ينقسم السماع هنا إلى نوعين رئيسيين:
الأول: السـماع المشـروع.
الثاني: السـماع غير المشروع (الاصطلاحي).
أولاً: السماع المشروع:
وهو الذي كان على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وعهد الخلفاء الراشدين بعده وعهد صالحي التابعين بعدهم، فهو استماع القرآن المجيد، قال الله تعالى " وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ "(<!--)، فسماع الآيات هو نصيب خالص للأرواح لا تشاركه فيه النفس ولا الشيطان، ولا يغلبان فيه على جانب حظ الروح، والنفس في هذا السماع مقهورة والشيطان مخذول مقموع فيه، والحق مستعلن ظاهر "(<!--).
وهذا السماع القرآني في رأي ابن قيم الجوزية هو " سماع أهل المعرفة بالله، والاستقامة على صراطه المستقيم، ويحصل للأذهان الصافية منه معان وإشارات، ومعارف وعلوم تتغذى بها القلوب المشرقة بنور الأنس، فيجد بها ولها لذة روحانية، يصل نعيمها إلى القلوب والأرواح، وربما فاض حتى وصل إلى الأجسام؛ فيجد من اللذة ما لم يعهد مثله من اللذات الحسية "(<!--).
وأعتقد أن هذا هو السماع الحق الذي لا يختلف عليه اثنان، والذي يهدى صاحبه، ويجول به في واحات من الأنس والقربة والسعادة الأبدية، ولو صدق المسلمون عامة والصوفية خاصة في مقصدهم وتقربهم إلى الله تعالى لما انزعجت القلوب، وتحركت الجوارح، وطربت الأسماع بغير سماع كلام الله عز وجل، فهو – دون أدنى شك – المحبوب الأول، وكلامه الكلام الأول لدى من له أدنى مسحة من عقل أو قلب.
وهذا السماع هو ما مدحه الله تعالى في كتابه وأمر به، وأثنى على أصحابه، وذم المغرضين عنه ولعنهم، وهو سماع " خاصة الخاصة المقربين: سماع القرآن بالاعتبارات الثلاثة: إدراكًا وفهمًا، وتدبرًا، وإجابة، وكل سماع في القرآن مدح الله أصحابه وأثنى عليهم، وأمر به أولياءه: فهذا هو السماع، وهو سماع الآيات، لا سماع الأبيات، وسماع القرآن، لا سماع مزامير الشيطان، وسماع كلام رب الأرض والسماء، لا سماع قصائد الشعراء، وسماع المراصد، لا سماع القصائد، وسماع الأنبياء والمرسلين، لا سماع المغنين والمطربين "(<!--).
ويرى الواسطي أن المحبين لله تعالى وكلامه هم الخاصة الذين يفهمون من القرآن وتلوح لقلوبهم منه " أمورًا عالية وأنوارًا خارقة يكشف منه لقلوبهم، وفيه تجليات الصفات المقدسة فتمتلئ قلوبهم وأسرارهم بأنوار المحبة والعظمة والكبرياء، يتردون فيه بأردية الهيبة، ويكتسون ملابس الأنس والتقريب، وهم المقربون وقليل ما هم، قال الله تعالى: " إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ "(<!--)، وقال تعالى: " إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ "(<!--)، وقال تعالى: " لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَياًّ وَيَحِقَّ القَوْلُ عَلَى الكَافِرِينَ "(<!--)، فلا يطرب على كلام الحبيب إلا المحبون، ولا يشرب بكأس المحبة إلا الذائقون، ولا يكتسي ملابس القرب إلا المقربون، فإنه تنزيل من رب العالمين إله الأولين والآخرين، حبيب المحبين.." (<!--).
وقد وضع الواسطي (رحمه الله) بعض العلامات لمحبي الله عز وجل، والمتذوقين لكلامه، منها " أن يكون سماع القرآن هو شفاء صدورهم وراحة أسرارهم، يحضر فيه المتكلم سبحانه، يشاهدونه في كلامه، في أمره، في نهيه، ووعده ووعيده وقصصه وأخباره ومواعظه وأنبائه فترق قلوبهم وينجذب بالمحبة والشوق أرواحهم، وتخمد صفات نفوسهم، وتقهرها عظمة المتكلم سبحانه وتجذب قلوبهم بالمحبة لمشاهدة رحمته وألطافه وجلاله وإكرامه.." (<!--).
ثانيًا: السماع الاصطلاحي(<!--):
وهو كما يعرفه الواسطي " بالألحان المطربة والنغمات اللذيذة في الأشعار الرائقة الرقيقة لما فيها من الصد والهجر والبعد والقرب والملاحة والحسن وتناسب أوزان الشعر أيضًا، ولطافة المعاني، وحسن الصوت.. .. فتتحرك القلوب بمقتضى ما سكن فيها من المحبة والشوق والأنس والقرب، وغير ذلك من الأحوال التي يثيرها السماع الاصطلاحي..." (<!--).
