د. محمد ناصر الخوالده
المقدمة
تظل سطوة الإعلام قوة مهيمنة ، وتزداد منعة ونفوذاً يوماً بعد يوم ، في ظل تعاظم التطور الإعلامي ألمعلوماتي التكنولوجي الهائل في العصر الحديث .
وفي العالم المتقدم كما في العالم المتخلف ، لعب الإعلام ويلعب دوراً بالغ الأهمية والتأثير ، في تنفيذ السياسات وتطبيق التوجهات والترويج للأهداف الحكومية ، بصرف النظر عن مدى التبعية ودرجة الارتباط بين وسائل الإعلام والحكومات .
إن عالمنا هو عالم المعلومات والإعلام بحيث يتم نقل حوالي 35 مليون كلمة يومياً ويتم نقل عشرات الألوف من ساعات بث البرامج التلفزيونية من المحطات المختلفة في العالم كما تنشر آلاف العناوين من المجلات والصحف والكتب. إن المعلومات التي يحصل عليها الإنسان حالياً خلال عقد واحد تعادل المعلومات التي حصل عليها خلال مئات السنين من القرون الماضية، فإلى ما قبل خمسين عاماً كانت تمضي أربعين سنة حتى تتضاعف معلومات الإنسان العلمية، أما في الوقت الحاضر فانّ هذه الفترة قد تقلّصت إلى أربع سنوات. قد يكون هذا هو السبب في تسمية عالم اليوم بعالم المعلومات وما يهم اليوم كثيراً هو معرفة سبب الاتساع الذي لم يسبق له مثيل في حجم هذه المعلومات.
أن الإنسان مولع بالقوة ومنذ القديم كان هناك أناس ولا يزالون بصدد الحصول على القوة وكان السؤال دائماً هو ما هي أهم وسيلة لكسب القوة؟ فإلى ما قبل القرن السابع عشر الميلادي كانت الطريقة السائدة لكسب القوة هي «العنف» فكان الملوك الأبطال هم الأقوى حيث كانوا يتمتعون بالسلطة والقوة الجسمانية لكن مع تنامي الرأسمالية وتسلطها على أسس المجتمع، فان نوع القوة تغير واصبح المال هو مصدر القوة، وقبل هذه المرحلة كان معارضو الحكام يقتلون بسرعة وتتم تصفيتهم، والتخلص منهم، وكان لهذا الأمر تأثيراً سلبياً على المجتمع، لكن في هذه المرحلة التي اصبح المال فيها هو المحور، فلم يعد هناك داعياً للقتل ـ وعلى الأقل في المرحلة الأولى ـ فقد كان يوكل إلى المال حل المشكلة وكان لهذه الطريقة في إخماد المعارضة نتائج جيدة، إذ لم يكن هناك قتلى يصبحون مناراً للآخرين وأسطورة للمقاومة وثانيا تمكّنوا بواسطة المال كسب المعارضة إلى جانب السلطة الحاكمة وتعزيز موقفها ولكن احتمال أن يعود المعارض وتحت وطأة وجدانه إلى الطريق الذي تركه وينخرط ثانية في صفوف المعارضة موجود أيضاً أما المرحلة الثالثة فجرت الاستفادة في سلفة المعلومات وهنا تلعب المعلومات دوراً رئيسياً لكي تجعل المعارض يكف عن معارضته، ففي هذه المرحلة لا يوجد قتلى ولا عذاب ضمير لذلك فان سلاح المعلومات هو أقوى وسيلة لكسب القوة إذ لا تترتب عليه أية تبعات وحين نمرّ على المراحل تلك التي مرّت بها القوة والحصول عليها فانه يمكننا إدراك سبب اهتمام العالم بالمعلومات إلى هذا الحد فالمعلومات هي القوة والأقوى هو الذي يمتلك شبكة معلوماتية متقدمة اكثر وواسعة اكثر. إن صراع الإسلام والكفر هو صراع الحق والباطل وهذا الصراع مستمر على امتداد التاريخ، وقد كان في كلتا الجبهتين قادة يدعو كل منهم إلى غايته «أئمة يهدون بالحق» و«أئمة يدعون إلى الناس» وهذا التضاد كان موجوداً في كل الأدوار التاريخية لكن الذي اختلف هو الطريقة الإعلامية، ففي الأدوار السالفة كان يقف أحدهم في أحد ميادين المدينة ويخطب بالناس وكان عدد المستمعين إليه في أحسن الأحوال لا يزيد على بضعة آلاف، ولكن مع ظهور صناعة الطباعة والمطبوعات صار الدعاة «المبلّغين» يخاطبون الآخرين عن طريق الكتب، وبهذا تمكّنوا من إيصال كلامهم إلى عدد اكبر من الناس، أمّا اليوم يمكن مخاطبة عدة مليارات من الناس في أقل وقت ممكن، وأصبح هذا شيئاً عادياً.
