د . محمد ناصر
الترانسفير وسياسة الإبعاد الجماعي القسري ضد الشعب الفلسطيني .
الترانسفير معناها باللغة العربية النقل، معناها السياسي أخطر بكثير من هذا المعنى المحايد، اليهود على وجه التحديد - هم أكثر الناس في العالم الذين يعرفون المعنى السياسي للكلمة .
فأبان الاحتلال النازي ي لدول أوروبا تم الاتفاق مع عدد من القيادات الصهيونية على نقل اليهود من هذه البلاد إلى معسكرات الاعتقال سيئة السمعة كبو خنوالد واوشيفيتز متابل السماح
لاعتداد من اليهود المنتقين الأغنياء والأقوياء بالرحيل إلى فلسطين .
عمليات النقل تلك كانت تتم في إطار ما سمي بخطة الحل النهائي للمشكلة اليهودية. ثم ارتبطت الكلمتان ببعضهما : الترانسفير والحل النهائي . اكتسبتا معنى خاص هو التهجير والإبعاد والإبادة لذا. فعندما يستخدم صهاينة هذه العبارات فإنها تحمل مباشرة هذه المعاني ولا يكون مقصورا- كما يحاول واحد من الداعين إليها - أن يتم ذلك بمحض الاختيار. وإنما تعنى إجبار الناس على ترك بيوتهم ، والانتقال من أوطانهم إلى أماكن أخرى بالقهر والقمع أيضا.
والواقع - كما دافع واحد من ابرز دعاة الترانسفير عن نفسه : "أن الصهيونية الحقيقية ليست
أكثر من تاريخ قرن من الزمان من الطرد والمحاولات التي لا تنتهي لأبعاد العرب عن البلاد ولكن المقتول الجنرال رحبعام زئيفي -بالطبع- صهيوني أصيل، لذا لم يفته أن ينسب بعض الفضل إلى نفسه في هذه الجريمة . فكان قد تقدم قبل قتله باقتراح مطور يسميه الترانسفير الارادي . أي بالترانسفير الذي يعتمد على ترك العرب الفلسطينيون بإرادتهم لبلادهم.
والاقتراح على سذاجته وبالرغم من مقتل صاحبة لا يجب إغفاله. فلم يكن رحبعام زئيفي من الغباء بحيث يتصور أن الفلسطينيون يمكن أن يتركوا بلادهم بإرادتهم، لذا فهو كان قد اقترح خلق الظروف التي تدفعهم إلى خارج البلاد . مع الاستعداد لاستثمار كل ظرف لتحقيق هذا الغرض تاريخ قرن من الزمان من الطرد والمحاولات التي لا تنتهي لأبعاد الفلسطينيون عن بلادهم ذلك هو تاريخ الصهيونية الحقيقية. بدأت منذ مطلع القرن العشرين في فلسطين بعمليات تهجير مموهة للفلاحين الفلسطينيين من الأراضي التي كان الصهاينة يحصلون عليها بالتدليس، والتزييف وإغراء ملاكها الأجانب ببيعة عندئذ يقوم اليهود القادمون من شرقي أوروبا بطرد الفلاحين العرب الفلسطينيين من الأرض التي زرعوها وآباؤهم وأجدادهم مئات بل الآلف السنين بحجة إقامة مستوطنات يهودية خالصة هي الكيبوتسات التي كانوا يتباهون بإقامتها أمام الأوروبيين، بدعوى أنهم أول من طبق الاشتراكية في الزراعة . واشتراكيتهم المزعومة هذه قامت على أساس عنصري هو طرد الفلاحين العرب، لأنهم عرب ولأنهم أصحاب الأرض ولم يكن أمام هؤلاء إلا أن يلتحقوا بالمدن كعمال إجراء، ثم جاءت المشاريع الرأسمالية الصهيونية، ووضعت قاعدة العمل العبري، بحيث أرغم كثير من العمال العرب على الهجرة والرحيل بحثا عن الرزق. وكان العمل العبري – أيضا - دليلا على عنصرية الصهيونية التي ادعت أنها حركة علمانية غير دينية ثم جعلت من الانتماء إلى اليهودية شرطاً للعمل ولملكية الأرض ثم المواطنة بعد ذلك. وتزايدت سرعة عمليات الطرد، خاصة بعد مجيء لجنة بيل البريطانية عام 1937 إلى فلسطين وطرحها لأول مرة فكرة تتميم فلسطين بين العرب واليهود. ومنذ هذا الحين أخذت الصهيونية تتواجد المستوطنين على الأراضي المزمع تسليمها لهم. وتطارد العرب الفلسطينيين في أرزاقهم وعيشهم وحياتهم لإخلائها.
عملية الترانسفير الكبرى التي تمت بالفعل في فلسطين، أو من فلسطين، تمت في الأشهر الأخيرة من عام 1947 والأولى من عام 1948. عندما نشبت حرب فعلية بين الشعب الفلسطيني من جانب وعصابات الصهاينة من جانب أخر . يحاول فيها الأولون البقاء على أرضهم ومحاصرة التوسع الصهيوني ويعمل فيها الآخرون - طبقا لخطة سابقة- على طرد السكان من القرى والمدن وجميع المواقع المهمة. كانت تلك هي الحرب العربية الإسرائيلية الأولى، على خلاف ما يذكره المؤرخون وهو أن الحرب الأولى كانت بين الجيوش العربية وجيش إسرائيل. فتلك كانت -في واقع الأمر- الحرب الثانية التي بدأت متأخرة جداً بعد شهور من حرب ضروس ناشد فيها الفلسطينيون الدول العربية أن تزودهم بالسلاح مجرد السلاح فلم توفره لهم .