وهذا النوع من السماع " هو ما يبغضه الله ويكرهه، ويمدح المعرض عنه، وهو سماع كل ما يضر العبد في قلبه ودينه، كسماع للباطل كله مثل الغناء والمكاء والتصدية والمعازف والتغزل والنسوان وغير ذلك "(<!--).
وهذا السماع " لا يورد على القلوب حالاً ليس فيه إنما يثير ما كمن فيه من حق أو باطل أو خير أو شر، فإذا سمعه صاحب حق أو ذوق طرب إلى ذوقه الكامن فيه حيث إثارته النغمات اللذيذة والألحان وطيب النغمات وحلاوتها لطافة ما استكن في ضميره من شواهد الحق فأذكرته إياها فهاج لذلك وجده وتحرك حبه حيث كان مستورًا في غير السماع بالحظوظ... وكذلك يثير هذا السماع بهذه الصفات ما كمن في قلوب الفجَّار من محبة أغراضهم الفاسدة خصوصًا إذا كانوا عشاقًا مهجورين وكان المعشوق حاضرًا ثم ذكر الحسن والجمال والصد والقطع والمواصلة والمعانقة ... "(<!--).
وقد حقق الإمام الواسطي في هذا النوع من السماع الاصطلاحي ووجد أنه مركب –على حد قوله- من شبهة وشهوة " فالشبهة فيه نصيب الأرواح إذا سمعت ذكر المحبة والمحبوب حرَّك ذلك الروح لمن في قلبه شيء من الحق، فهذا قدر الشبهة، وأما الشهوة الممتزجة فيه فهي نصيب النفوس منه، وذلك أن النفوس تلتذ وتطرب بالألحان المطربة وتأخذ بحظها الوافر منه حتى ربما أسكرها وفعل فيها فعل الشراب... "(<!--).
ولهذا قال ابن تيمية (رحمه الله): " وكثيرًا ما يبتلى كثير من أهل السماع بشعبة من حال النصارى من الغلو في الدين واتباع أهواء قوم قد ضلوا من قبل، وإن كان فيهم من فضل وصلاح، فهم فيما ابتدعوه من ذلك ضالون عن سبيل الله، يحسبون أن هذه البدعة تهديهم إلى محبة الله، وإنها لتصدهم عن سبيل الله، فإنهم عشوا عن ذكر الله الذي هو: كتابه: عن استماعه وتدبره وإتباعه... "(<!--).
رأى أئمة السلف ومشايخ الصوفية في السماع الاصطلاحي:
ولما كان " عامة أهل السماع المحدث مقصرون في هذه الأصول الثلاثة [الإخلاص في الدين ومتابعة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والجهاد في سبيل الله] وهم في ذلك متفاوتون تفاوتًا كثيرًا بحسب قوة اعتياضهم بالسماع المحدث عن السماع المشروع وما يتبع ذلك، حتى آل الأمر بأخرة إلى الانسلاخ من الإيمان بالكلية، ومصيره منافقًا محضًا أو كافرًا صرفًا "(<!--).
ولهذا كان من المعروف عند أئمة السلف من الصحابة والتابعين " مثل: عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله، وغيرهم من أئمة التابعين ذم السماع والغناء وإنكاره، وكذلك من بعدهم من أئمة الإسلام في القرون الثلاثة حتى زكريا بن يحيى الساجي في كتابه الذي ذكر فيه إجماع أهل العلم واختلافهم، فذكر أنهم متفقون على كراهته... "(<!--).
ويكمل ابن تيمية كلامه أن " الإمام الشافعي (رضي الله عنه) لم يختلف قوله في كراهته.. وقد قال عن السماع المحدث: " خلَّفت ببغداد شيئًا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير(<!--)، يصدون به الناس عن القرآن "(<!--).
وقد حكم ابن خفيف (رحمه الله) بأن " استماع الغناء والرباعيات مع الرقص بالإيقاع ونعت الرقاصين على أحكام الدين فسق، وحرام على كل من يسمع القصائد والرباعيات على أحكام الذكر إلا لمن تقدم له العلم بأحكام التوحيد، ومعرفة أسمائه وصفاته وما يضاف إلى الله تعالى من ذلك وما لا يليق به عز وجل مما هو منزه عنه "(<!--).
ثم ينقل لنا ابن تيمية رأي ابن خفيف (رحمهما الله) في القصائد المحرمة فيقول: " وما جرى على وصف المرئيات ونعت المخلوقات فاستماع ذلك على الله كفر "(<!--).
ويستند ابن خفيف في الحكم على هذا السماع المحدث برأي السلف الصالح فيقول: "وذلك مما أنكره الشافعي ومالك والثوري ويزيد بن هارون وأحمد بن حنبل وإسحاق، والاقتداء بهم أولى من الاقتداء بمن لا يعرفون في الدين "(<!--).
