إن الفناء يرتبط بالحب الصوفي وكذلك المعرفة ارتباطًا وثيقًا، فهو الذي يحقق كمالهما؛ لأنه علاقة الوصول إلى الله تعالي، وإذا كان الأمر كذلك فإن الآثار المترتبة على العشق والمعرفة، هي نفس الآثار المترتبة على الفناء، بالإضافة إلى الآثار الآتية:
أ - ادِّعاء العصمة:
يقول الكلاباذي بعد تعريفه للفناء: "... والحق يتولى تصريفه فيصرفه في وظائفه وموافقاته، فيكون محفوظًا فيما لله عليه، مأخوذًا عمَّا له وعن جميع المخالفات، فلا يكون له إليها سبيل، وهو العصمة ... "([1]) .
وهذا ما عدَّه البعض تجاوزًا من هذا الصوفي المحافظ، ولو كان قال الحفظ بدلاً من العصمة لما كان هناك مخالفة، أما وأن يصرح بالعصمة، فهذا ما لا يوافقه عليه أحد ، أما البعض الآخر فلا يرى مانعًا من أن يعصم الله تعالى عبدًا ما قد رضي عنه، ويعتبر أن العصمة شرط في النبوة، ولكنها ليست وقفًا عليها.
ويتحدث عن هذا الأمر د/ قاسم غني فيقول: " ... الصوفي إذا دخل مرحلة الفناء المقترنة بفقدان وعيه بنفسه ... فكيف يستطيع مراعاة أحكام الشرع وقوانينه حينئذ ؟ فإن أقطاب الصوفية أكثرهم كانوا يراعون أحكام الشرع وآدابه، والجواب الذي أجابوا به عن هذه المشكلة هو: أن الله تعالي بذاته حافظ للأصفياء والمؤمنين، يصونهم من أن يصدر عنهم خلاف في الطاعة "([2]) .
ب - ادِّعاء فناء البشرية والغيبة عن الحس:
يقول القشيري: " ولا يكون وجود الحق إلا بعد خمود البشرية، لأنه لا يكون للبشرية بقاء عند ظهور سلطان الحقيقة "([3]) .
والفناء عند الكلاباذي هو الغيبة عن الصفات البشرية([4]) .
ويرى د/ محمد مصطفي حلمي أن المنهج الذي اصطنعه ابن الفارض للوصول إلى إدراك الوحدة الشهودية هو منهج ذوقي نفساني، عدته الفناء عن البشرية .
وها هو يزيد البسطامي يشطح، وينسلخ من بشريته، فعندما سُئل: بم نِلْتَ ؟ فقال: انسلخت من نفسي كما تنسلخ الحية من جلدها([5]) .
وكذلك الحلاج يطلب رفع بشريته حيث يقول:
بينى وبينك إني تزاحمنى فارفع بحقك إنِّي من البين([6]) .
كما يوضح الجيلي الصلة بين العشق والفناء، ودور كل منهما في فناء البشرية، فيرى أن العشق في ابتداء ظهوره يفنى العاشق حتى لا يبقى له اسم ولا رسم ولا نعت ولا وصف، فإذا امتحق العاشق وانطمس أخذ العشق في فناء المعشوق والعاشق، فلا يزال يفنى منه الاسم ثم الوصف ثم الذات فلا يبقي عاشق ولا معشوق ([7]) .
وهناك من الصوفية من أنكر على هؤلاء قولهم بفناء البشرية منهم:
أبو نصر السراج الطوسي الذي يقول: " أما القوم الذين غلطوا في فناء البشرية: (فقد) سمعوا كلام المتحققين في الفناء، فظنوا أنه فناء البشرية، فوقعوا في الوسوسة، فمنهم من ترك الطعام والشراب، وتوهم أن البشرية هي القالب والجثة، إذا ضعفت زالت بشريتها، فيجوز أن يكون موصوفًا بصفات الألوهية .
ولم تحس هذه الفرقة الجاهلة الضالة أن تفرق بين البشرية وبين أخلاق البشرية؛ لأن البشرية لا تزول عن البشر، كما أن لون السواد لا يزول عن الأسود، ولا لون البياض عن الأبيض، وأخلاق البشرية تبدل، وتغير بما يرد عليها من سلطان أنوار الحقائق، وصفات البشرية ليست هي عين البشرية "([8]) .
