لا شك في أن ظهور أفكار مترتبة على العشق في التصوف، مثل:

أ - المحبة والعشق أصل وجود العالم .

ب - الحب أصل المعرفة .       جـ - القول بالتشبيه .

د - القول بالفناء .               هـ - القول بالاتحاد والحلول .

و - القول بوحدة الوجود .     ز - الشطح والحيرة .

ح - استحلال ما حرَّم الله تعالى .

وهي تخالف صراحة العقيدة الإسلامية، قد جعلت بعض أو كل – إن صحَّ التعميم - الصوفية هدفًا للتكفير واضطهاد أهل السنة لهم .

        فقديمًا كانت من أسباب محنة الصوفية المسماة بمحنة غلام الخليل : قول أبي الحسين النوري: " أنا أعشق الله، وهو يعشقني " (1).

        وحديثًا كان مما لفت نظر عبد الرحمن الوكيل ، واسترعى انتباهه في كتابات الصوفية، استغراق بعضهم في ذلك الفهم الخاطيء، والبدعي غير الشرعي لمعنى المحبة، فراحوا يستعملون كلمة العشق – كما سبق وذكرنا – بدلاً منها، وأخذوا يطلقون على ابن الفارض لقب " سلطان العاشقين " ، وعلى رابعة العدوية لقب " شهيدة العشق الإلهي " وهكذا ..

        الأمر الذي جعل الوكيل يقول بعد أن ذكر ما جاء في لسان العرب عن معنى العشق : " ولا يجوز مطلقًا تسمية حب الله لعبده بالعشق،  ولا تسمية حب العبد لربه، وذلك لأمرين :

أولهما : أنه لم يرد هذا الإطلاق لا في الكتاب ولا في السنة .

والآخر : لما يكتنفه من نقص وخسة " (2).

وقريب من هذا المعنى أشار د/ جميل غازي بقوله : " لم يكتف كثير من الصوفية بادعاء الحب الإلهي على طريقتهم الوثنية – بل راحوا يرددون عبارة (العشق الإلهي) مع أن عبارة العشق عند أهل اللغة كما يقول "ابن الجوزي" لا تكون إلا لما ينكح، وأيضاً فإن صفات الله عز وجل منقولة فهو – سبحانه – يحب، ولا يقال يعشق. كما يقال يعلم ولا يقال يعرف ".

        ثم بعد تفنيد أقوال ودعاوى الصوفية في الحب بناء على كتبهم، مثل : اللمع، والتعرف، والرسالة، وغيرها، كان من الطبيعي أن يبدأ الوكيل برابعة العدوية ، وذلك بعد استشهاده بقولها : " ما عبدتك خوفًا من نارك، ولا طمعًا في جنتك، وإنما عبدتك لذاتك"، فيقول :

        " رابعة التي تزعم أنها تجردت من كل رغبة، أو رهبة، أو طمع، أو خوف، هؤلاء (أي الصوفية) ينسبون أن رابعة بهذا السحر الصوفي الفاتن تستشرف عزة الألوهية! وتفتري لنفسها الشائنة مقامًا يسمو عن مقام الرسل الذين جعل الله من صفاتهم أن يدعونه: رغبًا ورهبًا أو خوفًا وطمعًا، يقول الله عن زكريا وآله: " إنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونُ فِي الخَيْرَاتِ ويَدْعُونَنَا رَغَباً ورَهَباً وكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ "(3) ثم تأمل هذه الآيات التي تنجيك من سحر رابعة : " وادْعُوهُ خَوْفاً وطَمَعاً إنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ المُحْسِنِينَ"(4) . وصف الله من يدعونه خوفًا وطمعًا بأنهم محسنون، والإحسان أسمى مراتب العبادة، وأكمل مقامات العبودية، والعبودية هي غاية الحب، مع غاية التذلل، فما الحب الذي تطفح به مشاعر رابعة ؟! (5).

        وعن رابعة العدوية – والتي لم تتكلم عن العشق - فقد سماها مصطفى درويش بـ " ضحية العشق الصوفي " ثم نراه يتهكم ويتساءل : هل هي التي قتلها العشق الإلهي فسال دمها في معارك الغرام ؟! ثم بعد أن بيَّن أن مدلول كلمة العشق تطلق على العلاقة الجنسية والصلة بين الرجل والمرأة نراه يترحم على " سمية " أول شهيدة بحق وصدق في الإسلام، ثم يقول عن نتيجة العشق الصوفي والقول بالوحدة:

" لقد استبد العشق الصوفي بأقطابه فجعلهم يرون ربهم في الأحجار والنار والأشجار والأوثان والأنصاب حتى صاح قطبهم ابن عربي: " الكل ذاته وما من شيء إلا وهو خارج منها" ... " (6).

