إلى فيتوريو أريغوني 

 

فيتوريو، رحل فتياً بهياً، الكوفية كانت إضافة خلابة لأناقته الثورية، على ذراعه دق وشم 'المقاومة' بحروفية عربية رشيقة. مقتله هو قتل لكل شيء نبض بفلسطينيته في هذا الكون. فيتوريو تركتِه هي 'جيناته'، لك أن تحملها يا فيدريكو، الخيار لك.
 المواقع الأخبارية. ' العثور على جثة ناشط سلام إيطالي وصحافي في غزة'. في العادة، لا أكترث لمثل هذه الأخبار. 
لا يستوقفني الضحايا الأبرياء ولا الضحايا غير الأبرياء ولا الضحايا السذج ولا الضحايا النادمون لأنهم أصبحوا ضحايا ولا الضحايا لحظة يدركون المأزق الأخير لهم في الحياة، المأزق الحتمي، ذا الاتجاه الواحد، المأزق التصاعدي، الذي يكون عليهم تسلقه حتى أعلى نقطة فيه: الموت. الضحايا لا يستوقفونني. ليس استهتارا أو استخفافا، بل تخففا من الجدال الذي يحتم عليّ حالهم أن أعيشه مع نفسي. يضعني الضحايا أمام سؤال اللاجدوى. أتشردق. لماذا لا نستقيل من هذا النشاط الاجتماعي، ونترك الأمر للطقس مثلا؟ الزلازل. الهزات الارتدادية. انزلاقات التربة. الفيضانات.

