يتشعب الحديث عن المعرفة الصوفية من حيث مصدرها وموضوعاتها ووسائلها وغايتها، ذلك أن كل صوفي يتحدث عنها من واقع تجربته الخاصة، وكثيرًا ما تختلف تجارب الصوفية وتتباين؛ لأنها مواقف ذاتية بحتة ليس لها قانون ولا ضابط إلا الذوق والوجدان الذاتي.

1- المعرفة العقلية والحسية:

إن المعرفة الحسية والعقلية عند الصوفية برغم اعتراض البعض عليها هي العلم بمعناه القائم على العقل والنقل أو التبادل لعلوم الدراية والرواية، والعلم كما سنبين بهذا المعنى يمثل جزءًا لا غنى عنه في الدراسة لنظرية المعرفة لدى الصوفية، والأساس الذي يؤدي إلى الشق الآخر من المعرفة المتعارف عليه، والقائم على الكشف والإلهام.

ولذلك نرى أن البداية الصحيحة لدراسة المعرفة عند الصوفية هي الفهم الواعي لتفرقتهم بين العلم والمعرفة، فهناك من الدراسات التي تناولت نظرية المعرفة عند الصوفية قدمتها بشكل يمكن وصفه بالقصور؛ حيث انتهت إلى تقرير نتيجة أن الصوفية رفضوا العقل رفضًا تامًا، وأن معرفة الصوفي بالله، ليست وليدة العقل، بل وليدة قوة أخرى تعلو العقل والحس أيضًا، بل هي نور يقذف به الله في قلب من أحبه ... إذ المحبة الإلهية وحدها – لا التعقل والنظر – في رأي الصوفية هي الطريق الوحيد الموصل إلى تلك المعرفة([1]).

ولعل هذا القول إذا صحَّ بالنسبة للمعرفة لدى بعض الصوفية الذين يتولاهم الله ابتداءً فيجذبهم إليه، ويفيض عليهم من أسراره؛ فإنه لا يصح بالنسبة للمعرفة لدى الكثرة الغالبة الذين يؤسسون طريقهم إلى الله تعالى على بذل المجهود أولاً ليتوصلوا من ذلك إلى عين الجود، فالواجب أن يكون التعويل في شرح رأي الصوفية في المعرفة على أحوال الكثرة منهم، لا تعميم حال القلة فيهم.

وقد أشار الدكتور عبد اللطيف العبد إلى تقسيم الصوفية المعرفة إلى قسمين:

أ‌-     علم أدنى: نستطيع أن نعرفه بالحواس وبالاطلاع وبالتعليم.

ب- علم لدني: وهو كما سماه الغزالي، تفسيرًا للآية الكريمة " وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا"، [سورة الكهف: آية 56]، فليس صحيحًا ما يراه بعضهم من أن التصوف قرين التخلف الحضاري([2]).

ومن خلال تحليل – قام به الدكتور محمد الشرقاوي – لمحاولات كبار الصوفية حول تقسيم المعرفة لاحظ أنها تقسيمات تخضع لسمة التجدد والتغير، التي تتصف بها المعرفة ذاتها، كما لاحظ أن المعرفة تكون:

" إما استدلالية، وهي عن العقل النظري التحليلي المتنقل، تكون مع توفيق الله وتأييده، وهي معرفة وجوده ووحدانيته وبقية صفاته على ما أبرز سبحانه للخلق، وهذا الاستدلال من عمل العقل، الذي يعتمد على آثار الخلق من جهة، وعلى تدبر آيات الكتاب من جهة أخرى، وهذه يطلق عليها " العلم " .

وإما معرفة خاصة، يعرف فيها الصوفي العارف حقائق الصفات والتدبير والأسرار، وقمة ما يصل إليه – من معرفته – هو معرفة العجز عن إدراك كنه ذات الله سبحانه، وهذه المعرفة لا تكون عن طريق العقل النظري التحليلي، ولكنها تكون فضلاً من الله عن طريق الإلهام، وهو العلم اللدني "([3]).