إن التاريخ التفصيلي لهذه الحرب العربية الإسرائيلية الأولى يبين كيف نجحت الصهيونية- للأسف- في إخفاء إخبارها وكيف تم تغيبها عن عمد ذاكرة البشر . لكي تحل محنها إحداث حرب عام 1948 التي تصور إسرائيل نفسها فيها كحمل وديع هاجمته الذئاب من كل موقع ولكنه استطاع أن يهزمها جميعا . ثم تروج أكذوبة أن الرؤساء والملوك العرب هم الذين طلبوا إلى الفلسطينيين مغادرة أرضهم ، لحين الانتهاء من إسرائيل، والحقيقة أن الجيوش العربية قد دخلت فلسطين بعد أن كان القسم الأكبر من المهاجرين الفلسطينيين قد اضطروا إلى تركها –بالفعل- إلى حيث تحولوا إلى لاجئين.
يذكر الكاتب والباحث الفلسطيني الأستاذ إلياس صنبر في كتابه المنشور باللغة العربية مترجما عن الفرنسية "فلسطين عام 1948 التغييب" أن القيادة الصهيونية وبالدقة قيادة الهاجاناه، وهي واحدة من القوات العسكرية الإسرائيلية في ذلك الوقت. وضعت في شباط "فبراير" "وآذار" "ومارس" 1948 الخطة "د" أو (داليت بالعبرية). بديلا عن الخطط "أن و "ب" و "ج" التي رسمت سابقا والتي تم التخلي عنها بسبب تطورات الوضع السياسي . كانت الخطة "ج" قد وضعت في شهر تشرين الثاني "نوفمبر"1947 بعد التصويت لصالح قرار التقسيم في هيئة الأمم المتحدة وذلك استعدادا لاقتراب الحرب. و "لتنظيف" التي حددها قرار التقسيم لليهود. ثم وضعت الخطة "د" التي طلبت إلى قادة ألوية الهاجاناه "تعزيز الدفاع عن المناطق المسيطر عليها. وإنشاء خطوط دفاع جديدة، عن طريق احتلال جميع الحصون البريطانية وجميع القرى العربية المجاورة للمستوطنات اليهودية، والسيطرة على جميع طرق
المستوطنات . ومحاصرة المدن، واحتلال جميع قواعد العدو المتقدمة "(ص 158) ويحصى الأستاذ إلياس صنبر ثلاث عشرة عملية تم تنفيذها بين الأول من نيسان "أبريل" والخامس عشر من أيار "مايو" وهو موعد دخول الجيوش العربية ثمان منها خارج حدود التقسيم اليهودية أي في المجال المخصص مبدئيا للفلسطينيين.
ومرت أعوام ينصب فيها الزيف الصهيوني في آذان الناس حتى صدق كثيرون أن الشعب الفلسطيني قد ترك أرضه -بالفعل- بإرادته، ثم بدأت الحقائق تظهر. فلقد تغيرت الظروف ونهض الشعب الفلسطيني منظما نفسه، وأحرز من بين أبنائه قياداته المسئولة وبحث الفلسطينيون في خزانه التاريخ فتكشفت الحقائق، وطرقوا برشاشاتهم وقنابلهم وبطولاتهم ضمائر الناس فتقدم الشرفاء منهم يشهدون ويروون الحكايات عن المذابح التي قامت بها القوات الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني في الأشهر السابقة على دخول الجيوش العربية إلى فلسطين، وتبين للناس انه كما أن أعداد من الفلسطينيين طردوا ورحلوا من بلادهم فإن الشعب الفلسطيني قدم في سبيل البقاء على الأرض 14813 مقاوما وهبوا حياتهم في عام 1948 لكي تظل أرضهم فلسطينية.
هؤلاء الشهداء الذين أمكن تحديد أسمائهم، وأسماء مدنهم وقراهم الأصلية، وتاريخ استشهادهم (عارف العارف) النكبة، بيروت وصيدا، 1956 / 1960، في ستة أجزاء، الجزء الرابع، ص 11 إلى ص 221. والذين مضوا دون أن تذكر أسمائهم لا ريب أنهم أضعاف هذا العدد، بعد أن توزعت عائلات وقرى، وبعد أن غيبت سنوات اللجوء الأولى السجلات والوثائق وأخفت السلطات العربية الحقائق عن الناس. الأستاذ إلياس صنبر يخلص في كتابه إلى ما يلي : "أن القوات العربية لم تخسر حرب الحفاظ على الأرض الفلسطينية وإنما حرب استعادتها، ذلك أن حربين أنين قد حصلتا في الواقع .
انتهت الأولى في 15 أيار "مايو" بطرد الفلسطينيين وإقامة الدولة اليهودية في مكانهم، والثانية وضعت هذه الدولة في مواجهة جيوش الأقطار العربية المجاورة. لقد وقعت حربان يدمجهما الصهاينة -عادة- في حرب واحدة، هي الثانية تحديدا . هذا الدمج هو ما يجب كسره، للخروج من الإشكالية المغشوشة حتى نتمكن أخيرا من التحدث عن ضخامة الطرد، وعن الزوال الفعلي للوطن الفلسطيني (ص 178) .