والوكيل بعد أن يذكر عدة روايات عن بعض الصوفية، ومنهم معروف الكرخي قد جاءت في طبقات الصوفية للسلمي، يتساءل قائلاً : أيوجد من يجرؤ على القول بأن رابعة والكرخي وأضرابهما من مخابيل التصوف، وعرابيد سكره وفجره، يساوون شسعًا من نعل خليل الله إبراهيم، وخاتم النبيين محمد (صلى الله عليه وسلم)؟ إن واحدًا منهما لم يتكلم عن حب الله بما يزعم الصوفية أن الله أوحاه إليهم!! أهم خير عند الله من خليله وخاتم رسله؟ وهل ينتسب هذا العشق الصوفي وعهره إلى ملحة من نور حب النبوة وطهره ؟! ...

        ثم يتوجه إلى ابن عربي، مطلقًا عليه " الطاغوت الأكبر " ويخصه بالنصيب الأكبر من نقده اللاذع، مبينًا السبب الحقيقي وراء حبه وتأليفه لكتبه، قائلاً للصوفية :

        " إن كبريتكم الأحمرهذا أحب امرأة ذات مرة، هي ابنة الشيخ مكين الدين. وأين؟ في مكة !!

وهفا العاشق المُدلَّه يتلمس جسد المرأة، وسبيل أنيابه إليها، فراح يتوسل إليها أن تتجرد له، وأن تبيح قدس عرضها لخطيئته، فأبت العذراء، يتلهب حياؤها كرامة أن يلغ في شرفها ذئب!! ... فنظم فيها ديوانه " ترجمان الأشواق " قربانًا من شهواته إلى جسدها الفوَّاح العطر... فزادته الفتاة عن حَرَم مخدعها الوردي ... ترى هل أراب اليأسُ منها عشقَ ابن عربي؟ كلا فقد استغرق نفسه ووجوده ، وملأ عليه دنياه فتنة ولهفة وقلقًا عاصفًا ... فعاد إلى ديوانه يشرحه بدين الصوفية، يؤكد لهذه الجميلة النافرة الأبية أنها هي الرب متجسدًا في صورة أنثى، وأنه ما أحبها إلا لأنها أجمل تعينات الحقيقة الإلهية، وأنه – إذ يتشهاها – فإنما يتشهى فيها أنوثة ربه، وجسده الفائر!!"(7).

وعبد الرحمن الوكيل يشير هنا إلى نظرية وحدة الوجود عند محيي الدين بن عربي، وكيف أدَّى الخروج بالمحبة المشروعة إلى ألفاظ مثل العشق وغيره بهؤلاء الغلاة الصوفية إلى ألوان من الفناء والاتحاد والحلول ووحدة الوجود، وغيرها من المذاهب المنحرفة الدخيلة على الإسلام .

وعن قضية ربط أهل العشق من الصوفية بين حب الله تعالى وحب النساء ، وإطلاق أسماء النساء في قصائدهم، وضرورة بدء الحب الصوفي بالحب الإنساني يرجع الوكيل هذا الأمر بعد أن يسميه "عبادة الأنوثة " إلى الإلحاح الجسدي في عبادة الأنوثة، ويحاول : " اكتناه ما يعتلج به من شعور يتلظى بالنزوات الملتهبات والشهوات العرابيد؛ لتدرك علة ذلك المتمجس الصوفي(8) الذي يؤله نار الجسد . أترى حين استبد بالصوفية عشق الأنثى، ولوَّعهم بالحرمان، أراقوا الغزل في هوى المعشوقة... يزعم أن ربه ظهر لآدم في صورة حواء، ولقيس في صورة لبنى، ولجميل في صورة بثينة، ولكثير في صورة عزة ... فما أولئك جميعًا سوى رب الصوفية تجسد في صور غوانٍ تطيش بِهُدَاهُن نزوة ولهى، أو نشوة سكرى..." (9).

ومع خروج هذا الكلام عن الآداب العامة فإننا لم نر بدًّا من ذكره لبيان تلك الهجمة الشرسة من المعارضين المحدثين للتصوف في مصر، والتي ترجع إلى عدة أمور؛ منها : الجهل بحقيقة التصوف الإسلامي الصحيح، وبعدم أخذه عن رجاله الصادقين، وعلمائه المخلصين، بل النظر إليه نظرة سطحية، بعيدة عن التمحيص والتبين، بالإضافة إلى التغافل عن حقيقة أن التصوف كغيره من العلوم الدينية، لم يسلم من الدس والتزييف والتحريف من هؤلاء الدخلاء والمفترين .

وعن تفسير ما يصدر من الصوفية بالشطح، واعتذار البعض عما يقولونه بأنه غلبة الوجد والسكر، يقول عبد الرحمن عبد الخالق :

فأما قولهم (أي الصوفية) إن هذا شطح، وغلبة حال ، وغلبة سكر، ونحو هذا من الأقوال ، فالرد عليها ما يأتي :

1- لا نسلِّم أن قائلي هذه العبارات قد قالوها كما زعموا وهم في حالة هذيان وغيبة عقل، وذلك أن هذه العبارات لها لمعان محدودة، وهي نسيج مؤلف مركب قصد بها صاحبها أن يدل على عقيدة عنده، ولم يقلها كلامًا غير منضبط ككلام السكران والغائب عن الوعي.