والنتيجة انّه في عالمنا اليوم الذي يعتبر فيه حيازة مصدر للمعلومات حيازة مصدر للقوة، فان حماة الكفر يستفيدون من هذا السلاح بشكل كامل. ويستعملون احدث الطرق الدعاتية لمجابهة الحق غافلين من أن هناك قوّة لدى الإنسان لا تسمح باستغلاله وبوجودها يشعر الإنسان بالحرية، وهذه القوة ليست سوى إرادة الإنسان فالإنسان بإرادته يبقى حراً ومستقلاً آمنا من سلطة الآخرين، فلو استفاد من أرادته فلن يؤثر فيه أي سلاح ولن ينتصر عليه، لا العنف ولا المال ولا الدعاية.
هذا المقال يحاول دراسة الأبعاد المختلفة للنشاطات الدعائية التي يقوم بها أعداء الإسلام في العالم.
ماكينة ضخ الكراهية:منذ صبيحة الحادي عشر من سبتمبر 2001 ، أصاب العقل الأمريكي بشكل خاص والأوروبي بشكل عام الهوس والقلب الفزع والسياسة بالاندفاع ، وأخذ الإعلام الغربي بمزيج هائل من الهوس والفزع والطيش ، يعمل على التحريض للأخذ بالثأر الفوري وعلى الكراهية لكل ما هو ومن هو عربي ومسلم ، العدو المستهدف الجديد ، بعد سقوط العدو الشيوعي .....
لقد بدأت ماكينة ضخ الكراهية وبث التحريض تعمل بسرعة وعصبية زائدة عن الحد ، ظهرت تجلياتها على صفحات الصحف وشاشات التلفاز ، في بلدان يمثل الإعلام فيها بكل وسائطه ، القلب النابض والعقل المفكر واللسان الفالت والسوط اللاذع .
وأصبح السؤال على ألسنة الجميع في أمريكا _ من الرئيس بوش الابن إلى أصغر مواطن في الشارع الأمريكي والغربي بشكل عام ، هو لماذا يكرهنا هؤلاء الناس ، المسلمون والعرب ، لماذا يحقدون علينا إلى هذا الحد .
وكانت وسائل الإعلام سباقة في الإجابة على السؤال الحائر ، اختصرت الموقف وابتسرت العلاقات ، بقولها إنهم يكرهوننا لأننا متقدمون متحضرون ديمقراطيون ، بينما هم متخلفون إرهابيون استبداديون ، نتاج الفقر والفساد والتخلف والديكتاتورية ، أتباع دين يحض على كراهية الآخرين ويحرض ضد الغرب الأوروبي الأمريكي " المسيحي اليهودي " ، ويلقن أتباعه قتال كل من عداهم باسم الجهاد !!
ها هو الجهاد الإسلامي المسلح يقتحم المقدسات الأمريكية المسيحية باسم الأصولية ، وجاء الرد سريعاً من جانب الأصولية المسيحية الإنجيلية الأمريكية خصوصاً ، تحريضاً على الكراهية ، بدعم وتحريض من الأصولية اليهودية ..
ولقد تحولت وسائل الإعلام الأمريكية خصوصاً إلى ساحة مفتوحة لهجوم الأصولية المسيحية الأمريكية والأصولية الصهيونية المتشددة ليس على الأصولية الإسلامية المتطرفة ، ولكن على الإسلام كدين وعلى رسوله كنبي وعلى المسلمين عموماً كبشر ..
وبقدر ما امتلأت إدارة بوش بالصقور المعبرين عن التيار اليميني المتصاعد في الحزب الجمهوري ، مثل ديك تشيني نائب الرئيس ، ودونالد رامسيفيلد وزير الدفاع ، وولفو فيتز ، وكندا ليزا رايس وزيرة الخارجية ، وريتشارد بيرل رئيس مجلس سياسة الدفاع السابق ، الذين أطلقوا الآراء والتصريحات السياسية المتشددة والمتطرفة الداعية للحرب الشاملة ضد العالم العربي والإسلامي ، بحجة محاربة الإرهاب .