على طول القرن الماضي وجدت الصهيونية مقولات "إيديولوجية" تبرر عمليات الطرد والإبادة أولى تلك المقولات - وهي التي سادت في مطلع القرن المنتهي- كانت مقولة أن فلسطين هي أرض بلا شعب واليهود شعب بلا أرض- لذا فهم يستحقونها. القائلون بهذه الفرضية لم يكونوا يجهلون أن في فلسطين شعبا وأنها بكل المقاييس - في ذلك الوقت - كانت بلدا مسكونا ذات حضارة ومعروفا أيضا لمن هم خارجه، فليست فلسطين بقعة مجهولة لا في التاريخ ولا في الجغرافيا وليس من المعقول تصور انه كان في القرن من يظن انه ليس في فلسطين شعب .
ربما انخدع بعض اليهود بهذه العبارة ولكنهم عندما جيء بهم إلى فلسطين وجدوها مسكونة وعامرة ولم يتراجعوا وإنما أخنوا ضمائرهم - إن كانت موجودة- وراء هذه الكلمات الست:
" أرض بلا شعب وشعب بلا أرض" . حتى رأى جابوتينسكى فلسطين - ولم يكن على أي حال من الرعيل الأول للمستوطنين - وأوصى بإبادة سكانها الذين لا بد سيموتون بلدغات العقارب والثعابين . بعد شعار "أرض بلا شعب وشعب بلا أرض" تم ترويج فكرة عبرية الأرض وعبرية العمل، وكلتاهما - مع الفكرة الأولى تفترض إبادة الشعب الفلسطيني . فإن كانت الفكرة الأولى تفترض أن الأرض بلا شعب فإن السلوك المترتب على ذلك هو نفي هذا الشعب، أي إلغاؤه ما دام من المستحيل -طبعا- نفي الأرض- في ذلك الوقت- وإلا لا تنفى تماما دافع الهجرة عند اليهود، إذ لم تعد هناك فلسطين التي يتولون أنها أرض الميعاد . لقد حرص الصهاينة منذ البداية على إنكار وجود الشعب الفلسطيني، واستعملوا بدهاء شديد كلمة العرب ليصفوا بها سكان فلسطين . ولم يتعرض الفلسطينيون وبالطبع -فهم عرب ويفخرون بعروبتهم- ولكن الهدف الصهيوني كان هو إنكار وجود شعب فلسطين. تمهيدا ليوم ينكرون فيه وجود فلسطين ذاتها كاسم، وهو ما فعلوه عند إعلان دولتهم باسم جولة إسرائيل وهو أيضا ما يزالون يفعلونه بالحديث عن ارض إسرائيل الكبرى بدلا من فلسطين وبالإصرار على عدم قيام دولة فلسطين المستقلة .
لقد تداخلت العلاقة بين صفة البشر وصفة الأرض. واكتشف الصهاينة أن الفلسطينيين قد احتفظوا بهوية الأرض التي أعطتهم هي هويتها في الأصل . وهكذا لم يعد ممكناً - من الناحية النظرية على الأقل- أن يتحقق المشروع الصهيوني كاملا إلا بنفي الأرض والشعب معا أي بنفي الهوية الفلسطينية المستقلة وبتغييب اسم فلسطين . ولعل ذلك ما يبين أهمية التأكيد على فلسطين المستقلة كهدف استراتيجي للشعب الفلسطيني بكافة فئاته . إذا أن قيامها على أية بقعة من بقاع فلسطين سيعني بداية النهاية للمؤسسة الصهيونية على أرضها. ناهيكم عما سيثيره من تساؤلات في ضمير الرأي العام العالمي . وفى الضمير الإسرائيلي نفسه الذي بدأ بعض شرفائه ومتعصبيه -أيضا- يتساءلون وهم يناقشون الانسحاب من الضفة الفلسطينية وغزة عن الفرق بين نابلس ورام الله المستقلتان ويافا وحيفا وعكا والقدس وغيرها.
في اجتماع ضم ضابطا بريطانيا وموظفا يهوديا في حكومة الانتداب البريطانية تساءل الأول عما إذا كانت الدولة اليهودية لن تواجه الكثير من الاضطرابات الداخلية، نظرا لكون العرب فيها بعدد المواطنين اليهود تقريبا، فأجاب الموظف اليهودي قائلا "أوه" كلا إن الأمر سيحل، إن بضع مجازر محكمة التنفيذ ستخلصنا منيم عما قريب".
ولقد كانت خطط المجازر معدة بعضها للغزو وبعضها للطرد الذي لم يكن - كما يدعي
بعض الصهاينة الآن - مجرد نتيجة من نتائج الحرب وإنما كان مقصودا ومخططا . لقد اعترف مؤرخ عسكري إسرائيلي بذلك وهو ينقل أحداث فترة الحرب الفلسطينية الإسرائيلية الأولى ( تشرين الثاني 1947 - آيار 1948) مصورا أنها كانت حربا دفاعية من جانب الصهاينة . وان هذه الدفاع أصبح أمراً واجباً وما عاد للتردد من مكان. إذ أن بقاء القدس اليهودية غير ممكن إلا باحتلال قرية القسطل العربية... فقد كان يجب احتلال القسطل وإذا لم يسمح لحيفا اليهودية أن تتعايش وحيفا العربية فقد كان يجب احتلال -حيفا ولقد وقعت مذبحة القسطل بالفعل، وإن كانت حكايتها قد غطت عليها مذبحة أخرى وقعت بعد أيام من الأولى هي مذبحة دير ياسين. لقد احتل الصهاينة قرية القسطل الواقعة على طريق القدس كجزء من خطتهم المذكورة آنفا بالسيطرة على الطرق المؤدية إلى المدينة المقدسة كان ذلك اليوم الثاني من شهر ابريل " نيسان" عام 1948، وكان القائد الفلسطيني عبد القادر الحسيني في ذلك الوقت في دمشق يسعى إلى الحصول على الأسلحة والذخائر ليحارب بها. لكنه عاد دون أن يحصل إلا على بضع بنادق . هذا في الوقت الذي كان الصهاينة فيه يحشدون خمسة الآلف رجل من البلماخ والهاجاناه مسلحين بأسلحة حديثة . اشتروها من تشيكوسلوفاكيا ونقلوها إلى فلسطين بحرا وجوا. إلى جانب الدبابات الخفية والسيارات المصفحة التي حصلوا عليها من سلطات الانتداب البريطاني من قبل . كانت القسطل أول قرية عربية تحتلها الصهاينة عام 1948 وقد -أدى سقوطها والمذابح التي وقعت فيها إلى هز مشاعر الناس فانطلق المئات من شباب القدس وقراها ورجال العشائر نحوها، وشن المجاهدون بقيادة جيش الجهاد هجوما مضادا .