 فيتوريو اريغوني ،الإسم فيه عبء وجمالية وإلهام، روح الشعر وفضاءات المسرح وسحر السينما وقوة الموسيقى، لكنها كلها تصب في صلابة النضال والإصرار على الإنتصار للحق والمظلومين، قيم جسدها فيتوريو في حياته ورحيله المفزع.
التغير المناخي. الاحتباس الحراري. الانقراض. أليس الطقس جديرا في تغيير موازين القوى على هذا الكوكب؟ فلنقدر القوة ( بمقياس اسحق نيوتن وحده) اللازمة لهزة أرضية لتدمير مفاعل نووي. فوكوشيما مثلا. أو لهدم مخبأ لسلفيين يحتجزون ناشطا إيطاليا. ولنكن أكثر تحديدا، مخبأ لسلفيين يحتجزون ناشطا إيطاليا لأن لديهم مشكلة مع حركة اسمها ' حماس'. مع افتراض أن الهزة اللطيفة ستحدس رائحة الناشط، خوفه، توتره الأخير، لون العصبة السوداء التي على عينيه، المسافة بين شفتيه المفتوحتين، كتفيه الساكنتين، سماكة الأصابع التي تمسك برأسه من الخلف وتثبته أمام كاميرا. نفترض ذلك لأننا إنسانيون، وهذا متناقض تماما مع توق الاستكانة إلى الطبيعة، الاستعانة بغضبها، أعني، ما كنا نقترحه قبل قليل. يبدو الأمر عبثيا. لا مفر. حسنا الإنساني التافه يرصدنا، إنه كزينة باهتة تتدلى من سقف غرفة بعد حفلة عيد ميلاد. إنسانيتنا، لا مفر من الاصطدام معها. الآن مثلا. 
فيتوريو يا فيدريكو كان بطلا في الحقل والبحر، دمه الايطالي النضالي وقلبه الفلسطيني يعنيك تماماً، ليس لأن جيناتك اختلطت بين نابولي ونابلس بيولوجيا، بل لأن جينات فيتوريو، كما يقول هو، هي جينات النضال والكفاح ضد الظلم. أجداد فيتوريو وأجدادك يا فيدريكو ناضلوا وحاربوا المحتل، المحتل المركب، المحتل النازي والفاشستي، محتل دخيل بجسده وآخر دخيل بفكره، محتل مركب صادر لسنوات رحابة وطيبة أهل إيطاليا.
محتل أجدادك المركب يا فيدريكو، هو تماماً كمحتلك المركب الحالي، صهيونية تمتزج مع فكر ظلامي، يسميه البعض جهادي وتكفيري، لكنني أرى نفس الجذور لهذا الاحتلال المتواصل. في الماضي تمت مصادرة وإقصاء النضال الشيوعي الإيطالي، لصالح المال خطة مارشال- والامبريالية، التي وضعت خطاً أحمر لحزب وطني شيوعي مناضل، استحق أن يقود مستقبل البلاد، لكن أصحاب القرار في البلاد الجديدة لم يمكنهم أن يتقبلوا حزباً شيوعياً يحكم في قلب أوروبا.
محتلك الآني، لديه ذات الجذور، مع بعض الإضافات، نفط يمول الفكر الظلامي وبمباركة أصحاب القرار في البلاد الجديدة، نازية الألمان لا تختلف بالمنطلق والشكل والفعل عن نازية الصهاينة من دير ياسين، مروراً بصبرا وشاتيلا وقانا 1-2 وغزة.
كل هذا وأكثر كان واضحاً وجلياً لفيتوريو، فيتوريو اختار بصلابة الفكر ورقة القلب أن يقف ليس إلى جانب الضحية بل معها. وليؤول الأمر إلى تراجيديا مركبة، هو، نعم هو، فيتوريو، القلب والإنسان، هو الضحية.
 فلسطين. أنا البسكويتة، وأنتم أصحاب الفيلة العملاقة، ويوم تحررون البلاد، سأقف، أعدكم، على أعلى تلة وأدحرج نفسي كي أستقر في خرطوم فيلكم الأكبر. فيلكم القائد. قبل كل هذا، سأكون الجبان. أعرّف نفسي على هذا الأساس وأرتاح. وإلى أن يحين موعد استرداد الغنيمة من الإسرائيليين، سأكون منشغلا بجمع الحشائش المفيدة لأجسادكم التي عليها ذرف الطاقة والخلايا الجلدية والسوائل الكيمائية والاوامر العصبية والـ ' كَكّا' أثناء وضعكم الخطط. جمع الحشائش يتطلب مهارة، وجهدا، ودراية بالنباتات، فأنا لا اريد لكم أن تصابوا بالإسهال أو الحساسية أثناء المعركة الفصل. لا يعطس الجندي في المعركة ولا يطلب إذنا من قائده كي يقضي حاجته. لذلك، لسنا متأكدين من عدد الجند الذين ماتوا وبطونهم ملأى بالغائط، اولئك الذين ارادوا فقط أن يتغوطوا قبل الالتحام مع العدو. رغبتهم الأخيرة والقليلة. لا أكثر. أشد المآسي قسوة. أن تأخذ غائطك معك إلى العالم الآخر. إهانة حقيقية للعرق الآدمي. لذلك، أنا على الأرجح، لن أرد على هواتفكم النقالة والأرضية وإيميلاتكم، ورسائلكم الصوتية والإلكترومغناطيسية. هل انتم مقتنعون بهذه الحجة؟ أرجو ألا تكونوا. لأنكم ستـُفاجأون بعدئذ. السيد فيتوريو أريغوني، مثلا، جالسا على الكرسي، هادئا، مستغربا (أو هذا ما نريد أن يكونه: مستغربا). هكذا تكافئه الشعوب. هل طلب قضاء حاجته قبل شنقه؟
محتلك الآني، لديه ذات الجذور، مع بعض الإضافات، نفط يمول الفكر الظلامي وبمباركة أصحاب القرار في البلاد الجديدة، نازية الألمان لا تختلف بالمنطلق والشكل والفعل عن نازية الصهاينة من دير ياسين، مروراً بصبرا وشاتيلا وقانا 1-2 وغزة.