وبقدر ما شن الصقور الدينيون حملات إعلامية ذات طابع وعظي ديني ، مؤثر ونفاذ عبر وسائل الإعلام المختلفة ، ضد الإسلام والعرب والمسلمين ، استغلالاً لتأثير عظاتهم " الدينية الأخلاقية " في تشكيل الوعي العام للمؤمنين الأمريكيين على الأقل ، ودفعهم إلى الإيمان بأن الحضارة المسيحية اليهودية تخوض حرب حياة أو موت ضد الإسلام والمسلمين الأشرار المتخلفين الكارهين الحاقدين ، بصرف النظر عن تحالف معظم الحكومات العربية والإسلامية مع أمريكا في الحرب ضد الإرهاب .
وإذا كان القس الأمريكي جيري فالويل قد وصف نبي الإسلام " صلى الله عليه وسلم " بأنه دين الشر ومتبعوه أشرار بالضرورة ، لكن القس الأكثر تعصباً بات روبرتسون سارع فأدلى بدلوه لوسائل الإعلام ومن خلال عظاته الأسبوعية في الكنائس الإنجيلية ، فقال إن الإسلام دين قام على الحرب والعدوان وقهر الآخرين واستعباد المرأة ومعاداة المسيحيين واضطهادهم ومحاربة اليهود ، ولذلك " فأنني اعترض بشدة على وصف الرئيس بوش للإسلام بأنه دين تسامح ، إن الأمريكيين لم ينتخبوا بوش زعيماً للفقهاء ولا إماماً للأديان ... إن هتلر كان شريراً سيئا ، ولكن ما يفعله المسلمون الآن أكثر شراً وسوءاً ... "
وفي مقابل استغلال القساوسة الأمريكيين المتعصبين أمثال بات روبرتسون ، وفرانلكين جراهام ، وجيري فالويل ، وجيمي سواجرت ، لإمبراطورية الإعلام خصوصا شبكات الإذاعة والتلفزيون التي يملكونها أو لهم تأثير كبير فيها ، لنشر روح العداء للإسلام والكراهية للمسلمين ، وصولاً لوصف الإسلام بأنه دين شرير يحرض على الشر والقتال ضد الآخرين باسم الجهاد ، ووصف النبي محمد صلى الله عليه وسلم بأنه نبي محارب نشر دعوته بالسيف وحده وحرض أتباعه على قتل اليهود والمسيحيين ....
ومن جراء هذا التحريض الإعلامي " الديني السياسي " واندفاع الآلة الإعلامية الأمريكية الجبارة في الترويج له ، وفي غرسه في الوعي العام تشكيلاً وتزييفا أن ساد في الرأي العام الأمريكي والغربي ، اقتناع بأن الدول الغربية وشعوبها مستهدفة بكل قيمها الأخلاقية والدينية وعليها أن تخوض حرباً دينية / حضارية أخلاقية مقدسة هي " حرب عادلة " بكل المقاييس .
وما أقدمت عليه الصحف الكندية والنرويجية والأسبانية وبعض أخر من الصحف الغربية من الإساءة إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، من خلال الرسومات التي استهدفت شخصه ودينه كل هذا يبقى يصب في نفس هذه الحملة الظالمة تحمل الاتهام ، للدين الإسلامي ، وتوسع " الحرب العادلة " وتعممها بحيث أصبح خروجها عن نطاقها والذي قيل أنه محصور في الحرب على الإرهاب ، إلى حرب دينية حضارية ضد شعوب مسلمة تشكل 20 % من سكان العالم ، وضد دين يمثل أكثر الأديان انتشاراً في الولايات المتحدة نفسها بعد البروتستانتية ، حيث يبلغ عدد المسلمين فيها سبعة ملايين ، متفوقاً على عدد اليهود بمليون على الأقل .
دعايات المذاهب المصطنعة:
في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر عندما كان الأوروبيون يسيطرون على جميع البلدان الإسلامية، ومن أجل أن يستمروا في سيطرتهم عليها فقد بادروا إلى اختلاق مذاهب في العالم الإسلامي ليتمكّنوا بذلك من تشتيت صفوف المسلمين والقضاء على قدرتهم الدفاعية وعدم تمكينهم من مقارعة الاستعمار عن طريق الاستفادة من الحقائق والمعارضة الإسلامية الآيلة، ولذلك فقد تم إنشاء ثلاث فرق في ثلاث مناطق إسلامية هي:
الوهابية في الحجاز، والبهائية في إيران، والقاديانية في شبه القارة الهندية، صحيح أن الثورة الإسلامية في إيران تمكنت من اجتثاث جذور البهائية في إيران، وان القاديانية لم تنجح في تحقيق أهدافها في شبه القارة الهندية، لكن الوهابية في الحجاز وبمساعدة إنجلترا والعقيد لورنس، أحكمت قبضتها على تلك المنطقة ولا تزال تمسك بزمام الحكم هناك.
