د. محمد ناصر الخوالده
قراءة في : "عقلية التخوين في الخطاب العربي المعاصر "
لم تكن العملية التي وقعت في الولايات المتحدة الأمريكية في 11 أيلول 2001 التي استهدفت مبنى التجارة العالمي ووزارة الدفاع (البنتاغون) هي الأولى من نوعها التي تمارس العنف لمواجهة السياسة العدوانية التي تعتمدها أمريكا ضد الشعوب .. رد فعل معاكس ومضاد لتلك السياسة ، فضلاً عن اتخاذ العنف وسيلة من وسائل القمع والتجني المستمرة التي تعتمدها الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني .. مثلما يعتمد الإرهاب أداة لإيقاع الأذى بالأفراد والدول.. على مر الأزمنة .
لكن علميات الإرهاب اتسعت وصار الحديث عن الإرهاب يسبق كل حديث ، بات معنى الإرهاب يأخذ مفهوماً أحادياً تعتمده أمريكا وتسعى إلى تعميم فهمها له وأنه هو المقبول دون غيره .. إن تحديد مفهوم (مع أو ضد أمريكا) نوع من الإرهاب الذي تمارسه أمريكا ضد العالم كله.. ووضع المنظمات الفدائية الفلسطينية وحركات التحرر في العالم في خندق الإرهاب، لا يمكن أن نعده إلا ممارسة إرهابية بشعة.
ولأن كلمة (إرهاب) هي الأكثر تداولاً في حياتنا الراهنة، فقد توجهت دور النشر لاتخاذ هذه المفردة عنواناً لمطبوعاتها.. تنديداً بالإرهاب وتوظيفاً تجارياً يروج للمطبوع ويمد في مساحة انتشاره .
ولا نحسب أن كتاب " المحاكمة والإرهاب" يخرج عن هذا الإطار ، إن لم يكن العنوان لاحقاً بالكتاب وليس من صلب موضوعاته التي تتناول : " عقلية التخوين في الخطاب العربي المعاصر " للكاتب العربي السوري " تركي على الربيعو* ، فالربيعو يأخذ على الثقافة العربية منذ المقدمة عل أنها " ثقافة محاكمة ، ثقافة تموضع الآخر في قاعة للتدريس ، في محكمة، في سجن بهدف التأديب والمحاكمة " إلا انه في الفصول التسعة التي يتضمنها الكتاب لا يشير إلا إلى اختلافات الرأي واجتهادات في وجهات النظر .. ومهما كانت هذه الاختلافات ساخنة، أو في حالة تقاطع كل مع الآخر، فإنها لم تكن بأي حال من الأحوال.. إرهابية، وليس من المنطق أن نعد كل اختلاف من الآخر، محاولة لإرهابه والضغط عليه وممارسة العنف الخفي أو المعلن ضده. نعم .. لقد مورست عمليات العنف ضد المناوئين للأفكار القائمة في كل بلدان العالم وفي كل الأزمنة، وهي مؤرخة ومعلومة لكن المؤلف أهمل الإشارة إليها كلياً، وأخذ يشير إلى المناقشات والردود.. ممارسات إرهابية!
يقول عن ثقافتنا العربية أنها: "ورثت عن الاستشراف وعن عوامل أخرى هذا الميل إلى المحاكمة.. " وان هذا: يدفعها إلى وصفها بأنها ثقافة محاكمة وإرهاب فكري يتزين بزي الحداثة ليضفي على إرهابه مزيداً من المشروعية والتبرير". وإذا كان الربيعو يعد كل جدل .. إرهاباً ، فهل يعني أنه يريد القبول بكل رأي يطرح ، وان نقبل بكل ما يقوله حتى لا نكون ممن يمارس الإرهاب عليه أو على سواه ممن يختلف معهم فكرياً ؟ أن الربيعو يناقض نفسه في مواقع كثيرة من فصول كتابه ، يقول : " المختلف منفي ومطرود ومطارد ،والآخر هو الجحيم كما يقول سارتر " ثم ينتقل للوقوف عند ثلاثة نماذج هي :" ادوارد سعيد وتهمة العمالة لقوى أجنبية ، وعند أنور عبد الملك المتهم بالتهمة نفسها وعند محمد عابد الجابري بوصفه الممثل الجديد للاستغراب الشرقي .. " مشيرا إلى أن مهدي عامل يكتب في مجلة الكرمل الفلسطينية عن ادوارد سعيد أن : " منطق سعيد ، هو منطق التأويل الذي يستبدل التناقض المادي في حركة التاريخ الموضوعية بتناقض شكلي في صيغة أما .. وإما " ويعلن مهدي عامل تضامنه مع صادق جلال العظم في "تكفير وتخوين ادوارد سعيد".