2- إن هذه العبارات قد تلقاها تلاميذ التصوف بالقبول واعتقدوا ما فيها بل وشرحوا العقيدة التي تشير هذه العبارات إليها في كتب كاملة.

3- إذا كان مثل هذه العبارات يسميها الصوفية شطحًا وهذيانًا، فلماذا يعمدون إلى تأويلها وتفسيرها، وإخراج درر معانيها، بل وجعلها من مناقب قائليها ووصولهم إلى الحقيقة؟!

4- والأمر الرابع نسألهم: هذا السكران بحب الله كما زعمتم، وبرؤية الجلال الإلهي أو الجمال -كما تزعمون- هل يجلس ليؤلف كتبًا كاملة في هذا الهذيان والسكر وغلبة الحال كما تقولون... أو يكفيه عبارة أو عبارتان، جملة أو جملتان؟!..

5- القول بأن الصوفية يشطحون ويقولون ما لا يريدونه ولا يقصدونه في أقل أحواله إثبات لأحوال غريبة وبدعة منكرة ما كان عليها أحد من سلف الأمة الصادقين كالصحابة والأئمة، فهل سمعتم أن أبا بكر وعمر والخلفاء والصحابة شطحوا!(10).

وجملة القول أن هذا الشطح الذي يأتي مما يسمونه بالحال وغلبة الوجد ما نراه عند من صدق منهم إلا وخزًا من الشيطان، وأما الكاذبون فإنهم يفتعلون ما يفعلون لإيهام العامة ، والسذج بأنهم من أهل الأحوال!! ونعتقد بأن ذلك كله من الرياء والنفاق وسوء الأخلاق، وذلك لمخالفته هدي سلفنا الصالح ، والخروج على مناهج الأنبياء رضوان الله عليهم .

ومن ثمَّ فالمعارضون للتصوف يجعلون منه واجهة لكل الشرور والانحرافات والآراء الباطلة التي شهدتها البشرية عبر تاريخها الطويل.

والحق أن أجواء الصوفية ربما تساعد على نشوء مثل هذه الأفكار أو قريبًا منها, فالاستغراق في توحيد الربوبية وأن الله رب كل شيء ومليكه , دون الالتفات إلى جانب الأمر والنهي الشرعيين، والمخاطب بهما المؤمنون، والذي هو جانب توحيد الألوهية , والاستغراق في كلمات ذوقية مثل الحب الإلهي والعشق الإلهي، كل هذا يؤدي إلى الخلط والاضطراب، وبالتالي اتهام المرء في عقيدته ودينه .

ولا يُـتَّهم كل الصوفية بهذه البدعة؛ لأن القول بها ضلال وانحراف، فلا يقول به إلا غلاتهم, وقد بان لنا بطلان القول بالعشق الإلهي، وبالتالي يبطل كل ما يترتب عليه، فالعشق يتنافى تمامًا مع الزهد والتصوف الإسلامي الصحيح.


(1) الطوسي: اللمع، ص 492 ، ابن الجوزي: تلبيس إبليس، ص 166 .

(2) عبدالرحمن الوكيل: مجلة الهدى النبوي، ص 32، عدد (2) لسنة 1383هـ .

(3) سورة الأنبياء : الآية 90 .

(4) سورة الأعراف : الآية 56 .

(5) عبدالرحمن الوكيل: مجلة الهدى النبوي، ص 36- 37، عدد (2) لسنة 1383هـ ، و د/ محمد جميل غازي: الصوفية والوجه الآخر، إعداد عبد المنعم الجداوي، ص 40 .

(6) مصطفى عبداللطيف درويش: مجلة الهدى النبوي، مقال "ضحية العشق الصوفي" ص9، العدد ( 9 ) لسنة 1398هـ .

(7) عبدالرحمن الوكيل: هذه هي الصوفية، ص 41- 42، صوفيات، خطاب مفتوح إلى حضرة السماحة شيخ مشايخ الطرق الصوفية، بتقديم الشيخ محمد علي عبدالرحيم، ص10- 12، 1950م .

(8) يقصد به : عمر بن الفارض .

(9) عبدالرحمن الوكيل: هذه هي الصوفية، ص 31- 33، صوفيات، خطاب مفتوح إلى حضرة السماحة شيخ مشايخ الطرق الصوفية، ص 13 وما بعدها .

(10) عبد الرحمن عبد الخالق: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة، ص 199- 200.

المصدر: د/ مصطفى فهمي: رسالة دكتوراه - كلية دار العلوم - جامعة القاهرة.
Dr-mostafafahmy

د/ مصطفى فهمي ...[ 01023455752] [email protected]

ساحة النقاش

مصطفى فهمي

Dr-mostafafahmy
فلسفة الموقع مهتمة بتحديد طريقة الحياة المثالية وليست محاولة لفهم الحياة فقط. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

453,746