوطنية وتعقدها وظهور شركات إنتاجية ضخمة ومؤسسات مالية عملاقه تنتشر في كل إنحاء العالم وانتشار المؤسسات المالية عبر وكلائها لم يزد الاقتصاد العالمي إلا اتساعا وتدويلا فضلا عن تعقد طبيعة العلاقات بين الأمم والدول ولا سميا بين دول الشمال ودول الجنوب أو لنقل بين الدول الصناعية الكبرى ودول العالم الثالث .
هناك إذن في مرحلة أولى علاقات اقتصادية دولية من طراز تقليدي نظر لها بامتياز علماء الاقتصاد الكلاسيكيون الجدد وهناك في مرحلة ثانيه تدويل للاقتصاديات الوطنية من خلال ظاهرة تعدد الجنسيات التي طالت المؤسسات الإنتاجية وميزت نشاطها لسنين عديدة ولا سميا خلال الفترة التي اصطلح علماء الاقتصاد على تسميتها ب "مرحلة الثلاثين الخوالد".
من الوارد القول إن بناء على ذلك إن العولمة إنما هي ظاهرة انبثقت من بطن ظاهرتين سابقتين عليها تاريخا وطبيعة صيرورة , وهما ظاهرتا التدويل وتعدد الجنسيات .
يحدد ريكاردو تريلا ظاهرة العولمة في كونها "مجموعة المراحل التي يمكن من إنتاج وتوزيع واستهلاك السلع والخدمات :
_من اجل أسواق عالمية منظمة أو في طريقها إلى التنظيم وفق مقاييس ومعايير عالمية .
_من طرف منظمات ولدت أو تعمل على أساس قواعد عالمية بثقافة تنظيم منفتحة على المحيط العالمي وتخضع لإستراتيجية عالمية من الصعب تحديد قضائها (القانوني والاقتصادي والتكنولوجي ) بحكم تعدد ترابطات وتدخلات عناصرها في مختلف العمليات طالان تاجية" قبل عملية الإنتاج و.....حتى بعده ".
ويعتبر تريلا فضلا عن ذلك إن العولمة الاقتصاد تخضع من بين ما تخضع له لتدخلات كثيفة بين الدول لا على المستوى الاقتصادي الخالص فحسب ولكن أيضا على المستوى تسيير المشاكل الكبرى كمشاكل البيئة والمخدرات وغيرها . وهو ما يتطلب البحث عن إشكال جديدة بهدف إقامة تنظيم "سياسي" جديد للاقتصاد والمجتمع بدلا من المنظمات العالمية "التقليدية" التي عجزت عن مواكبة الطبيعة المتجددة لهذه المشاكل .
هذا التحديد المتميز لظاهرة العولمة على دقته وعمق تصوره يطرح مع ذلك بعض الملاحظات المنهجية ثلاث منها تتراءى لنا أساسية:
_ الملاحظة الأولى وتتجلى في الصعوبة الموضوعية التي يطرحها أن ترسيم حدود فضاء العولمة لا بسبب الطابع العالمي للظاهرة فحسب ولكن أيضا بالاحتكام إلى ضعف الأدوات الإحصائية الكفيلة بتحديد الفضاء ذاته وهو ما لم يكن مطروحا ولا واردا حتى بالنسبة لمقاربة ظاهرتي التدويل وتعدد الجنسية .
_الملاحظة الثانية وتتعلق بعدم ثبات مصطلح العولمة وتطوره المستمر وبالتالي انفتاح طرحه على ظواهر جديدة عليه ومواكبة لظهوره كتزايد دور العلم والتكنولوجيا في الأنشطة الإنسانية وتطور انتشار تكنولوجيا الإعلام والاتصال على نطاق عالمي واسع متجاوز للحدود والتنظيمات والقوانين.
_الملاحظة الثالثة وتحيل إلى خاصية التناقض التي تتسم بها الظاهرة العولمة في احد جوانبها ولا سينا ظاهرة علمية التكنولوجيا وتكنولوجيا العلم وهي الظواهر التي تنبئ بما سيكون عليه النشاط الإنساني طيلة القرن الحادي والعشرين اقتصادا واجتماعا وطبيعة معرفة .