والاجتهاد في تحليل خطاب سعيد اجتهاد لصالح العلم والمعرفة والحقيقة، على أن هذا الاجتهاد لا يجيز لصاحبه التنديد بالآخر وتكفيره وتخوينه. إيماناً بان هذا الأسلوب يعد أسلوباً إرهابياً وقمعياً للرأي الآخر.
كذلك لا يمكن القبول بما نقله الربيعو عن الطيب تيزيني .. وصفه للجابري كونه : " ضحل فكرياً وساذج ولا يملك المقدرة على النص ولا على قراءته .. " .فمثل هذا الوصف يخرج عن إطار المناقشة، ليتحول إلى لغة عدوانية لا علاقة لها بالمعرفة والجدل الموضوعي.
يقول الربيعو : " الاختلاف مطلوب ، فهو إغناء لواقع نريده هكذا ، أما القراءة التي تقود إلى الخلاف , وتؤول إلى أحضان العقلية التآمرية ، وتستمد وجودها من إرادة نفي تتحكم فيها ، فهي بدورها تدمير لواقع وطموح ، أنها نظرة أحادية وحدية تقطع بسيفها كل أشكال التباين والاختلاف وتحيلنا على ساحة من المواجهة بين من أملنا فيهم خيراً ".
ولكن المؤلف يصل إلى صيغة من التعميم يطلقه على الحركة النقدية العربية في التسعينات كونها: نزعة خفية وعلنية تهدف إلى محاكمة المثقف العربي والحجر عليه وتضميخ نصب الخطاب العربي المعاصر بدمه " ليصل إلى تحديد ما أسماه : "نزعة تدميرية في خطابنا النقدي المعاصر " دون أن يبرهن على هذا الاستنتاج التعسفي . وبينما كان الربيعو قد عد ادوارد سعيد ضحية للآراء القاسية والممارسة الإرهابية ، نجده ينقل عن كتاب ادوارد سعيد (الثقافة والإمبريالية) إشارته إلى رواية ( قلب الظلام ) لجوزيف كونرادو ( روضة مانسفيلد ) لجين أوستن امتداد للإمبريالية وميدان لدراسة الغرب .. في حين نجد حسن خنفي " يجعل وبحكم اهتمامه من الفلسفة الغربية ميداناً للنقد ولوضع اللبنات الأساسية لعلم الاستغراب ، وذلك بهدف الحد من مركب النقص عن الأنا ، وهذا ما يفعله سمير أمين في نقده للتمركز الأوروبي الثقافوي".
هاتان الرؤيتان تشيران إلى عمق المنظور الذي ينطلقان منه .. وعبر هذا الجذر يمكن النظر إلى الأفكار وإدارة النقاش حولها.
ومرة أخرى يعمم الربيعو ما قد يغالي ويتطرف بشأنه بعضهم ، إلا أن هذا لا ينبغي إلى حد : " إعلان موت المجتمع التقليدي العربي " والمطالبة بحرقه أو أن :
" المثقف الثوري العربي قد مل الركض من حول الغاية فراح يطالب بحرقها " ذلك أن من يطالب ب (الموت) و (حرق الغابة ) هو جزء ، أو نتاج لهذا المجتمع ، ولهذه الغابة وليس بوسعه الانسلاخ عنه ، لأنه إذا فعل هذا وقطع جذره ، صار هجيناً وعرضة للسقوط والانهيار مع هبة أول ريح تواجهه.
وإذا كانت : "صورة هتلر وإلى حد كبير بسمارك ، ظلت تغذي لدى المثقف العربي القومي والأمير معاً ميلاً إلى ممارسة دور وإلى جعله نموذجاً يحتذي " فأن مثل هذه الصورة ينبغي أن تأخذ شكلاً وفهماً ووعياً وموقفاً آخر .. ذلك أن صورة الماضي الدامية، كانت مضادة لكل ما هو أنساني وسلمي...