مع بداية استخراج النفط في منطقة الحجاز وتدفق عائداته عليها، تمكنت الوهابية من شن حملة دعائية واسعة في الدول الإسلامية وتمكنت من استقطاب أعداد من المسلمين وتأسيس المراكز الإسلامية والمراكز الدينية والمساجد، وقد كانت تلك الحملة الدعائية أقوى وسيلة يتبعها قادة الوهابية وبالإضافة إلى الدول الإسلامية فان الوهابية تبث دعاياتها في أوروبا وأمريكا، وبذلك تنشر مظلتها الدعائية على المسلمين هناك.
الدعاية المسيحية:
تحتل الهيئات التبشيرية المسيحية الدور الأول بين أولئك الذين يقومون بالدعاية المضادة للإسلام في البلدان الإسلامية ولهم في ذلك تاريخ طويل، فهم ومع بدء الدورة الاستعمارية لأوروبا، بدءوا هجومهم ضد الدول الإسلامية، حيث وصلت نشاطاتهم إلى ذروتها عندما تسلط المستعمرون على تلك الدول، ويتولى القيام بمثل هذا الدور ملايين من المبشرين، ويزداد عدد البعثات التبشيرية يوماً بعد آخر، ففي بلدان العالم الثالث وحدها ازداد عدد هذه البعثات من 2400 بعثة عام 1972 إلى 18000 بعثة عام 1993، فللبروتستانت وحدهم في أكثر من مائة دولة من دول العالم 000ر50 مبشر، وتنفق الولايات المتحدة وحدها سنوياً 700 مليون دولار لنفس الغرض، وعلى أثر هذه الدعاية ازداد عدد المسيحيين في جنوب آسيا 106 مليون شخص في عام 1980 إلى 134 مليون في عام 1993، وفي شرق آسيا ازداد عدد المسيحيين من 16 مليون شخص في عام 1890 إلى 75 مليون شخص في عام 1992، وعلى أثر هذه الدعايات صار الدين المسيحي والذي كان حتى بدايات القرن الحالي دين أمريكا وأوروبا، وكان يتمركز 8% من المسيحيين في هذه المناطق، صار يعتبر الآن ديناً عالمياً، حيث ينتشر 60% م أتباعه خارج أمريكا الشمالية وأوروبا.
وفي أفريقيا كان عدد المسيحيين لا يزيد حتى بداية القرن الحالي عن عشرة ملايين شخص، أما اليوم فقد وصل عددهم إلى 224 مليون نسمة، وتخطط المنظمات المسيحية العالمية حالياً لإيصال صوتها إلى 240 مليون من أولئك الذين لم تصلهم الدعاية المسيحية حتى الآن. وفي هذا السياق أعلن البابا جان بول الثاني أن عام 2000 تسود فيه المسيحية جميع سكان أفريقيا. إن الملفت للنظر أن أياً من الدول الإسلامية ليست في مأمن من الدعاية المسيحية. ففي الباكستان هناك بعثات تبشيرية من أمريكا وكندا تنشط كل على حدة، حيث تقوم بإرسال المطبوعات والبعثات التبشيرية إلى هناك، حيث يبلغ عددها 80 بعثة، ويعيش في الباكستان أربعة ملايين مسيحي، ويقوم هؤلاء المبشرين وبواسطة إمكانياتهم المالية بنشاطات وخدمات للفقراء في مجال التعليم والصحة لتهيئة الأرضية اللازمة لاستقطابهم، وفي أفريقيا هناك العديد من القساوسة الذين يعيشون ومنذ عشرات السنين في غاباتها وأدغالها بين القبائل البدائية لتنصيرهم، أو إن بعض المبشرين يتوغلون في مناطق لم يتسن حتى لحكومتها إلى اليوم أن ترسم لها الخرائط التي تبين مواقعها، أن هذه الأمور تستحق أن نقف عندها ونتأملها، فبالإضافة إلى المبشرين النشطين هناك أربع محطات بث إذاعية تدعو إلى الدين المسيحي، أحدها تعرف بـ(Trans World) وتبث برامجها بسبعين لغة ومحطة أخرى تعرف بـ(Vatican Radio) تبث برامجها بخمسين لغة، ولنفس الغرض يتم الآن تشغيل قناة تلفزيون عالمية. وبذلك تتمكن المسيحية من تغطية العالم كله بالبث التلفزيوني.