وتمكنوا بعد قتال - من دفع الصهاينة إلى داخل القرية، وأصبحوا على بعد مائتي متر من وسطها . ثم توقفوا عن إطلاق النار توفيرا للذخيرة وفي انتظار المدد . ولقد أصيب في هذا القتال قائد القوة العربية المهاجمة كامل عريقات، وحل محله المجاهد إبراهيم أبو دية وتحولت معركة القسطل إلى معركة حاسمة: الصهاينة يدفعون بنجداتهم والعرب يثبتون مواقعهم بما يصلهم من نجدات من المجاهدين . حتى وصل القائد عبد القادر الحسيني إلى القدس عائدا من دمشق. فأعلن تنظيم القوات ورتب خطة الهجوم، واقتحم القرية وحررها، وفر الصهاينة واستشهد عبد القادر الحسيني. وبدأت باستشهاده محنة أخرى.
عندما عاد الشهيد عبد القادر الحسيني من دمشق إلى القدس، وقبل أن يتحرك إلى القسطل ترك لزوجته رسالة قصيرة يقول فيها أنها "الأنظمة العربية" قد تركت لنا خياراً بين ثلاثة: إن نهرب إلى العراق أو ننتحر أو نسقط مقاتلين هنا . ولقد كان الحسيني قائدا شابا محبوبا بين الشعب الفلسطيني، وأدى استشهاده إلى اندفاع الكثيرين لتشييع جنازته، على الرغم من تنبيه قيادة المجاهدين للناس بضرورة التحصين في مواقعهم، تحسبا للهجمات الصهيونية المتوقعة، وهكذا ترك الرجال في قرية دير ياسين القريبة من القدس أماكنهم وذهبوا لتشييع جنازة القائد الشهيد الذي كانت إذاعة الهاجاناه تكرر نبأ استشهاد، متعمدة للنيل من معنويات الناس في دير ياسين وقعت أشهر المذابح الصهيونية تاريخ الشعب الفلسطيني قبل مذبحة صبرا وشاتيلا. في ذلك الوقت في ليلة 9 / 10 نيسان "ابريل" 1948. وبينما كانت فرق البلماخ "الصاعقة" الصهيونية محاصرة في القسطل -هاجمت دير ياسين مجموعتان من عصابتي الارجون وشتيرن. وهما تنظيمان صهيونيان اشتهرا بالأعمال الإرهابية الفجة والمباشرة . وكانا بذلك أداة المنظمة الصهيونية العالمية لتنفيذ الأعمال التي لا يمكنهم الدفاع عنها علنا . بعد بضع ساعات من هذا الهجوم تم اعتقال من تبقى من الرجال ووضعوا في شاحنة طافت بهم شوارع الأحياء اليهودية في القدس، ثم أعيدوا إلى محجر بالقرب من القرية واعدموا هناك بكل برودة أعصاب وبعدها جمع المهاجرون من بقي على قيد الحياة من النساء والأطفال ونقلوهم إلى جوار بوابة مندلبوم في مدينة القدس، والملاحظ الآن أن عصابات الصهاينة حرصت على إذاعة أنباء هذه المذبحة، وأن ألقت بمسئوليتها - طبعا- على هاتين العصابتين الصهيونيتين وكأن الوكالة اليهودية التي كانت مسؤولية – وقتذاك- عن جميع المناطق الواقعة في أيدي اليهود ء لا تعرف شيئا .
ولقد سيد رجل شريف هو جاك دورينيه . رئيس بعثة الصليب الأحمر الدولي إلى فلسطين عام 1948 على هذه المذبحة، وكذبة الصهاينة -بالطبع- وبعد سنوات طويلة كشف مشارك في هذه المذبحة، أصبح فيما بعد كولونيك في الجيش الإسرائيلي -هو مئير بعيل عن تفاصيلها وأكد اشتراك الهاجاناه "القوة الضاربة اليهودية" في التخطيط وفي التنفيذ، كما اعترف عدد من القادة الصهاينة بل تفاخروا بهذه المذبحة التي لم يشكل وقوعها أي مكسب عسكري استراتيجي أو تكتيكي، ولكنها شكلت مجزرة نموذجية تطرح على أصحاب البلاد خيارا من اثنين: الرحيل أو الموت .
