د.محمد ناصر الخوالده

 

التلفزيون وسيلة اتصالية ، من أحدث الوسائل وقد أصبح ظاهرة لها صفة الشيوع والانتشار ، والتأثير في حياة الناس .. وتتجه برامج التلفزيون إلى هدفين نقل المعلومات ، أو تقديم التسلية ، وتتضمن هذه الأهداف ، وظائف الإعلام ، والترفيه ، والتثقيف ، والإعلان . من هذا يتبين أن التلفزيون وسيلة من وسائل الإعلام ، تقوم بتحقيق وظائف الإعلام والترفيه ، والتثقيف والإعلان ، التي تضطلع بتحقيقها وسائل الاتصال الجماهيرية .. وأنه يقدم إنتاجه الإعلامي إلى جماهير عامة ، من المشاهدين ، وأن هذا الإنتاج هادف ومخطط له ، لتحقيق أهداف وغايات للأفراد وللمجتمع  .. .

ومن هنا يأتي دور التلفزيون في شهر رمضان كوسيلة إعلامية معاصرة يمتلك قوالبه الخاصة وأشكاله التي يتم فيها تشكيل الرموز وصياغتها صياغة جديدة والتي تتوقف على حقيقة أن عناصر تأثير رسالته ومدى تواؤم مضمون الرسالة مع الشكل المصاغة به ... ومن هنا تأتي خطورة عدم استخدام هذه الوسيلة الإعلامية والترفيهية بشكل لائق من خلال تقديم البرامج التي لا تتماشي مع سمو وعظمة هذا الشهر الكريم .

لماذا لا تصوم الماكينات والآلات في العصر الحديث ؟

هذا السؤال طرحه الراحل عباس العقاد في صدد حديثه عن شهر رمضان ، وذهب إلى أنها إذا صامت عن بعض ما تصنع في العصر الحديث قد يجدي صيامها بعض الجدوى .

ترى هل نسأل ، السؤال نفسه بالقياس إلى التلفزيون ؟ ... 

هل ينبغي أن يصوم ؟ ... 

وعما ينبغي أن يصوم ؟ ... ولماذا لا نجرب صيامه في بعض الأوقات عن  مسلسلات الغزو الفكري ، والمسلسلات التي لا تليق بطبيعة هذا الشهر المبارك . 

وهنا نسأل هل يؤدي التلفزيون دوره الثقافي ، عندما يعرض مسلسلات أجنبية وعربية ومن خلال البرامج الغنائية التي تقدم أغاني (العري كليب) والتي تسيء للقيم والأخلاق ، وتعتبر هذه الأغاني كأحد خصائص الثقافة الاستهلاكية حيث تركز على أجساد الفتيات ، وهذه الأغنيات  تشعل الرغبات الجنسية لدى الأطفال والمراهقين للحركات التي تتم من خلال الجسد من تأثير مباشر على حواس المشاهد ، وشهواته ، وساعد الإقبال المتزايد على مشاهدتها على بدء قنوات فضائية  تلفزيونية غنائية فقط ، بل أصبحت تتكاثر كالأمراض السرطانية الخبيثة التي تنمو بشكل متزايد وفي أسرع وقت ، فالربح مضمون والتكلفة منخفضة والأغاني مهداة مجانا لهذه القنوات ، وأصبحن نرى الراقصات مطربات وكأن جسد الراقصة بداية المتعة ونهايتها أيضا ، فالكلمات لا تهم واللحن لا داعي له طالما هناك أجساد تتلوى قادرة على جذب مزيد من الرسائل النصية أو المصورة ، ولمزيد من تخدير وتغيب  المراهقين والأطفال حتى الكبار من الشباب الذين لا هم لهم إلا الجلوس أمام جهاز التلفاز ، أصبحت مسابقات ملكات الجمال لا تقام مرة واحدة وإنما تم تخصيص قناة لها تبث من على قمر عربي فتيات شبه عاريات أو بملابس أكثر إثارة من العري نفسه .... تشاهدن في نومهن ويقظتهن وداخل غرف نومهن . 

وللأسف تخلو مواثيق الشرف الإعلامية ، الإذاعية من أية مواد حول هذه الأغاني المصورة ، ولا تهتم الجهات العامة والموكل لها تنظيم مهنة الإعلام بتلك الآثار البالغة الخطورة ، ولم نسمع عن اجتماع للجنة التنسيق بين الفضائيات العربية خصص لدراسة أثر هذا العري ، وتسليع جسد المرأة على مستقبل أطفالنا وكذلك المراهقين وهم نصف الحاضر والمستقبل ؟ !   ..  ... . .. هل يكون (صيام) التلفزيون عن هذه الأفلام والمسلسلات وكليبات العري فريضة واجبة في شهر رمضان من كل عام على أقل تقدير ؟ ... 