عندما ندقق في هذه القضايا يتبادر إلى الذهن سؤال وهو: هل هذه الدعاية الواسعة هي لترويج الدين المسيحي فقط ولا هدف آخر هناك، أم انّه ليست من المستبعد أن يكون هناك تحت ستار المسيحية من يحاول تمرير أهدافه الخاصة. إن دراسة هذا الموضوع توصلنا إلى أن المراكز المسيحية وعلى امتداد التاريخ كانت تسعى لتأمين مصالح التجار والمستثمرين أكثر مما تقوم بالتبشير منذ أيام الحروب الصليبية التي قامت ـ وباعتراف المؤرخين ـ بسبب تهديد المصالح التجارية لأوروبا خاصة «فينيسيا» و«جنوا» بعد سيطرة المسلمين على القدس وإغلاق الطرق التجارية بين أوروبا وشرق آسيا. لقد كان الظاهر من عمل المبشرين الذين ذهبوا إلى الهند وأفريقيا وأمريكا اللاتينية هو التبشير لكنهم جلبوا معهم المستعمرين إلى هناك. إذن بالاستناد إلى تلك الشواهد يمكن القول ببساطة انّه وعلى مدى التاريخ كانت المسيحية ومبشروها سنداً وعوناً وشريكاً للمستعمرين. وكانت تمهد أيضاً الأرضية المعنوية لنمو الرأسمالية وهيمنتها في تلك البلدان. إن قراءة المسيرة التاريخية للمسيحية من جانب وتكامل الرأسمالية، من جانب آخر تظهر بان الحركة الإصلاحية المسيحية هيأت كل ما كانت الراسماية تحتاجه في جميع مراحل تطورها وذلك عن طريق الدعاية الدينية، ولهذا فان الكنيسة تعتبر جزءاً من عملية نشوء الرأسمالية.
وفي وقت قريب وفي مرحلة خاصة من الحرب الباردة ولأجل مواجهة الشيوعية نلاحظ انتخاب «باب» للكاثوليك من بولونيا، وبمساعدته يتمكن «ليش فاليزا» قائد الحركة العمالية في بولونيا من الفوز، كذلك لا تتوانى المسيحية في سياستها من التعاون مع الصهيونية والقيام بمساعدتها. لقد كانت المسيحية في أحسن أنواعها ليست إلا ردود فعل دينية أمام التمييز الطبقي واللاّدينية وتجاهل العواطف الدينية في المجتمعات الغربية. إذن فان العدو الحقيقي للإسلام في الوقت الحاضر ليس المسيحية بل العدو الحقيقي للإسلام هو الرأسمالية، وبشكل عام هو الثقافة الغربية والمسماة بـ«الليبرالية»، وهذا لا يعني أبداً تجاهل المسيحية أو التغافل عن دورها أو التقليل من شأنها.
الدعاية الرأسمالية والليبرالية
على عكس الدعاية المسيحية التي تتم عن طريق قنوات خاصة وبطريقة معروفة عادة إلا أن الدعاية الليبرالية تتم عادة بشكل غير مباشر وبأجهزة متقدمة ومتطورة جداً. وفي الوقت الذي تكتفي فيه المسيحية في القرن الحالي في ترويج عقائدها بالدعاية فقط، ويندر اعتمادها على القوة، ولكن الليبرالية والرأسمالية غارقة في غطرستها ولا تتوانى عن استخدام القوة لقهر أعدائها. فعند انتهاء الحرب الباردة واضمحلال الشيوعية فان الليبرالية تتصور بأنها المنتصرة الوحيدة في الحرب الأيديولوجية، لذا تستنفر جميع قواها لإبادة عدوها التالي، أي الإسلام والذي ترى فيه قوّة كامنة قوية يقف في مواجهتها، حيث بدأ الإسلام يأخذ أبعاداً عالمية، لذلك فالليبرالية لا تال جهداً في حربها الجديدة ولا تستثني وسيلة. سنشير في هذه المقالة إلى الوسائل الدعائية المتنوعة التي تستخدمها الليبرالية والإمبريالية وسنحاول بدراسة هذه الظاهرة التعرف على الخطوط الأساسية والاستراتيجية الدعائية للغرب وتشخيصها، ولكن لماذا لم نخصص فصلاً منفصلاً حول الدعاية الصهيونية؟ الجواب على ذلك هو أن الصهيوينة تقوم بنشاطاتها المعادية للإسلام في ظل الرأسمالية والدليل على ذلك هو النفوذ الواسع للصهيونية على الحكومة الأمريكية وسياستها المنفعلة في النزاع بين العرب وإسرائيل ومواقف عديدة أخرى، وأبحاث هذا القسم سندرجها تحت أربعة عناوين:
1 ـ تدفّق الأخبار ووكالات الأنباء: كما أسلفنا فان عالم اليوم هو عالم تبادل الأخبار والمعلومات حيث يتم نقل حوالي 35 مليون كلمة من الأخبار يومياً إلى أنحاء العالم. عند ملاحظة هذا الاتساع في تبادل المعلومات فقد يتبادر إلى الذهن انّه وبسبب التدفق الحر للمعلومات في العالم، فلا يمكن فرض مقاطعة خبرية على مجموعة من الناس وتجاهلها، لكن هذا هو ظاهر الأمر. فمن بين الـ35 مليون كلمة التي يتم نقلها فان 32 مليون كلمة منها تنقل عن طريق الوكالات العالمية الأربعة الكبرى للأنباء، أسوشيتدبرس 17 مليون كلمة، يونايتد برس 11 مليون كلمة، رانس برس 5ر3 ملايين كلمة، ورويتر 5ر1 مليون كلمة، فلو علمنا أن ثلاثة أرباع الأنباء التي تذاع في العالم الثالث عدا الأنباء المحلية يتم نقلها عن طريق هذه الوكالات الأربعة فسنقف على مدى سيطرة هذه الوكالات على تدفق الأخبار في العالم، وبما إن وضع أكثر الدول الإسلامية في أكثر الأحيان هو دون مستوى الدول المتوسطة في العالم الثالث، لذا يمكن بسهولة تقييم تدفق الأخبار والمعلومات فيها، فالعالم الرأسمالي يحكم سيطرته على الوكالات الكبرى للأنباء وعن طريقها يسيطر على بلدان العالم الإسلامي وبالتالي يسيطر على الرأي العام فيها ويوجهه حيث يشاء ويبلور أهدافه عن طريقها، فبعض الأهداف التي تخطط الرأسمالية لبلوغها عن طريق هذه الوكالات هي:
أ ـ إيجاد الخلاف والتناقض والتنافر بين الدول الإسلامية ووضع الخلافات الصغيرة بينها تحت المجهر وبث الفرقة فيما بينها والقضاء على الوحدة الوطنية.
ب ـ إشاعة الخوف واليأس بين صفوف المسلمين والإيحاء لهم بأن لا قدرة للدول الإسلامية على الوقوف في مواجهة الدول الكبرى، وترسيخ الفهم القائل بأن العنف هو الذي يسود الدول الإسلامية ولا قانون يحكمها في حل الخلافات فيما بينها، وأنّها تخطو الخطوات الأولى في إدارة بلادها.
ج ـ تقديم العون للإمبريالية السياسية وجمع المعلومات لمراكزها الجاسوسية.
2 ـ الميدان الثقافي (المطبوعات الراديو والتلفزيون والأفلام):
للعالم الرأسمالي سلطة كاملة في المجالات الثقافية المختلفة على جميع الدول الواقعة تحت هيمنته الدعائية حيث يستخدم أصحاب رؤوس الأموال التقدم التكنولوجي لتحقيق أهدافهم ولزيادة رقعة نفوذهم يوماً بعد يوم، وللوقوف على أبعاد هذه الوضع، نلفت انتباه القارئ إلى الإحصائيات التالية:
أ ـ المجلات المتوفرة هناك حسب الإحصائيات حوالي000ر38 مجلة في العالم، وظاهر هذا الأمر يشير إلى التبادل الثقافي في العالم، ولكن الحقيقة هي أن المجلات الأمريكية وحدها التي توزع في جميع أنحاء العالم، فالمجلتين الأمريكيتين المعروفتين «التايمز» و«النيوزويك» فتوزع اسبوعيا عشرة ملايين نسخة لتعرف قرّائها على السياسة والثقافة الأمريكية وتنشر الثقافة الليبرالية، أما مجلة «ريدرز دايجست» فهي توزع ثلاثين مليون نسخة شهرياً وبسبعة عشر لغة وتعتبر أوسع المجلات انتشاراً في العالم، إضافة لهذا فهناك عشرات المجلات الأخرى تحت عناوين مختلفة مثل الرياضة ـ الأفلام ـ الاقتصاد ـ الموضة ـ الديكور ـ التي تصدر في الدول الغربية وتبث الدعاية بشكل مباشر أو غير مباشر لتلك الدول، وأمام هذا السيل الهدام لا نرى في العالم الإسلامي حتى مجلة واحدة معتبرة تتصدى لهذه الهجمة وتنشر الفكر الإسلامي الصافي، وتتمكن من الوصول حتى إلى نصف الدول الإسلامية.