ولقد تفاخر مناحيم بيغن - فيما بعد - بأنه لولا مذبحة دير ياسين لما قامت دولة إسرائيل، كما أن الرئيس الأول لدولة إسرائيل، حاييم وايزمن - قال في نهاية هذه الحروب الأولى: "إن مغادرة أعداد كثيفة من السكان الفلسطينيين قد سهل مهام الصهيونية بشكل إعجازي وأسهم في
جعل - الدولة بكاملها ومنذ ولادتها يهودية محض". ما وقع لقرية دير ياسين وأهلها وقع لغيرها وتوالت هجمات الصهاينة على القرى والمدن العربية، وتكررت المذابح وتكشف الوثائق الإسرائيلية الصهيونية الآن عن عمليات الاحتلال والطرد التي اتخذت كل منها اسما خاصا، والتي يتفاخر بها الآن مؤرخو إسرائيل . وقاومت المدن والقرى ونقل الرجال النساء والأطفال إلى الخلف لكي يتفرغوا للقتال وجاءت شاحنات بريطانية ثم عربية لنقل هؤلاء إلى المناطق العربية المجاورة.
ما انتهت الحرب الفلسطينية الإسرائيلية الأولي ودخلت الجيوش العربية إلى فلسطين في مايو
1948، حتى بدأت مذبحة صهيونية كبرى أخرى للقرى الفلسطينية، وبدأ الغزاة الصهاينة في إزالة عشرات القرى عن وجه الأرض. حتى تلك التي لم يكن لديهم مستوطنون جدد ليسكنوا فيما. بعض القرى تم هدمها وبناء مستوطنات جديدة عليها، وبعض القرى تم هدمها وشق طرق عريضة على أرضها والبعض تم هدمه وترك خرابا لتنمو فيه الأعشاب البرية ويتحول إلى أكوام من حجارة تتخللها أشجار الصبير . لتقف شاهدا على أن هذه البلد كانت مسكونة من قبل.
كان الصهاينة قد اتخذوا من شجرة الصبير اسما للمولودين الجدد من أبناء اليهود المهاجرين إلى فلسطين تشبها بتلك الشجيرة الأصلية التي تستطيع العيش في أشد الظروف قسوة والتي تملك من الأشواك الصغيرة أسلحة حماية لمن يحاول لمسها . العرب من قبل اليهود بمئات السنين كانوا قد اتخذوا من شجرة الصبير "التين الشوكي" حارسا لحواكيرهم "الحدائق الصغيرة حول البيوت": إذ تنمو وتوالد وتحرس الساحات في وجه كل غريب ولا تحتاج إلى عناية أو تدليل لكي تعيش وان هي قطعت تنمو من جديد وتتزايد.
حافظت شجرة الصبير على مواقع القرى الفلسطينية ولم تفلح جرافات المعتدين المحتلين الصهيونيين في إزالتها أو القضاء عليها، وعندما انهارت الأحجار ظلت الشجيرات المعطاء ثمرا حلوا، تقاوم وتستعصي على رغبة المحتلين إخفاء كل اثر لقرى فلسطين، وتعود الأطفال العرب والكبار أيضا الذين أمكنهم البقاء على الأرض أن يخرجوا إلى حيث توجد على سطح الأرض مجموعات من شجيرات الصبير وأكوام من الحجارة ليحكي الكبار للصغار حكايات البيوت القديمة، ويجمع الصغار الزهور البرية ويضعونها من الورد تحية لذكرى الشهداء الذين استشهدوا دفاعا عن هذه القرى قبل تدميرها.
من بين مقدمة القرى التي هدمت - بالطبع – القسطل، ودير ياسين والفالوجا، وعراق المنشية، وكل القرى التي شهدت معارك بطولية خاضها المجاهدون أو جنود الجيوش العربية ضد قوات الصهاينة. بلغ عدد القرى التي هدمت في قضاء صفد في شمالي فلسطين سبعين قرية، وفي قضاء طبرية شمال غربي فلسطين خمسا وعشرين قرية، وفي قضاء عكا على ساحل فلسطين خمسا وعشرين قرية، وفي قضاء الناصرة في جليل فلسطين خمس قرى، وفي قضاء حيفا في الوسط الغربي تسعا وثلاثين قرية، وفي منطقة جنين خمس قرى، وفي منطقة بيسان تسعا وعشرين قرية، وفي منطقة طولكرم إحدى عشرة قرية، وفي منطقة يافا ثلاثا وعشرين قرية، بالإضافة على أقسام كبيرة من الحي العربي في يافا نفسها،وفي منطقة الرملة ستين قرية، وفي المناطق التي أمكنهم السيطرة عليها عام 1948 من قضاء الخليل سبع عشرة قرية، وكان نصيب قرى غزة قبل أن يصبح اسمها قطاع غزة بعد النكبة- ستا وأربعين قرية، ولحق بمنطقة بئر السبع تدمير ثلاث قرى. وبذلك بلغ مجموع القرى التي غيبها الصهاينة من على سطح الأرض 388 قرية، ظلت في قلوب أصحابها حيثما اضطرتهم الهجرة القسرية إلى اللجوء، حتى أن بعضهم حافظ في مخيمات اللجوء على الاسم وعلى التشكيل الاجتماعي نفسه الذي كان قائما، بما في ذلك المخاتير.
التغييب الأكبر لم يتوقف عند هدم القرى وغنما تخطاه إلى نفي اسم فلسطين نفيا كاملا، بإعلان دولة إسرائيل، ثم بتغيير الاسم حتى غاب عن أذهان العالم أسماء يافا وعكا حتى القدس التي نودي عليها باسمها التوراتي القديم اورشاليم. وغابت عن القواميس وكتب الجغرافيا كلمة فلسطين وشبت أجيال في العالم الخارجي لا تعرف أن فلسطين كانت موجودة إلى سنوات قريبة، وقد فاجئها الشعب الفلسطيني عندما أحيا هذا الاسم من جديد في إسماع العالم كله من خلال مقاومته المستمرة لاحتال أرضه ومحاولة طمس هذا الشعب عن خارطة العالم.