وكذلك لام بعض الفرق التي يزعم أصحابها أنهم يفقدون حسهم عند المواجيد، حتى لا يحسوا بشيء ويخرجوا عن أوصاف المحسوسين، واعتبر ذلك غلطًا؛ لأن فقد الحس لا يعلمه صاحبه إلا بالحس؛ لأن الحس صفة بشرية، وإن غلب عليه وارد من الواردات التي ترد على الأسرار وتقهرها بسلطانها، فيطمئن ويمتحق، ويكون مثل ذلك كمثل الكواكب: إذا طلع عليها سلطان أنوار الشمس، تطمس أنوار الكواكب، وهي ممتحقة في أماكنها، فكذلك الحس لا يزول ولا يفقد على البشر الحي.
ويقول الكلاباذي ولعله أدرك خطأه السابق في قوله إن الفناء هو الغيبة عن صفات البشرية: " ... وليس الفناء بالصعق ولا المعتوه، ولا الزائل عنه أوصاف البشرية، فيصير ملكًا أو روحانيًا ولكنه ممن فني عن شهود حظوظه "([9]) .
للفناء ناحيتان: ناحية سلبية، وناحية إيجابية وهي التي عبَّر عنها الصوفية بكلمة البقاء؛ لأن الفناء عن شيء يقتضى البقاء بشيء آخر، فالفناء عن المعاصي يقتضى البقاء بالطاعات، والفناء عن الصفات البشرية يقتضي البقاء بالصفات الإلهية، والفناء عما سوى الله، يقتضي البقاء بالله([10]) .
جـ - القول بالجبر وإسقاط الطاعات:
قد التبس الأمر على كثير من السالكين، فظنوا أن الطريقة الكاملة ألا يكون للعبد إرادة أصلاً، واحتجوا بقول أبي يزيد: " أريد ألا أريد " لما قيل له: ماذا تريد ؟ وهذا لا حجة لهم فيه، لأنه قد أراد ، كما أنهم يحملون كلام المشايخ الذي يمدحون بترك الإرادة على ترك الإرادة المطلقة، وهذا غلط منهم على الشيوخ المستقيمين، وإن كان من الشيوخ من يأمر بترك الإرادة مطلقًا؛ فإن هذا غلط ممن قاله؛ لأن ذلك ليس بمقدر، ولا مأمور به .
والناس في الإرادة على ثلاثة أقسام:
قوم يريدون ما يهوونه، وهؤلاء عبيد أنفسهم والشيطان .
وقوم يزعمون أنهم فرغوا من الإرادة مطلقًا، فلم يبق لهم مراد إلا ما يقدِّره الرب، وأن هذا المقام هو أكمل المقامات، ويزعمون أن من قام بهذا فقد قام بالحقيقة، وهي الحقيقة القدرية الكونية، وأنه شهد القيومية العامة، ويجعلون الفناء في شهود توحيد الربوبية هو الغاية، وقد يسمون هذا : الجمع والفناء والاصطلام، وفي هذا المقام كان النزاع بين الجنيد ابن محمد وبين طائفة من أصحاب الصوفية، فإنهم اتفقوا على شهود توحيد الربوبية، وأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وهو شهود القدر، وسموا هذا المقام " الجمع " .
فلما اتفقوا على هذا ذكر لهم الجنيد الفرق وهو بعد هذا الجمع، وهو الفرق الشرعي: ألا ترى أنك تريد ما أمرت به، ولا تريد ما نهيت عنه، وتشهد أن الله هو يستحق العبادة دون سواه، وأن عبادته هي بطاعة رسله فتفرق بين المأمور والمحظور ... فنازعوه في هذا الفرق، فمنهم من أنكره، ومنهم من لم يفهمه، ومنهم من ادَّعى أن المتكلم فيه لم يصل إليه، ومنهم من ينتهي إلى ذلك الجمع وهو توحيد الربوبية والفناء فيه .
ومنهم من يقول: إنما التكليف على الإنسان ما دام عبدًا، فإن ترقى في منزلة العبودية إلى منزلة الحرية سقط عنه التكليف .
ومنهم من يظن أن الوقوف مع إرادة الأمر والنهي يكون في السلوك والبداية، وأما في النهاية فلا تبقي إلا إرادة القدر، وهو في الحقيقة قول بسقوط العبادة والطاعة([11]) .
فبعض الصوفية يعتقدون أنه لا تكليف على من غاب بقلبه في حضرة ربه ما دام فيها، والسكر عندهم بسبب مباح يسقط التكليف في الشرع.([12])
وابن تيمية في هذا المقام لا يعترض على إسقاط التكاليف عن صاحب حال الفناء ساعة ذهوله، وغياب عقله في محبة الله التي يسقط عن صاحبها التمييز، ولكنه يضع شرطًا؛ وهو أن يكون يكون صاحب الحال مشهودًا له بالإيمان والأحوال الرحمانية، وليست له أحوال شيطانية كما يذكر ذلك كثيرًا عند بعضهم ، ولكنه كثيرًا ما يقول : حال البقاء والصحو أفضل من حال الاصطلام .