ب ـ الراديو والتلفزيون منذ بداية العقد الأول من القرن العشرين وحتى اليوم شهدت صناعة الراديو والتلفزيون تقدماً ونمواً متزايداً، وتستفيد الدول الإسلامية حالياً من هذه الأجهزة الثقافية، ولكن في الحقيقة فان الدول الغربية والرأسمالية هم المنتفعون الرئيسيون منها، إذ إن جميع الدول الإسلامية تستفيد من البرامج والأفلام المنتجة من قبل تلك الدول، وفي بعض الدول الإسلامية لا تصل نسبة البرامج الداخلية إلى 20% من مجموع البث، فإذاعة صوت أمريكا تدعي وجود 102 مليون مستمع لها في الأسبوع، والجميع من البالغين، والـB. B. C 75 مليون مستمع، وعدد ساعات بث البرامج التلفزيونية التي تنتجها تلك الدول يساعدنا على إثبات دعوانا، فلأمريكا المركز الأول، حيث تنتج 150 ألف ساعة بث وتنتج كل من بريطانيا وفرنسا 20 ألف ساعة بث لكل منهما، أم ألمانيا فتنتج 8 آلاف ساعة بث. وهكذا تحتل هذه الدول المركز المتقدم في هذا المجال.
ج ـ أفلام السينما والفيديو صناعة الأفلام هي إحدى الميادين الدعائية الأخرى للغرب فلقد تغلغلت الأفلام المنتجة من قبل الدول الغربية وخصوصاً أمريكا، وبواسطة السينما والفيديو والأقمار الصناعية حتى وصلت إلى أقصى نقاط العالم الإسلامي حيث تترك هذه الأفلام آثاراً تخريبية خطيرة على ثقافة المجتمعات الإسلامية. هذا من جانب ومن جانب آخر فهي تبدد ثروات هائلة من الدول الإسلامية قبل التطرق إلى الأهداف الثقافية للدعاية الغربية، يجب أن نذكر كما أسلفنا بان الدعاية في عصر التكنولوجيا هي ليست الدعاية بشكلها القديم أبداً. إذ أن الدعاية اليوم هي غير مباشرة ومتعددة الجوانب، كما أن أعداء الإسلام يحاولون وبشتى السبل التغطية على نشاطاتهم الدعائية، لذلك علينا أن نلتزم الحيطة واليقظة، وان نكون مهيّئين دوماً لكشف أهداف أعداء الإسلام. والنقاط التالية يمكن أن تعتبر من أهداف الدعاية الغربية:
أ ـ غسل أدمغة الشباب المسلم ودفعهم للتخلي عن معتقداتهم وتنشئتهم على نمط من الحياة بدون أهداف رفيعة لكي يكونوا شباباً لا بباليين يعيشون حياة مادية سطحية خالية من أهداف الأخلاق السامية.
ب ـ خلق شعور بالغربة عند الناس وقطع علاقاتهم الدينية والوطنية، وعلى أثرها ينشأ شعور شديد بالحرمان يهيئ الناس لتقبل أي من أنواع التشوّه الفكري والعقائدي.
ج ـ لو علمنا بانّ أكثر الصحف والمجلات العالمية المعروفة وشركات إنتاج الأفلام وشركات التلفزة العالمية هي بأيدي اليهود، عندها ستتضح لنا الناحية السياسية للقضية، وتكون ملموسة بشكل أكبر، كما يتضح لنا جيداً سبب النتاج الأفلام المناهضة للإسلام وحصولها على جوائز كبيرة.
د ـ بين الحين والآخر تطرح هذه الأجهزة الدعائية مفاهيم مثل حقوق الإنسان، العالم الثالث، الديمقراطية وغيرها وإسباغ القدسية عليها من أجل بلوغ مآرب خاصة.
3 ـ مؤسسات البحوث والجامعات:
مع تعقّد الحياة الاجتماعية واتساع رقعة المعلومات البشرية، اكتسبت العلوم الفنية والمتخصصين أهمية أكبر، وإذا ما كان السياسيون هم الحكام الأصليين إلاّ إن العالم اليوم بيد التكنوقراطيين والجامعات ومراكز الأبحاث التي أصبحت هي مراكز القوة والمؤشر على الاقتدار الوطني. لقد كانت المراكز العلمية للغرب وبسبب تاريخها الطويل وغناها العلمي وإمكانياتها المالية الواسعة تتفوق على مثيلاتها في العالم الثالث تفوقاً تاماً، لذلك تعتمد دول العالم الثالث وخصوصاً الدول الإسلامية على هذه المراكز بشكل كبير لتدريب وتعليم الكوادر القيادية والمدراء والمسؤولين، حيث يعتبر المدراء الذين أنهوا في هذه الجامعات بعض الدورات ذلك فخراً لهم، في حين تشير التحقيقات إلى أن جميع تلك المراكز تمول من قبل مؤسسات مثل روكفلر، فورد وكارنجي، وعند الضرورة فوكالة الاستخبارات الأمريكية تسارع إلى تقديم الدعم لها، وبالنظر إلى ما ذكرناه فإننا نستنتج أن خيرة أبناء الأمة الإسلامية والعالم الثالث يصبحون وبشكل غير مباشر أداة بيد أعدائهم الأصليين أعداء الإسلام والمستضعفين في العالم.