إن الكثيرين في العالم لم يسمعوا قبل أن يأخذ الشعب الفلسطيني زمام أموره بيده باسم فلسطين خاصة بعد أن توقفت الجمعية العامة الأمم المتحدة عن مناقشة القضية منذ عام 1952 حتى عام 1974 عندما عاد اسم فلسطين بفضل النضال البطولي الذي خاضه الشعب الفلسطيني تحت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، ووقف الرئيس ياسر عرفات على منبر الأمم المتحدة بزيه العسكري وغطاء الرأس الفلسطيني، ليقدم إلى العالم من جديد فلسطين التي أفلحت الصهيونية في تغييبها طوال هذه السنين.
ثم جرت دماء كثيرة واستطال طابور الشهداء، واشتعلت الانتفاضة الفلسطينية الأولى الباسلة لتفاجئ قطاعات كبيرة من الرأي العام العالمي بحقيقة وجود الشعب الفلسطيني حتى اعترفت مئة وسبع دول بفلسطين.
عندما أعلن المجلس الوطني الفلسطيني في دورته التاسعة عشرة في نوفمبر 1988 استقلالها، ولم يقف ضد هذا الإعلان إلا إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية. كأشجار الصبير التي بقيت على الأرض ونمت بأشواكها الرقية أيدي المغتصبين الصهاينة زاد وتكاثر العرب الفلسطينيون الذين بقوا على الأرض متحملين أقصى الظروف محرومين من ابسط الحقوق حتى من اسمهم بعد أن أطلقت عليهم سلطات الاحتلال الإسرائيلي اسم عرب إسرائيل فاختاروا هم اسم عرب 1948، تذكير بالنكبة التي حولتهم من أبناء وطن إلى لاجئين في هذا الوطن يعاملون معاملة من الدرجة الثانية.
كان الناس يعيشون وفي ذكرتهم مذابح دير ياسين وقبيه وغزة واللد والرملة ونحالين. ثم جاءتهم مذبحة جدية أصبحت يوما وطنيا في ذاكرتهم الجماعية هي مذبحة كفر قاسم. ولقد كادت حكاية مذبحة كفر قاسم أن تمر دون أن يلحظ احد علاقتها بمسلسل المذابح الصهيونية وعمليات التهجير والأبعاد، حتى كشف دفاع واحد من منفذيها عن سرها. فالمذبحة وقعت يوم 29/10/1956 وهو اليوم الذي بدا فيه العدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الإسرائيلي على مصر بحجة إعلان الرئيس جمال عبد الناصر تأميم شركة قناة السويس. وفي ذلك اليوم استدعى قائد الكتيبة الإسرائيلي الذي كلف بالعمل في منطقة تضم عدة قرى من منطقة المثلث في فلسطين واسمه يسفلر شدمي- استدعى من يسمى بالرائد شيموئيل ملنكي وابلغه بالمهمات الموكولة إلى وحدته، والتعليمات بطريقة تنفيذها، واتفق على أن يكون حظر التجول على قرى المنطقة من الساعة السادسة صباحا، وشدد شدمي على أن يكون منع التجول حازما، وألا يتم اعتقال المخالفين وإنما تطلق عليهم النار، وذلك تجنبا ل " تعقيدات الاعتقالات".
نقل ملنكي تعليمات قائده مضيفا إليها قوله" من المرغوب فيه أن يسقط بضعة قتلى".
وبدأ التنفيذ، على الرغم من أن مختار قرية كفر قاسم ابلغ القادة الإسرائيليين أن هناك 400 من الأهالي هم في العمل خارج القرية. وانه لا يوجد وقت كافي لإبلاغهم، ووعده محدثه الإسرائيلي بان يسمح لجميع العائدين من العمل بالمرور على مسئوليته ومسئولية الحكومة. ولكن المذبحة بدأت في الخامسة وعلى موجات حتى بلغ عدد الشهداء ثمانية وأربعين، من بينهم سبعة من الأولاد والبنات وتسع من النساء شابات ومسنات إحداهن عمرها ستة وستون عامان ومن بين الأولاد طفل عمره ثماني سنوات. حاولت الحكومة الإسرائيلية التكتم على المجزرة وإخفاء الأولاد طفل عمره ثماني سنوات. حاولت الحكومة الإسرائيلية التكتم على المجزرة وإخفاء وقائعها، وكان على رأسها بن غوريون الذي كان من أنصار عمليات الترانسفير، أي النقل والأبعاد القسري، على الرغم من دفاع بعض أنصاره عنه- ولكن أخبار المذبحة تسربت واضطربت الحومة والجيش الإسرائيلي إلى تعيين لجنة تحقيق ثم إحالة عدد من الضباط والجنود على المحاكمة وإصدار أحكام بالسجن على بعضهم، بعد محاكمة استمرت قرابة العامين، وثم تخفيض الأحكام- عدة مرات- حتى إفراج عن سائر القتلة-. وأطلق سراح أخرهم في مطلع علم 1960 أي بعد مرور ثلاثة أعوام ونصف العام على المذبحة.
العقيد يسفار شدمي صاحب الأمر الأول في هذه المذبحة قدم إلى المحاكمة في مطلع عام 1959، وكانت عقوبته التوبيخ ودفع غرامة مقدارها قرش إسرائيلي واحد أي ما يساوي مليما مصريا في ذلك الحين. المهم أن الضباط والجنود الإسرائيليين حاولوا الدفاع عن أنفسهم في أثناء المحاكمة بأنهم ظنوا أن الهدف هو دفع عرب المثلث إلى الرحيل ما دامت هناك حرب. وأنها ستكون فرصة للتخلص من عدد كبير من عرب إسرائيل، وكانت بعض أقلام المناصرين لإسرائيل تصور الأمر وكان الجيش الإسرائيلي يمنع قيام العرب بعمليات خلف خطوطه.