أن تكل الصورة تشير إلى : " عنف الخطاب العربي ولا معقوليته ، عن فقرة النظري بتبعيته المطلقة للنموذج السلف ، عن أساسه الهش الذي يجعله يتحطم على صخرة الواقع كزجاج رديء ، عن انفعاليته وغضبه الجامع الذي يدفعه في لحظة غضب إلى نفي الآخر وتشريده وتذويبه ، عن نظرته الدونية لآخرين أصيبوا لاحقاً بالعدوى منه " وتظهر هذه الصورة جلية في رأي عبد الله العلايلي : " كل تجمع ملي أو عنصري يعتبر جريمة قومية..". فهل يمكن أن نعد مثل هذه القناعات إلا مظهراً من مظاهر الغل والتعسف والإرهاب ؟ وينقل المؤلف عن فهمي جدعان قوله : " أن العقل ليس هو سيد الأحكام ، وانه ليس أكثر من آلة أو أداة فحسب ، وهو أداة ابستمولوجية في أفضل حالاته يمكن استخدامها للخير أو الشر على السواء ، أضف إلى ذلك أن العقلانية لا تجسد إلا مطلباً ، واحداً من مطالب الكينونة البشرية وتمثل في الحاجة الطبيعية إلى المعرفة الموضوعية المستندة إلى أحكام العقل الموضوعي حيناً وإلى متطلبات وضغوط العقل ألذرائعي حيناً آخر".
وإذا ناقشنا هذه الرأي، نرى أن فهمي جدعان يضع الخير والشر في ميزان العدل ! العقل الموضوعي مقابل العقل الذرائعي ، وأن العقل أداة معرفية فحسب ! إن الاحتكام إلى العقل ، يعني الاعتماد على دقته وسلامته وصوابه لما يمتلكه من قيمة معرفية تستطيع أن تفرق بين الخير والشر ..
الشر احتكام إلى المعطى السلبي، والاستناد ألتدميري والزائف والقمعي، أما الخير والموضوعية والسلم فهم اعتماد على العنصر المشع والنبيل والحي في الإنسان السوي الراجح العقل. لذلك لا يمكن وضع كلا العاملين في منطقة واحدة لموازين العقل والتسليم إلى الهوى والعاطفة والرغبة العاجلة في آن واحد معاً.
ويشير الربيعو إلى ما كتبه ريجيس دوبريه في نقده للعقل السياسي "مشبهاً السياسي المعاصر بالساحر ، فالساحر بقدرته العجيبة على امتلاك الكلام يسيطر على الأشياء ويوجهها ، وهكذا الفعل السياسي الذي يمتلك القدرة على تحريك الجماهير والسيطرة عليها من خلال امتلاكه الكلمة أو وهم امتلاكه إياها ويذهب دوبريه إلى أن سحر القول في الساسة يدعو إلى التفكير السحري في الأمر السياسي ، وليس هناك في هذا الصدد من انفصال بين السحر والدين والأيديولوجيا" ومعلوم أن السحر إيهام ، سقوط في الوهم ، وليس قناعة عقلية . بينما السياسة مران في اتخاذ المواقف وقناعة ذهنية يصل إليها المرء بعد إدراكه لفحواها .. وإذا ما تحول السياسي إلى ساحر، تحول في الوقت نفسه إلى محتال، إلى خداع من طراز خاص.. ومن ثم تصبح السياسة وهماً وجنة مضاعفة وصور مغيبة !
أما وصف الجابري ، الخطاب السياسي العربي ب (الضحالة ) وانه خطاب ( غير صريح ) أو أن هذا الخطاب يعتمد (التعميم والابتعاد عن الواقع ) كما يصفه آلن غولد شليغر في (سيميا الخطاب السلطوي) وأن " العلاقة بين المخاطب والمخاطب هي علاقة أمر ونهي ، والجواب المقبول والوحيد هو الامتثال والقبول " أن دواعي أو دوافع مثل هذا الخطاب يمكن في الإلزامية الحتمية التي تشكل جوهره . وهو في هذه الإلزامية يظل خطاباً ساكناً تحكمه والنصية الثابتة التي ترفض التأويل والاجتهاد في صياغة معانِ جديدة ومواكبة على وفق طبيعة العصر. من هنا كان مثل هذا الخطاب الأحادي يمارس صيغته التعسفية ضد كل من يختلفون معه أو يضعون أو يرسمون لرؤية أخرى.
هذه الأحادية في كل خطاب مهما كان مصدره، يمارس إرهابه على الخطاب الآخر، بمعنى أنه يريد تصفيته ليحتفظ بنفسه دون سواه، وهو ما تمارس عقلية الإرهاب الأمريكي الراهن، الذي واجه الإرهاب للسبب نفسه.