ما يميز ظاهرة العولمة فضلا عن كل ما سبق أنها لم تماسس فقط لقطيعة في التوجهات السابقة عليها (انفتاح وتداخل الاقتصاديات عبر تطور المبادلات وظهور أقطاب اقتصاديين جدد كالدول الأسيوية وكذلك زيادة وتيرة الاستثمارات الدولية وما إلى ذلك ) بل ساهمت كذلك في تعميقها وإثراء محتوياتها . وقد تمثل هذا الإثراء ليس فقط في إن ظاهرة العولمة قد مست جميع مراحل العملية الإنتاجية بما في ذلك عملية البحث والتطوير وتزامنت مع ظهور إشكال جديدة لتنظيم الأسواق ( التحالفات بين المؤسسات بقصد امتلاك التكنولوجيا الجديدة والتقسيم السريع والمنهج للمعرفة وكذلك تنظيم قطاعات صناعية جديدة ....الخ)
ولكن بالخصوص في تأثيريها على مكانة ودور بعض المؤسسات الرسمية كمؤسسة الدولي/الأمة , حيث تزايدت نسبية السياسات الاقتصادية الوطنية , ومؤسسة البحث العلمي أيضا حيث مكنت العولمة من تعميق العلاقات بين المؤسسات الإنتاجية الوطنية والدولية وبين مؤسسات إنتاج المعرفة ومحيطها الاقتصادي ...وما إلى ذلك .
لو كان لنا إن ننقب في المحددات الكامنة وراء بروز ظاهرة العولمة وتكرسها التدريجي كواق حال قائم , لكان علينا إن نقف بداية عد مستويين:
المستوى الأول ويتعلق بالعوامل المرتبطة جوهريا بالطلب .ومعنى ذلك إن الطلب لم يعد محصورا في الزمان والمكان , بقدر ما بدأ يخضع هو الأخر لظاهرة العولمة . فالأسواق كما يقول تريلا "تتعلم" بدورها بمعنى أنها تتسم بميزات متشابهة كيفما كان البلد. ولكن تدويل الأسواق لا يعني توحيد الطلب خاصة وان عدم الاستقرار النقدي والمالي وكلك الحواجز الجمركية ,يحولان دون الحديث عن "سوق عالمي موحد" . وبعبارة أخرى إن العولمة الأسواق إنما تتم على المدى الطويل وفق مجموعة من التوجهات , أهمها الميل النسبي باتجاه توحيد الطلب والعلاقة المتزايدة بين بيع السلعة وتوفير الخدمة وكذلك الأهمية القصوى للمعايير والمقاييس .
وعلى الرغم من ذلك فان ظاهرة عولمة الأسواق (أو عولمة الطلب) تجد جزءا من محدوديتها في أمرين اثنين على الأقل :
الأمر الأول ويرتبط أساسا بصمود مفهوم الأسواق الوطنية والطلب الوطني على الرغم من "طغيان"العالمي .
والأمر الثاني , ويتمثل في واقع التجزئة الذي ما زال يعيشه الاقتصاد العالمي بحكم عدم الاستقرار القطري , واستمرار الحواجز الجمركية وتزايد الوعرات الحماية ..وما إلى ذلك.وهما أمران لا تنفيهما العولمة ولا تعمل على نفيها طالما إن هذه الأخيرة ليست مرادفا لنهاية الأسواق الوطنية ,بل اخذ هذه الأسواق بعين الاعتبار من طرف مؤسسات تعمل انطلاقا من قواعد عالمية ولا سواق تتعلم تدريجا.
المستوى الثاني ويحيل مبدئيا على المستوى العرض وبالتحديد على مسألتين : مسألة البحث والتطوير ,ومسألة تنظيم المؤسسات الإنتاجية . فالعولمة لم تزد المؤسسات الإنتاجية إلا تشبثا بالبحث والتطوير لا سميا وان الابتكار أضحى احد سبل تنافسية هذه المؤسسات وسرا من أسرار تميزها وإشعاعها .
ليس من المفارقة في شيء إذن إن تكون ميزانيات البحث والتطير غالبا بمنأى عن التأثير بظروف وملابسات الأزمة إذ تثبت الإحصائيات أن وجود الأزمة أو غيابها لا يؤثر كثيرا (وربما يؤثر بطريقة ايجابية) على مجهودان البحث والتطوير.
ثم إن مد العولمة اثر بجدية على أساليب وطرق تنظيم المؤسسات بمعنى إن التنافسية والربحية أصبحتا تكمنان تدريجا في طرق التنظيم الداخلي وكذلك في التحالفات والاندماجات والانصهار التي تتم بين هذه المؤسسات وهما أمران ساهما وبعمق في ظاهرة عولمة المؤسسات الإنتاجية وعولمة سلعها وخدماتها .