تغلب العرب الفلسطينيون الذين أمكنهم البقاء على الأرض بعد نكبة عام 1948 على صدمة النكبة، ثم اخذوا ينظمون حياتهم وأنفسهم ويواجهون سياسات الاقتلاع الصهيوني مكتشفين أساليب جديدة في الموجهة، ومستغلين كل ثغرة ممكنة للدفاع عن وجودهم ومتمسكين بعروبتهم وأرضهم. كان عددهم وقت النكبة لا يزيد على 160 ألفا، ولكنهم في سنوات قليلة نسبيا تضاعفوا، وبلغت نسبة تزايد السكان بينهم حسب تقدير السلطات نفسها 5,9% سنويا مقابل 1,5% للسكان اليهود، بحيث قدر هؤلاء الأخيرين أن نسبة السكان العرب في منطقة الجليل شمالي فلسطين ستزيد على النصف من إجمالي السكان العرب في منطقة الجليل شمالي فلسطين ستزيد على النصف من إجمالي السكان في عام 1978، وان ذلك " سيضع سيطرتنا على هذه المنطقة في خطر". هذه العبارة جاءت في تقرير سري قدمه المفوض إسرائيل كوينج حاكم المنطقة الشمالية" الجليل" في فلسطين المحتلة إلى رئيس الوزراء، اسحق رابين في 1/3/1976 يحلل فيه أوضاع المواطنين الفلسطينيين داخل حدود عام 1948 ويقترح تغييرات في السياسة الإسرائيلية لمواجهة زيادتهم.
ثم جاء يوم الأرض في 30/3/1976، وهو يوم فاجأ الصهاينة الغاصبين بنهوض فلسطيني إجماعي شهد المظاهرات والاحتجاجات والتصدي لقوات الجيش الإسرائيلي وسقط فيه ستة من الشهداء دفاعا عن حق التمسك بالأرض واحتجاجا على مخططات المصادرة وقد تحول هذا اليوم على يوم وطني فلسطيني كله كل عام.
وسارع الحاكم العنصري كوينج إلى تقديم اقتراحاته على الحكومة الإسرائيلية لمواجهة هذا النهوض العربي الفلسطيني، وقد لاحظ أن حرب " الأيام الستة" أي حرب عام 1967 خلقت موجة من الوطنية ازدادت قوة بعد حرب أكتوبر عام 1973 والأحداث التي تلتها، وتمثلت في الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية حاملة للواء النضال من اجل القضية الفلسطينية وقال كوينج أن " العرب الإسرائيلي لم يعد سلبيا وإنما نتقل إلى مرحلة جديدة من مراحل العمل الوطني. كما لاحظ كوينج في تقريره أن الزيادة في عدد السكان العرب تعطي العناصر الوطنية شعورا بالقوة والأمل في أن الزمن يعمل لصالحهم، وان هناك مؤشرات لنشاط منظم في مجال شراء الممتلكات في الشمال.
مما يعطيهم" أي يعطي العرب" سيطرة قوية على بعض مجالات الاقتصاد، وذلك يؤدي إلى زيادة إمكانية الإضراب ورفض التعاون، كما أن تحول عدد كبير من الفلاحين العرب إلى مجال العمل في المصانع يعجل بالانقسام بين اليهود والعرب ويتطور إلى حوادث عنيفة لا يمكن السيطرة عليها في مواجهة ذلك كشف الإسرائيلي العنصري كوينج عن مكنون أفكاره، إذ اقترح تطبيق قواعد تقلل كثيرا عدد الطلاب العرب في الجامعات الذين أوصى بتشجيعهم إلى الانتساب إلى الاختصاصات الفنية والعلوم الطبيعية، حتى لا تتوافر لهم فرص العمل بعد تخرجهم، فيضطرون إلى الهجرة. كما أوصى صراحة بتشجيع الطلاب العرب على السفر إلى الخارج للدراسة، ثم تضييق الخناق على عودتهم وتشغيلهم في إسرائيل مصرحا بوقاحة- بان هذه السياسة ستساعد على التخلص من أعداد منهم.
ولقد أثار نشر تقرير كوينج في صحيفة عل همشمار في 7/9/1976 ضجة هائلة لعنصريته الواضحة، وحاولت الحكومة الإسرائيلية إنكار وجود هذا التقرير، ولكنها اقرب به مدعية انه مجرد توصيات وأن سياستها تختلف عما جاء فيه. ولكن واقع الحال اثبت أن توصيات كوينج كانت أهون بكثير من الممارسة الفعلية للسلطات الإسرائيلية. في اليوم السادس من شهر حزيران" يونيو" 1982 عبرت قوات إسرائيلية ضخمة مزودة بأحدث الأسلحة والمعدات، وتحت غطاء جوي مدفعي وبحري كثيف حدود فلسطين الشمالية متقدمة داخل الأراضي اللبنانية بهدف معلن في البداية وهو إجلاء قوات منظمة التحرير الفلسطينية إلى مسافة 45 كيلو متر من شمالي فلسطين بدعوى تامين المستوطنات الصهيونية في من منطقة الجليل ثم أعلن شارون وزير الدفاع – وقتذاك- هدفه وكان القضاء على البنية التحتية لمنظمة التحرير الفلسطينية في لبنان. والذي يسمع عبارة البنية التحتية لمنظمة التحرير الفلسطينية في لبنان وهو خارج لبنان وفلسطين وقد يتصور أن هناك بالفعل تحصينات واستعدادات ومستودعات وورش صيانة ومؤسسات كتلك التي تتوافر لجيش لبلد من البلاد المستقرة بل الكبيرة. حقيقة الأمر أن منظمة التحرير الفلسطينية وقواتها كانتا متواجد تين في لبنان ولهما تأثير كبير، ولكن هذا التأثير الكبير لم يكن بفضل مؤسسات كبيرة وإنما يرجع إلى عزم كبير وثقة أكيدة بانتصار القضية بل يرجع" في الأساس" إلى الالتفاف الشعبي الجماعي الفلسطيني واللبناني حول منظمة التحرير الفلسطينية في مناطق وجودها، لذا فان حقيقة الهدف الإسرائيلي المعلن بالقضاء على البنية التحتية لمنظمة التحرير الفلسطينية، هي حرمان منظمة التحرير الفلسطينية من الجماهير المتمسكة بها والمؤيدة لها.
