إن المطالع لكتب السلفيين المحدثين، وخصوصًا علماء أنصار السنة، لا يجد لهم نقدًا خاصًا بقضية الفناء الصوفي، وإنما يجد تأكيدًا مستمرًا على اتهام الصوفية جميعًا بانتحال عقيدة الاتحاد والحلول ووحدة الوجود، وأن هذا المعتقد يمثل حقيقة مذهبهم دونما استثناء بغير تفرقة بين تصوف معتدل وتصوف فلسفي مبتدع، بل ويصل الأمر إلى مدى أبعد عند بعضهم حيث يجعلون من القول بالحلول والاتحاد جزءًا لا يتجزأ من مفهوم التصوف وحقيقته([1]).

غير أننا نجدهم يتناولون كلمات مثل: الشطحات، والسكر، والكشف الصوفي، فعن الشطح الصوفي لدي البسطامي وغيره ، يقول الوكيل:

" قد صدرت عن الصوفية تعبيرات لا يقولها مسلم، فسماها الصوفية شطحات، معتذرين عن أصحابها بأنهم قالوها في حال سكر ، من لذة المشاهدة ! وسنرى أنها ليست شطحات، وإنما هي معتقدات ، تبرز في صورة كلامية، واضحة ، جلية، غير أن الصوفية – خشية من ثورة الجماعة الإسلامية عليهم – حاولوا أن يخدعوا المسلمين ، فأطلقوا عليها شطحات ، ترائيًا منهم بأنها لا ترضيهم جميل الرضا "([2]) .

بل وصل الأمر عند عبد الرحمن عبد الخالق إلى القول بأن: " هذا الكلام لا يحتاج إلى تفسير وتأويل، والاعتذار عنه مشاركة لصاحبه في الباطل الذي يسعى إليه "([3]) .

وهذا مما لاشك فيه غلو وتعميم في الحكم على الصوفية جميعًا بحكم واحد، ورحم الله تعالى ابن القيم، الذي اتخذ موقفًا وسطًا من التصوف، فلم يقبله كله، ولم يرده كله، وإنما قبل منه ما وافق الكتاب والسنة، وردَّ ما خالف الكتاب والسنة، فهو قد مدح التصوف في أكثر من موضع في كتبه، وظهر موقفه المتوسط من التصوف في باب ما يعرف بالشطحات ، الذي يعد من أكثر الأبواب التي جلبت على التصوف النقد والهجوم.

فقد نبـَّه ابن القيم إلى انقسام الناس في تعاملهم مع هذه الشطحات إلى ثلاث طوائف: فهناك طائفة حجبت بهذه الشطحات عن رؤية محاسن الصوفية، ولطف نفوسهم، وصدق معاملتهم، فأهدروا تلك المحاسن بسبب هذه الشطحات، وهذا في رأيه عدوان وإسراف، إذ لو كان كل من أخطأ أو غلط، ترك جملة وأهدرت محاسنه، لفسدت العلوم والصناعات والحكم، وتعطلت معالمها، وهناك طائفة ثانية قبلوها، ولا شك في خطئهم.

وأما الطائفة الثالثة، فهم – عنده – أهل العدل والإنصاف، الذين أعطوا كل ذي حق حقه، وأنزلوا كل ذي منزلة منزلته، فلم يحكموا للصحيح بحكم السقيم المعلول، ولا للمعلول السقيم بحكم الصحيح، بل قبلوا ما يقبل ، وردوا ما يرد ([4]).

أما الوكيل فيستمر في تأكيده على أنه لا يجوز لمسلم أن يعتذر عن هذا الشطح بأنه صدر في حال سكر! فالسكران – على حد قوله - يهذى ويخرِّف، ولا يقول كلامًا يرتبط أوله بآخره، أو مبتدؤه بخبره، أو فعله بفاعله! ولكنك تجد في كل ما نقلنا كلامًا وراءه إرادة وقصد وعزيمة، وراءه فكر يوجه، ويختار جيدًا الكلمات التي تعبر عن مضمونه، ويوحي إليك بأنه يجب أن تفهم عنه هذا! بل يأتي بعده مؤكدات، منها تكرار معانيه في جمل مختلفة الصور، ولكنها متفقة في المعنى، فهل يوصف فاعل هذا بأنه سكران ؟!([5])

ورغم نـقد الإمامين الجنيد والشبلي لأقوال البسطامي، وانتقاصهما من قدره بسبب شطحاته، بالإضافة إلى اعتبارهما من مشايخ الصوفية المعتدلين عند البعض، إلا أنهما لم يسلما من انتقاد واتهام عبد الرحمن عبد الخالق إذ يقول: " وقد يظن ظان أن الجنيد كان دون الشبلي في هذه الأقوال، وهذا من الجهل والغفلة، وعدم تتبع القضية الصوفية، والغوص على مغاليقها وأسرارها، والأمر على غير ذلك، فالجنيد كان أسبق أولئك القوم إلى العقيدة الصوفية، وأعلم الناس بها "([6]) .