كل هذا وأكثر كان واضحاً وجلياً لفيتوريو، فيتوريو اختار بصلابة الفكر ورقة القلب أن يقف ليس إلى جانب الضحية بل معها. وليؤول الأمر إلى تراجيديا مركبة، هو، نعم هو، فيتوريو، القلب والإنسان، هو الضحية.
دعني، يا فيدريكو، أعود قليلاً إلى مسألة الجينات، الجينات ليست مسألة بيولوجيا تفحص وتمحص وتدرس في المختبرات، الجينات التي تحدث عنها فيتوريو هي مثيولوجيا الإنسان، منها البقاء والفناء، منها مجده وذله، هي التي تقودك إلى الطرق المظلمة والأقبية الشريرة الخسيسة، أو أن تكون تحت الشمس، وسط الموج وبين الحقول.
سأبدأ من الإسم ، يا له من عبء، لماذا فيدريكو؟
فيدريكو جارسيا لوركا، لم يختر أسواق المال وبريق بورد ويه في نيويورك، اختار هارليم، اختار النضال، أحب الغجر، وناضل ضد 'المحتل' وقُتل مجسداً هول المأساة.
فيدريكو فليني، القوة الملهمة والمبدعة التي خرجت عن طور مجتمع المحرمات الكاثوليكية. سيكون عندئذ قد حمل مواده المعوية معه إلى المقلب الآخر من العالم، تاركا حبه لفلسطين وتضحياته وكتاباته ولحظاته السعيدة والحزينة في قلوب أصدقائه. القلوب الشبيهة بقجج الاطفال. الآن يعرف محبوه أنه كان يجمِّع في قججهم أجزاء حياته، مكتفيا لنفسه بكومة غائط في بطنه تليق بهذه اللحظة: أن يكون ضحية سجال بين حماس وذلك الفصيل السلفي. ثم يرحل. لا يستأهل هذا العالم مزيدا من القبح، مع انه قبيح. قلت لصديقتي قبل قليل: سأضع رأسي في حوض زرّيعة فارغ. أتعلمين لماذا؟ كان عليها أن تقول ' لماذا؟'. انتظرت قليلا. وبعد أن لفظتْها، أجبتُها متحمسا: القبل التي لم أذرفها لكِ، سأتركها تسيل وتتجمع في حوض الزريعة ككومة من أوراق الشجر الصغيرة. الآن، أعدِّل قليلا. ما رأيك يا صديقتي، لو نجعلها حبات بازلاء بدل أوراق الشجر؟ حبات البازلاء تهبط أسرع. الهواء لا يمارس عليها قوة تعارض قوة الجاذبية (تخيلي تمرين الفيزياء حول الباراشوت في الصف الاول الثانوي). أوراق الشجر تهبط أبطأ. أعني، سنضيع الوقت ونحن نتفرج على أوراق الشجر وهي تستقر في الحوض. الوقت الزائد هو كل ما يلزم للسيد فيتوريو لكي يُعدَم. في إحدى التظاهرات في غزة، وقف السيد فاء ( سيصبح فيتوريو من هذه اللحظة فاء*) ذات يوم أمام الكاميرا، كبوباي. عضلاته بالفعل كبيرة. وشم على بايسبس ذراعه الايمن: ' مقاومة'. صار عنده ' فلسطين' في رقبته، و' مقاومة' على زنده. خارطة ومانشيت. كان عليه أن يرسم حول كوعه، كيس زبالة أسود، بحيث يقفَلُ الكيس أوتوماتيكيا ما إن يشد السيد فاء عضلاته. * فاء السببية: فدائي، فائت، فجوة، فتى، فظ، فرد، فوشار، فسحة، فرق، فخ، فحوى، فوبيا، فلة، فم، فرح، فوق، فناء، فزاعة، فلسطين، فوكوشيما، فالحليب الذي وضعت فيه البابونج والعسل وتركته يبرد ثم سكبته بهدوء في المجلى، فإلخ. لا شأن لي بالفقراء والجوعى. سيموتون بأمعاء فارغة. نسخة من ' عدّى النهار' على اليوتيوب: عبد الحليم حافظ يلعب الغميضة مع صدام حسين وجهادي ملثم في شوارع غزة. نسخة أخرى: بيانو، محمد منير، صور من حرب الـ 73 أو 67. لا فرق. شأن الهزيمة شأن الفوز. فوز: فاء أخرى. شقلبة الأمل. استحداث الانتباه. ثقل عجلات الاسعاف. العربات. هواء العناية المركزة. الفشل. فاء أخرى. فيتوريو. الأصدقاء يعصرون غيمة ناشفة. كليك. الانضمام إلى صورة الجنة. شقلبة الأمل. كليك. شقلبة الامل. مشِّط شعرك. كليك. صفحتك على الفيس بوك. استياء إصبع القدم غير المرتاح بهذه الوضعية داخل الحذاء المائل أسفل الجثة. كليك. نفخُ بالونات بعامود فقري مجوّف. تجميع غدد تنتج دمعا وتعليقها على مشجب. وداع بطة بلاستيكية. قياس القوة التي تلزم نملة كي تفقس. إنعاش عجوز في الغرفة المحاذية لمختبر فيزياء. كارلا مجددا. سرقة نظارة الدالاي لاما أثناء نومه وتفكيره بالحشرات. ثم، فـ ـيـ ـتـ و ر ـيـ و: سبعة. كليك. اختيار سبع كلمات من هذا النص وترتيبها قرب بعضها البعض: تشردُقُ ـ بوباي ـ ببسكويتة - أثناء ـ لعبه ـ الغميضة ـ في - عالم - إلكترومغناطيسي. تسعة. غششتُ مرة أخرى.. 

 

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 165 مشاهدة
نشرت فى 20 إبريل 2011 بواسطة MOMNASSER

ساحة النقاش

د .محمد ناصر.

MOMNASSER
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

379,585