وذلك يفسر عمليات القصف البشعة التي تمت جوا وبرا وبحرا وشملت مناطق مأهولة بالسكان والمخيمات والقرى والجوامع والكنائس والمستشفيات والمدارس حتى السفارات. ولقد استعمل الجيش الإسرائيلي الجرافات كسلاح مركب على مقدمة الدبابات، وهو يحاول التقدم نحو بيروت، وتمت إزالة قرى ومخيمات عديدة بحجج عسكرية وادعاء أن مقاتلين فلسطينيين كانوا يتمرسون داخلها. وتشهد معادلة المخيمات الرشيدية والبرج الشمالي في منطقة صور على المقاومة العنيدة التي أيدها سكان المخيمات. وفي الرشيدية" على وجه التحديد" عرف الجيش الإسرائيلي مرارة الهزيمة على أيدي أطفال الشعب الفلسطيني الذين عرفوا بأطفال الار بي جية " قاذف صاروخي ضد الدبابات" والذين رفضوا الاستسلام" حتى بعد أن نفذت ذخيرتهم" إلى أن يأتي إليهم قائد إسرائيلي كبير، وان يعاملوا معاملة عسكرية تليق بهم.
أما في مخيم عين الحلوة بمنطقة صيدا فقد ظلت المعارك حوله وفي داخله أسبوعين كاملين، هدمت فيهما القوات الإسرائيلية كل بناء قائم بل كل جدار قائم ظل بعد انهيار البناء، وساهمت في هذه المذبحة الطائرات والمدفعية البرية ومدفعية الدبابات والصواريخ الثقيلة التي تطلقها الزوارق الحربية من البحر. كل ذلك موثق ومعروف لمن عاصر تلك الحرب، ولكن واقعة صغيرة تحرص أجهزة الإعلام الإسرائيلية دائما على إخفائها، وقعت في منطقة جنوب لبنان ما بين صور وصيدا، وذلك عندما وصل إلى منطقة القتال الصهيوني المتعصب ياكوف ميريدور، احد الزعماء البارزين لليكود الإسرائيلي، وأعطى توجيها للضباط والجنود كشف به حقيقة الهدف من غزو لبنان، فقد قال- وهو يتحدث عن الموقف من سكان المخيمات الفلسطينية في الجنوب" أي في صور وصيدا": ادفعوهم شرقا نحو سورية ولا تدعوهم يعودون" وقد شهد على هذه الواقعة قادة إسرائيليون من بينهم العقيد دوف يرمياه ، المكلف بشؤون السكان المدنيين أثناء الحرب.
ذلك هو الهدف الحقيقي، فالقيادة الإسرائيلية تعرف أنه ما دام البشر باقين سيتجدد القتال، ولن يكون هناك أمن للمستوطنات الإسرائيلية في شمال فلسطين المحتلة. وكان الهدف من هذه الحرب هو إجلاء الفلسطينيين عن مناطق جنوبي لبنان والتخلص نهائيا منهم، ولكن ذلك لم يحدث حتى واحد من المدافعين عن سياسة الترانسفير يتحدث صراحة على أنهم لم ينجحوا في هذه المهمة في تلك الحرب ألا وهو إيتان في إطار عقيدة تسفير الصهيونية وقعت عدة مذابح في لبنان بعضها قبل الغزو الإسرائيلي له، وبعضها عندما دخل الجيش الإسرائيلي إلى بيروت، وأهمها وأبرزها مذبحة صبرا وشاتيلا التي قامت فيها عصابات من اليمين المسيحي والمتطرف كتائبين وغيرهم، ومحترفو قتل إسرائيليون وتحت الغطاء المدفعي الإسرائيلي، والحصار الذي فرض على الناس لمنعهم من الإفلات من المجزرة- بذبح ستة ألاف لبناني وفلسطيني أكثر من نصفهم من النساء والأطفال وكان شارون بنفسه يشرف على المذبحة. الهدف هو نفي الوجود الفلسطيني تماما والوسيلة هي القتل والإبادة.
ولا نريد أن نتبحر في مغزى القرار الصهيوني الأخير المتمثل في طرد الآلاف من الفلسطينيين من أبناء غزة القاطنين على ارض الضفة الفلسطينية . وماذا يهدف مثل هذا القرار أو التلميح إليه ؟
ناهيكم عن قرارات الإبعاد الكثيرة التي أصابت ألاف الفلسطينيين على مر سنوات الاحتلال الصهيوني لأراضي الفلسطينية المحتلة من في عام 1967.
ساحة النقاش