إن التلفزيون إلى جانب وظيفته التثقيفية ، له وظيفة تشتق تسميتها من تراثنا العربي ، وهي وظيفة " الإمتاع والمؤانسة " وهي التي يقول فيها أبو حيان التوحيدي محددا دستور العمل التلفزيوني قبل اختراعه بألف عام : " إياك أن تعاف سماع  الأشياء المضروبة بالهزل ، الجارية على السخف ، فإنك لو أضربت عنها جملة لنقص فهمك وتبلد طبعك .. واجعل الاسترسال بها ذريعة إلى أحماضك ، والانبساط فيها سلما إلى جدك ، فإنك متى لم تذق نفسك فرح الهزل ، كربها غم الجد ، وقد طبعت في الأصل تركيبها على الترجيح بين الأمور المتفاوتة ، فلا تحمل في شيء من الأشياء عليها ، فتكون في ذلك سيئا إليها " .

وهكذا فطن الفيلسوف العربي إلى وظيفة الإمتاع والمؤانسة في التحليل الوظيفي لوسائل الإعلام والتي يذهب بعده بقرون فيلسوف من فلاسفة "الرأي العام" هو "ماكدوجل" إلى أنها تخفف العبء عن النفوس والعقول ،وتجعل الحياة محتملة رغم ما فيها من متاعب ، كما يذهب "ستيفنسون" إلى أن الإمتاع والترفيه هما هدفان أساسيان للإعلام بوجه عام ، ويرى أن ألوان المتعة القصصية قد أثرت على الجوانب الإخبارية والإعلامية نفسها ، حتى أصبحت الأحداث السياسية تقدم بطريقة درامية ، كما تطورت أساليب الكتابة الصحفية لتروي إخبار الجريمة السياسية ، وأنباء الفضاء والحرب والسلام بطريقة إنسانية تقرب من القصص الفنية أو الأدب . 

ولكن فيلسوفنا العربي كان أسبق في تحديد وظيفة "الإمتاع والمؤانسة "لتنفي وسائل الإعلام عن النفس ما طرأ عليها من سأم ، وتزيل عن القلب ما ألم به من هم . ولذلك أكد قيمة "الفكاهة" في حياة الناس ، وضرورة تذوق النفس لفرح الهزل إذا كربها غم الجد .. وفي تقديرنا أن كتاب "الإمتاع والمؤانسة" يمكن أن يمثل وحده منهاجا للعمل التلفزيوني متكامل البرامج والوظائف ، ولذلك نراه يروي على مسامع الوزير أبي عبد الله العارض في الليلة الثامنة عشرة من ليالي "الإمتاع والمؤانسة" الكثير من الملح والنوادر والفكاهات ، لكن لا يلبث أن يعقب على هذا كله بقوله : " فقال - أدام الله دولته ، وبسط لديه نعمته - قدم هذا الفن على غيره ، وما ظننت أن هذا يطرد في مجلس واحد ، وربما عيب هذا النمط كل العيب ، وذلك ظل ، لأن النفس تحتاج إلى بشر .. وقد بلغني أن ابن عباس كان يقول في مجلسه بعد الخوض في الكتاب والسنة والفقه والمسائل : أحمضوا ، وما أراه أراد بذلك إلا لتعديل النفس لئلا يلحقها كلال الجد ، ولتقتبس نشاطا في المستأنف ، ولتستعد لقبول ما يرد عليها فتسمع .. "وكثيرا ما كان الوزير ينهي المجلس بأن يسأل التوحيدي أن يأتيه بطرفة من الطرائف كان يسميها غالبا "ملحمة الوداع" فكان التوحيدي يجيب ملتمس الوزير بأن يسرد نادرة لطيفة ، أو قصة طريفة أو أبياتا رقيقة . 

فالصوم بالقياس إلى التلفزيون ليس بمستغرب إذن ، لأن للصوم هدفا اجتماعيا ، يتصل بالحياة الواقعة العاملة ، التي عرفنا الإسلام يعني بها ويطلب لها ، ويصلح من شأنها إصلاحه العلمي ، غير المترهب ولا المتجرد ، في واقعية عاملة ، تشعر بمثالية سامية ، يدفع إليها الوجود الإنساني ، ليبغ منها أقصى ما تناله قواه ويسعف عليه اجتهاده . الذي يلتمس هدى القرآن في وصل عبادة الصوم هذه ، بالحياة الاجتماعية العاملة ، ويذهب إلى القرآن الكريم إذا ما كان يهدينا إلى إبدال الصوم ، والاستبدال به في مواطن اجتماعية مختلفة ، وإذا ما كان يجعل بدل الصوم إطعام مسكين ويجعل الصوم بدل الإطعام والكسوة وتحرير الرقيق ، وإهداء الهدى - وهو لون من الصدقة - ويجعل بدل تلك الأعمال الاجتماعية كلها صوما ، فهل يؤذن ذلك كله ، بأن من هدى القرآن ، أن يصل هذا الصوم بالحياة الاجتماعية العاملة ، وصلا وثيقا ؟   

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 161 مشاهدة
نشرت فى 6 أغسطس 2011 بواسطة MOMNASSER

ساحة النقاش

د .محمد ناصر.

MOMNASSER
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

357,861