ويرجع الوكيل سبب السكر الصوفي إلى رؤية الجمال الإلهي، فيقول: " هل يصيب جمال الله بالذهول والسكر ؟! وهو يوحي إلى المؤمن بالتهليل والتسبيح والتقديس، ويشعره تمام الشعور بعظمة الله وجلاله وكبريائه، وبأنه عبد ذليل – وفي ذلته عزته – بين يدي الله سبحانه وتعالى .

إننا نرى آيات الله في مظاهر الوجود كله، وكل آية تدل على قدرة وحكمة وقيومية وجلال وجمال، فهل في رؤية هذه الآيات ما يصيب من يراها بالسكر ؟!

الحقيقة أن الصوفية لا يقولون بما أقول، وإنما يزعمون أنه سكر حين رأى الله، ورأى أن كل شيء هو الله، ففنت آنيَّة العبد في هوية الرب، فتحدث المريد عن نفسه باعتبار أنه هو الله ... فهل يصدق هذا مسلم ؟!([7]).

وإذا كانت العبادات في الإسلام قد وضعت لتزكية النفس وتطهير المجتمع، فإن العبادات في التصوف هدفها: " ربط القلب بالله للتلقي عنه مباشرة، والفناء فيه، واستمداد الغيب من الرسول، والتخلق بأخلاق الله حتى يقول الصوفي للشيء كن فيكون، ويطلع على أسرار الخلق وينظر في الملكوت "([8]) .

وكنا قد أشرنا فيما سبق إلى الكشف عند الصوفية، وهو مغاير تمامًا لما يراه الوكيل، من حيث الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية، والأمور الحقيقية وجودًا وشهودًا ، ثم يورد قول الله تعالى: " قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ " ([9])، كما نجده يرد على المقولة الصوفية التي تذكر أنه : "بالكشف يظهر ما ليس له العقل ينال " فيقول :

" من الذي جعل من الشرع قسمًا لا يناله العقل ، بل الكشف، من قال هذا ؟ ومن أين جاءوا بهذا ؟ وهل في مقدور كل مسلم الكشف والمعاينة ؟ يجيبون بأن هذا لخواص الخواص ! وهذا يستلزم أن الخواص والعوام لا يمكن أن يصلوا إلى معرفة أهم حقائق الشرع، ثم ما هذا الذي لا يظهر إلا بالكشف ؟! إن كان هو عين ما في الشريعة فما للكشف فائدة إذًا، وإن كان غير ما فيها، قالوا بجواز عبادة الله بغير ما شرعه الله، وتلك هي الطامة الكبرى "([10]) .

ووفقًا لهذه النظرة المتشددة، فليس ثمة مجال عندهم لوجود أي صورة من صور التصوف المقبول، أو تقسيم الصوفية إلى معتدلين وغلاة، أو إلى تصوف سني وفلسفي، أو الإقرار بوجود جوانب نافعة وصحيحة عند الصوفية يمكن الاستفادة منها .


(1) محمد حامد الفقي: التعليق على مدارج السالكين 1: 465، 2: 316، عبد الرحمن الوكيل: هذه هي الصوفية ، ص 64 .

(2) عبد الرحمن الوكيل: مجلة الهدى النبوي، ص 47، عدد (11) سنة 1386هـ .

(3) عبد الرحمن عبد الخالق: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة، ص 101

(4)  ابن القيم : مدارج السالكين، 2: 39- 40 .([4])

(5) عبد الرحمن الوكيل: مجلة الهدي النبوي، ص 50، عدد (11) سنة 1386هـ .

(6) عبد الرحمن عبد الخالق: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة، ص 104 .

(7) عبد الرحمن الوكيل: مجلة الهدي النبوي، ص 51-52، عدد (11) سنة 1386هـ .

(8) عبد الرحمن عبد الخالق: فضائح الصوفية، ص 48 .

(9) سورة النمل : الآية 65 . 

(10) عبد الرحمن الوكيل: مصرع التصوف، ص 188، 192 .

المصدر: د/ مصطفى فهمي: رسالة دكتوراه-كلية دار العلوم- جامعة القاهرة.
Dr-mostafafahmy

د/ مصطفى فهمي ...[ 01023455752] [email protected]

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 1161 مشاهدة

ساحة النقاش

مصطفى فهمي

Dr-mostafafahmy
فلسفة الموقع مهتمة بتحديد طريقة الحياة المثالية وليست محاولة لفهم الحياة فقط. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

449,616