هناك من يرى أنه ممَّا عرَّض الصوفية للنقد أن كثيرًا منهم قد فرَّق بين الشريعة والحقيقة، وهذا جهل منهم؛ لأن الشريعة كلها حقائق، فإن كانوا يريدون بذلك الرخصة والعزيمة فكلاهما شريعة، والشريعة وضعها الحق سبحانه وتعالى لمصالح الخلق وتعبداتهم، فكل من رام الحقيقة في غير الشريعة فهو مغرور ومخدوع([1]).

       وخير مثال على ذلك هو قول النفري عندما يحكى على لسان الله: " وقال لي: تعرُّفي الذي أبديته، لا يحمل تعرُّفي الذي لم أبده". ومعنى هذا: أن العارف لا ضير عليه، إن اختلف إلهامه مع ظاهر الشريعة، فهذا الاختلاف ظاهري فحسب. ذلك أن الدين يخاطب عامة الناس من المحجوبين ... أما المعرفة؛ فإنها للمختارين، الذين غسلت أرواحهم وأجسادهم في النور الخالد([2]).

        وهذا الغلو – كما يقول الدكتور الجليند – يخرج في كثير الأحيان عن منطق الإيمان بما جاء به محمد ( صلى الله عليه وسلم)، ويجعل كثيرًا من رجال التصوف المعتدلين يقومون بحركة نقد من الداخل للتصوف وقضاياه، فوجدنا كلا من الجنيد وسهل التستري والغزالي وغيرهم يلفتون النظر إلى ضرورة الربط بين الحقيقة والشريعة والظاهر والباطن([3]).

         فالهجويري يؤكد على ضرورة الاتصال بين الشريعة والحقيقة ويرى: " أن الشريعة من غير حقيقة نفاق، والحقيقة من غير شريعة إلحاد، وامتزاجهما كامتزاج الروح بالجسد، فإذا فصلت الجسد عن روحه أصبح جثة هامدة أو تتلاشى الروح كما يتلاشى الريح، وإقرار المسلم بالإسلام يشملهما جميعًا، وقوله: لا إله إلا الله هو الحقيقة، وقوله: محمد رسول الله هو الشريعة، فمن أنكر الحقيقة كفر، ومن أنكر الشريعة تزندق([4]).

          وكذلك يربط سهل التستري بين العقل والعلم والشريعة والمعرفة في قوله: "أول ما ينبغي للعبد أن يتخلق به ثلاثة أخلاق وفيها اكتساب للعقل: احتمال المؤونة والرفق في كل شيء، والحذر ألا يميل في الهوى ولا مع الهوى، ثم لابد له من ثلاث أحوال أخر... العلم والحلم والتواضع، ثم لابد له من ثلاثة أخر، وفيها اكتساب المعرفة وأخلاق أهلها: السكينة والوقار والصيانة والإنصاف، ومن أخلاق الإسلام: الإيمان والحياء وكف الأذى، وبذل المعروف والنصيحة، وفيها أحكام التعبد "([5]).

           وهو ما أكدَّه الواسطي (ت711هـ) من أن كل حقيقة لا تشهد لها الشريعة فهي باطلة؛ لأن الشريعة فيها سعادة الدارين، وعلى الصوفية أن يحبوا الفقهاء ويجالسوهم ويسألوهم عن أمور دينهم، وأن يعتقدوا أن الحقيقة يجب أن تكون موافقة للشريعة، وكل حقيقة لا توافق الشريعة فهي زندقة، وكل من ادَّعى أن الحقيقة شيء والشريعة شيء، وأن صاحب الحقيقة قد صار حرًّا من الشريعة، لا يحتاج إلى الشريعة، ولا إلى العبودية، فهو مبتدع ضال([6]).

           ولعل اتفاق الصوفية على ارتباط الحقيقة بالشريعة يدل على أهمية العلوم النقلية، وفي ذلك يقول الجنيد: التصوف نعت أقيم العبد فيه، قيل: نعت للعبد أم نعت للحق؟ فقال: نعت الحق حقيقة، ونعت العبد رسم، ومعنى ذلك – كما يقول الهجويري – إن حقيقة التصوف تقتضى فناء صفة العبد، وفناء صفة العبد يكون ببقاء صفة الحق، وهذا نعت الحق، ورسمه يقتضى دوام مجاهدة العبد، والمجاهدة صفة العبد "([7]).

و              هذا يبين لنا جليًّا أن اشتراط دوام مجاهدة الصوفي يدل على ضرورة علوم العقل للوصول إلى المعرفة الصوفية.




(1)  د/ عبد اللطيف العبد: التصوف في الإسلام، ص 170-172.

(2) نيكلسون: الصوفية في الإسلام، ص 78.

(3) د/ محمد الجليند: من قضايا التصوف، ص 149.

(4) الهجويري: كشف المحجوب، 2: 425.

(5) الأصبهاني: حلية الأولياء، 10: 191.

(6)  للباحث: الفكر الصوفي عند عماد الدين الواسطي ت711هـ، ص 327-328، رسالة ماجستير، إشراف د/ السيد الحجر بكلية دار العلوم، 1425هـ/ 2004م .

(7) الهجويري: كشف المحجوب، 1: 231.

المصدر: د/ مصطفى فهمي: رسالة دكتوراه-كلية دار العلوم-جامعة القاهرة
Dr-mostafafahmy

د/ مصطفى فهمي ...[ 01023455752] [email protected]

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 1222 مشاهدة

ساحة النقاش

مصطفى فهمي

Dr-mostafafahmy
فلسفة الموقع مهتمة بتحديد طريقة الحياة المثالية وليست محاولة لفهم الحياة فقط. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

500,359