أن الربيعو يحدد تعريف الإرهاب السياسي أو العنف السياسي أو العنف السياسي بأنه : " منهج نزاع عنيف يرمي الفاعل بمقتضاه وبواسطة الرهبة الناجمة عن العنف إلى تغليب رأيه السياسي أو إلى فرض سيطرته على المجتمع أو الدولة من أجل الحفاظ على علاقات اجتماعية عامة أو من أجل تغيرها أو تدميرها " – كما أشار إلى ذلك آلن غولد شليغر –
والواقع أن أي نزاع يمارس العنف من شأنه تمزيق العلاقات الاجتماعية بدلاً من توحيدها فالمجتمع – أي مجتمع – لا تبنى علاقاته إلا في ظروف مؤاتية ومصالح متوافقة ومدركة وسليمة ومقبولة من قبل الجميع .
أن مجتمع العنف والإرهاب هو مجتمع التمزق والانقسام والتشرذم .. بينما مجتمع الاستقرار هو مجتمع تتفاعل فيه الآراء كافة وتشترك في بناء وجوده كل القوى بوصفها تنتمي إلى سيادة وطن موحد.
وإذا كان علي حرب يعتقد أن: " مشكلة المثقفين هي من أفكارهم، فهم ضحايا أفكارهم أو أنماطهم في التفكير، وهذا ما يجعلهم في كثير من الأحيان باعة أوهام وحراساً لأفكار عتيقة وبالية..".
إذا قال علي حرب كما نقله لنا الربيعو ، فإن إشكالية هذا القول تكمن في جوهر وليس خارجه.. المثقفون يجددون أفكارهم ، ويكتسبون معارف جديدة .. وإذا لم يفعلوا ذلك جعلوا من أفكارهم ، أفكاراً ميتة يتجاوزها العصر بين إذا قال علي حر ب كما نقله لنا الربيعو ، فان إشكالية هذا القول تكمن في مدة وأخرى .
المثقفون الجادون والمخلصون في إيصال رسالتهم الإنسانية ، يحرصون بالتأكيد على نشر آرائهم ، مثلما يصغون إلى الآراء الأخرى . هذا التفاعل في الآراء هو الذي يشيع في الناس لغة الحوار والتفاهم والتكامل.. بعيداً عن الإلزام والإكراه وممارسة أسباب التعسف والإرهاب في فرض هذا الرأي أو ذلك.
أن مشكلة كتاب تركي على الربيعو ، كونه يحاكم نفسها أكثر مما يحتكم إلى الآراء الواردة فيه ، وإلى أين هي صور الإرهاب في إلزام عدد من المفكرين العرب في تبني وجهة نظر وهمية ، أو معاداة مفكر مثل جومسكي في أمريكا لمجرد أنه لا يتطابق مع السياسة الأمريكية أو نفي وطرد وسجن وقتل عشرات الأبرياء في كل مكان لا لسبب ، إلا لأنهم يملكون رؤوساً يفكرون بها، ويرفضون أن يفكر الآخرون نيابة عنهم..؟
إن (عقلية التخوين ) عقلية إرهابية تنادي بأحادية الخطاب .. وللباحث الدقيق نماذج كثيرة في مسيرة التاريخ .. توضح وتؤكد وترهن على حقيقة الإرهاب الذي طال الإنسانية على مدار الزمان والمكان.
** المحاكمة والإرهاب / عقلية التخوين في الخطاب العربي المعاصر. تأليف تركي علي الربيعو ، نشر : دار رياض الريس – بيروت . ط1/ حزيران –يونيو 2001-175صفحة متوسطة .
*** تركي علي الربيعو من مواليد 1951 في مدينة القامشلي شمال سورية, متفرغ للكتابة والبحث, له بحوث ودراسات عديدة. من أعماله المنشورة "المحاكمة والإرهاب", 2001 رياض الريس للكتب والنشر. و"الإسلام والغرب الحاضر والمستقبل", ألفه مع زكي الميلاد ,1998 في دار الفكر المعاصر للطباعة والنشر والتوزيع. و"من الطين إلى الحجر"1997, لمركز الثقافي العربي. و"لعنف والمقدس والجنس", 1995 المركز الثقافي العربي. و"الإسلام وملحمة الخلق والأسطورة", 1992 المركز الثقافي العربي. و"أزمة الخ¯¯طاب التقدمي العربي في منعطف الألف الثالث الخطاب الماركسي نموذجا", 1992 المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع.
كتب الراحل دراسات في العديد من الدوريات العربية بينها الباحث والاجتهاد والفكر العربي, كما كتب كثيرا من المقالات في الحياة والسفير والنهار والمستقبل والخليج وغيرها من الصحف العربية .
رحل الكاتب والباحث السوري تركي علي الربيعو , عن عمر يقارب الخمسة والخمسين عاماً, تاركا وراءه فجوة في بناء الثقافة السورية, وذلك بعد صراع مع مرض عضال.
ساحة النقاش