" وكان يزيد بن هارون الواسطي – وهو من أتباع التابعين وأواخر القرون الثلاثة – يجتمع في مجلسه الأمم العظيمة، وكان من أجلِّ مشايخ الإسلام إذ ذاك، فكان ينهى عن الجهمية وعن المغيِّرة: هؤلاء أهل الكلام المخالف للكتاب والسنة، وهؤلاء أهل السماع المحدث المخالف للكتاب والسنة، ولهذا لم يستطع أحد ممن يستحب السماع المحدث ويستحسنه أن يحتج لذلك بأثرٍ عمن مضى ولا بأصل في الكتاب والسنة "(<!--).
كما أكد ابن تيمية براءة مشايخ الصوفية من هذا السماع غير المشروع بقوله " لم يحضر مثل هذا السماع المحدث مثل إبراهيم بن أدهم، ولا الفضيل بن عياض، ولا معروف الكرخي، ولا السري السقطي، ولا أبو سليمان الداراني، ولا مثل الشيخ عبد القادر والشيخ عدي، والشيخ أبي البيان، وغيرهم، بل في كلام طائفة من هؤلاء مثل الشيخ عبد القادر وغيره النهى عنه، وكذلك أعيان المشايخ"(<!--).
ويؤيد الواسطي (رحمه الله) رأي ابن تيمية قائلا" كما قبض رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وجميع أصحابه مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وبقية العشرة، وسليمان وأبي ذر وأبي الدرداء وأبي سعيد وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وغيرهم من أكابر الصحابة وعلمائهم وعارفيهم وقط لم يعملوا هذا السماع ولا حضروه ولا أمروا به، إنما كان سماعهم القرآن ومذاكرة السنة لا غير.
ثم جاء من بعدهم قرن التابعين كسعيد بن المسيب والحسن البصري ومجاهد ومكحول وطاووس وعكرمة وثابت البناني والأسود وعلقمة وأصحاب ابن مسعود وغيرهم من أكابر التابعين وعلمائهم وعارفيهم، وقط لم يعملوا هذا السماع، ولا حضروه ولا أمروا به.
ثم جاء من بعدهم القرن الثالث كالزهري ومالك وسفيان الثوري وسفيان بن عينية وحماد بن زيد وحماد بن سلمة والأوزاعى والليث بن سعد وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق الحنطلى وغيرهم من سادات التابعين وكبرائهم فلم يعملوا هذا السماع ولا حضروه ولا أمروا به.
فلما كان في زمان الصوفية كذي النون والجنيد كانوا يجتمعون في خلوة أصحاب قلوب، ويغلقون عليهم الباب، وينشد واحد منهم أشعارًا رقيقة، ويبكون ويتواجدون، وقد نقل الحفاظ أن الجنيد ما مات حتى تاب من سماع الخلوة المذكورة "(<!--).
<!--[endif]-->
(<!--) الواسطي: السلوك – القسم الأول – لوحة 90 ص أ.
(<!--) ابن قيم الجوزية: مدارج السالكين – جـ4 ص280.
(<!--) المرجع السابق، جـ2 ص 228.
(<!--) الواسطي: في السلوك – القسم الأول – لوحة 91 ص أ.
(<!--) المرجع السابق، القسم الثاني – لوحة 121 ص ب.
(<!--) ويقصد الواسطى به: ما اصطلح عليه عند الصوفية وغيرهم في القرن السابع الهجري.
(<!--) الواسطي: في السلوك – القسم الأول – لوحة 89 ص ب.
(<!--) ابن قيم الجوزية: مدارج السالكين جـ2 ص 230، وينظر ابن تيمية: مجموع الفتاوى الكبرى جـ11 ص562.
(<!--) الواسطي: في السلوك – القسم الأول – لوحة 89 ص ب، لوحة 90 ص أ، وينظر الطوسي في اللمع ص 369.
(<!--) الواسطي: في السلوك، القسم الأول – لوحة 90 ص أ.
(<!--) ابن تيمية: الاستقامة ، المجلد الأول ص 252.
(<!--) المرجع السابق، المجلد الأول ص 266.
(<!--) المرجع السابق، المجلد الأول ص 272.
(<!--) هو الضرب بالقضيب، غبَّر أي أثار غباراً، وهو آلة من الآلات التي تُقرن بتلحين الغناء.
(<!--) ابن تيمية: الاستقامة جـ1 ص 297.
(<!--) ابن تيمية: الفتوى الحموية ص 142.
(<!--) المرجع السابق، ص 142-143.
(<!--) ابن تيمية: الاستقامة جـ1 ص 280-281.
(<!--) ابن تيمية: جامع الرسائل جـ2 ص 295-297، وينظر مجموع الفتاوى جـ10 ص 516-517، جـ11 ص569-570.
(<!--) الواسطي: في السلوك – القسم الخامس – لوحة 254 ص أ، ب.
ساحة النقاش