لا شكّ أن الإسلام قد تلقّى ضربات قوية من قبل تلك المراكز التي لها نشاطات في حقول العلوم الإنسانيّة ونورد هنا بعض نتائج نشاطات تلك المراكز المعادية للإسلام:
أ ـ تحريف العقائد والفكر الإسلامي: تبين الدعاية الغربية الدين الإسلامي بأنه مجموعة من الخرافات والأفكار الخائبة وتستفيد من ذلك من بعض القضايا مثل تعدد الزوجات ـ وجوب الجهاد ـ الغيبة ـ الرجعة وغيرها، وفي الدعايات ذات المستوى الأعلى ثم التشكيك بالأصول الفلسفية والعقائدية للإسلام أو توكل إلى بعض المستشرقين مهمة تحريف التاريخ الإسلامي وتشويه سمعة المراكز العلمية والثقافية الإسلامية.
ب ـ التوجيه العلمي لمعاداة الإسلام: إن إحدى الأهداف المهمة لهذه المؤسسات هي إيجاد التبرير «العلمي» للسياسة الاستعمارية للدول المستعمرة. فما أن يتخذ قادة تلك الدول قراراً هاماً حتى تنبري تلك المراكز إلى تمجيده وتبريره وإسباغ الشرعية عليه، كما حصل مع المنظّر الذي يُدعى «صموئيل هانتينكتون» والذي طرح نظرية يصوّر فيه الأصولية الإسلامية بأنها الخطر الحقيقي في القرن القادم.
لقد سعى أمثال هؤلاء المفكرين بالاستفادة من المؤسسات المالية لروكفلر، فورد وكارنجي في الأعوام الثلاثين الماضية إلى إجراء تحقيقات واسعة حول التنمية السياسية والاقتصادية، ونتيجة للأخذ بهذه النظريات لهانتينغتون ومساعديه أمثال لوسين باي، راستو، وكولمن، فقد وقعت الدول الإسلامية في دوامة القروض الخارجية حتى وصل مبلغ تلك القروض إلى ما يزيد على 3ر1 تريلون دولار. ويطرح منظر آخر يُدعى «فرانسس فوكوياما» نظرية «نهاية التاريخ» والتي يعتبر فيها أن الليبرالية هي المنتصرة الوحيدة في الحرب الأيديولوجية، ويقيم حفلا لذلك الانتصار.
وكذلك من أجل بلوغ تلك الأهداف المشؤومة فهم يستفيدون من الباحثين الإسلاميين لإجراء بحوث حول الإسلام والاستفادة منها للمواجهة مع الإسلام مثل مؤتمر «الأصولية».
ما ذكرناه كان جزاءاً بسيطاً من الدعاية الواسعة التي يبثها أعداء الإسلام في العالم والتي تزداد أبعادها يوماً بعد يوم صحيح أن الغرب استطاع وبواسطة الحكام الضعفاء السيطرة على الدول الإسلامية لكنه لم يتمكن بعد من السيطرة على الأمة الإسلامية وشعبها المسلم، ولا تزال هناك في الأمة الإسلامية رموز تستطيع العمل على توحيد الـ50 دولة اسلامية في أمة واحدة. وعلى الرغم من كل الدعايات المسمومة ضد الإسلام فالإسلام يفتح طريقه ويتقدم وينتشر أكثر فأكثر. فظهور حركات إسلامية في الجزائر، مصر، السودان، تونس، العراق، لبنان، تركيا، أفغانستان، الباكستان وغيرها من البلدان دليل قاطع على هذا الادعاء، وما العداوة التي تبديها الإمبريالية وفي مقدمتها أمريكا ضد الإسلام والدول الإسلامية لدليل على ازدياد الميل إلى الإسلام بين مسلمي العالم، فالإسلام يوسع رقعة نفوذه حتى في أمريكا نفسها.
د.محمد ناصر الخوالده
ساحة النقاش