د - الاعتقادات الفاسدة:
في حال الفناء تنقص المعرفة والتمييز، ويضطرب العقل والعلم، فيحصل في ضمن ذلك من الاعتقادات والتخيلات الفاسدة ما هو جنس الاتحاد والحلول ووحدة الوجود، كما ذكرنا من قبل، والتي فيها فساد الاعتقاد .
فإذا كان الفناء قد أدي بالبسطامي إلى القول بالاتحاد فإنه قد أدي بصوفي آخر هو الحلاج إلى القول بالحلول([13]) .
إن أخص صفات الولاية الإسلامية في نظر ابن عربي هي الفناء في الله، والتحقق بالوحدة الذاتية بين الحق والخلق([14]) .
أما أخص صفات الولاية كما وردت في القرآن الكريم فهي الإيمان بالله تعالي وتقوى الله عز وجل، فقد قال تعالي: " أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ . الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ. لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ "([15]) .
وعند عبد الكريم الجيلي أن الحق تعالى : " إذا تجلي على عبده وأفناه عن نفسه قام فيه لطيفة إلهية، فتلك اللطيفة قد تكون ذاتية وقد تكون صفاتية، فإذا كانت ذاتية كان ذلك للهيكل الإنساني هو الفرد الكامل ، والغوث الجامع، عليه يدور أمر الوجود ، وله يكون الركوع والسجود ..."([16]).
وهذه زندقة وخروج من عبد الكريم الجيلي على الدين؛ لأنه لا يجوز الركوع والسجود لغير الله تعالى .
ويعد جلال الدين الرومي من الصوفية أصحاب الفناء الذي يؤدي إلى نظرة واحدية إلى الوجود، ومن أقواله في الفناء، عندما سُئل عن معنى علم التوحيد: " وما معنى علم التوحيد ؟ فأجاب: أن تحرق نفسك أمام الواحد ! "([17]) .
ولقد كان السراج الطوسي يعي ذلك جيدًا، فخشي على الصوفية من أمر الفناء والانزلاق فيه، فلم يعده من المقامات والأحوال الصوفية التي ذكرها في لمعه([18]) .
كما ذكر إبراهيم بن شيبان القرمسيني (ت 330هـ): " علم الفناء والبقاء، يدور على إخلاص الوحدانية وصحة العبودية، وما كان غير هذا، فهو من المغاليط والزندقة"([19]).
وجملة القول أنه يمكن تقسيم الصوفية من حيث الفناء إلى فريقين؛ فريق يستمسك بالشريعة فيه، فلا ينطلق إلى مذاهب مخالفة، وفريق ينطلق إلى القول شطحًا بالاتحاد والحلول ووحدة الوجود .
(1) الكلاباذي: التعرف لمذهب أهل التصوف، ص 145 .
(2) د/ قاسم غني: تاريخ التصوف في الإسلام، 1: 544-545 .
(3) القشيري: الرسالة القشيرية، ص 62 .
(4) الكلاباذي: التعرف لمذهب أهل التصوف، ص 148 .
(5) د/ عبد الرحمن بدوي: شطحات الصوفية، ص 100 .
(6) د/ أبو العلا عفيفي: التصوف، الثورة الروحية في الإسلام، ص 235 .
(7) الجيلي: الإنسان الكامل، 1: 53-54 .
(9) الكلاباذي: التعرف، ص 154 .
(10) د/ أبو العلا عفيفي: التصوف، الثورة الروحية في الإسلام، ص 180 .
(11) ابن تيمية: مجموعة الرسائل والمسائل، 1: 83، ابن قيم الجوزية: مدارج السالكين 1: 269-270، تحقيق د/ كمال جعفر، 1980م، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.
(12) أحمد عز الدين خلف: السيد إبراهيم الدسوقي، ص 167، 1969م، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية.
(13) د/ التفتازاني: مدخل إلى التصوف الإسلامي، ص 148 .
(14) د/ أبو العلا عفيفي: التعليقات على فصوص الحكم لابن عربي، 2: 173 .
(15) سورة يونس: الآيات 62- 64 .
(16) الجيلي: الإنسان الكامل، 1: 48 .
(17) د/ التفتازاني: مدخل إلى التصوف الإسلامي، ص 276 .
ساحة النقاش