وهو ما يجعلنا نتفق مع أستاذنا الدكتور السيد الحجر عندما أكَّد أن أية دراسة لنظرية المعرفة لدى الصوفية تكون ناقصة مبتورة ما لم تأخذ في اعتبارها ذلك الترابط بين شقيها القائم أحدهما على العلم، والثاني على الذوق والكشف([4]).

بين العلم والمعرفة:

إن فهم التفرقة بين العلم والمعرفة عند الصوفية كما يذكر د/ كمال جعفر يكشف لنا عن مكانة العلم في نظرهم، ولما كان العلم – منسوبًا إلى الإنسان – سبيله الرواية والدراية، أو النقل والعقل، وغالبًا ما يعنى بالحقائق الثابتة([5])، وإن معرفة مكانه في نظريتهم تساعدنا على معرفة حقيقة موقفهم من العقل، وتغلق باب الادِّعاء عليهم، كما تسهم في عرض نظريتهم في المعرفة بصورة متكاملة بدلاً من هذه الصورة المبتسرة، والتي يبدو الصوفية من خلالها، وكأنهم لا يعيشون حياة الناس، ولا يعرفون ما يعرفونه، بل وكأنهم خلقوا من طينة غير طينتهم([6]).

كما يؤكد د/ محمد الجليند على ضرورة هذه التفرقة، وأيهما يكون وصفًا لله، وأيهما يكون وصفًا للإنسان، ويعتمد في ذلك على استعمال القرآن لكلا اللفظين فيقول:

" إن عدم مجيء المعرفة صفة الله تعالى في كتابه وقصر وصفه بالعلم ربما أوحى إلينا أن صفة المعرفة تتعلق بظواهر الأشياء دون باطنها، أما صفة العلم فتتعلق بظواهر الأشياء وبواطنها معًا على حد سواء، وقد وصف الله نفسه بالعلم دون المعرفة؛ لأنه يعلم علمًا مطلقًا، أما الإنسان فوصف بالمعرفة فقط لقصور معرفته، وتعلقها بظواهر الأشياء فقط، ولما وصفه القرآن بالعلم جاء وصفه بذلك مقيدًا غير مطلق، مرة جاء مقيدًا بظواهر الأشياء، ومرة وصف بأنه قليل ومن الله "([7]).

وما سبق يتعلق باستعمال القرآن لهاتين الصفتين مضافة إلى الإنسان، ومضافة إلى الله، أما الصوفية فإنهم قد يبيحون التبادل بين لفظي العلم والمعرفة، وقد ذكر الدكتور كمال جعفر أن ذلك يتم: " في مرحلة خاصة فيها تثبت الحقائق، وتصبح صنوًا لثمرات العلم، وفي هذا مفتاح مشكلة المفاضلة أو المماثلة، وعلى ذلك قد نجد لفظ " العلماء" ويقصد بهم من رسخت معرفتهم، وثبتت الحقائق في نفوسهم، ورأوا عيانًا ما سمعوا عنه نقلاً أو ما وصلوا إليه عقلاً "([8]).

وأشار إلى المعنى نفسه الهجويرى قائلاً: " لم يفرق علماء الأصول بين العلم والمعرفة، وقالوا: إن كليهما سواء، غير أنهم قالوا: يجوز أن يقال للحق تعالى عالمًا، ولا يجوز أن يقال عارفًا لعدم التوافق([9])، ويؤكد القشيري هذه التسوية بين العلم والمعرفة لدى غير الصوفية في قوله: " المعرفة على لسان العلماء هي العلم، فكل علم معرفة، وكل عالم بالله عارف، وكل عارف عالم "([10]).

وربما كان قول ابن العريف الخاص بهذين اللفظين أوجز قول وأعمقه في إيضاح الفرق بينهما في الميدان الصوفي، ويحكي ابن العريف هذا القول عن الله سبحانه وهو: "المعرفة محجتي، والعلم حجتي "؛ أي أن المعرفة هي الطريق بما يتضمنه من مجاهدات وتجارب، والعلم هو البرهان الثابت المتصل بالحقيقة([11]).

ويؤكد الصوفية على اللقاء المباشر بين العارف وموضوع معرفته في المعرفة الصوفية، أما العلم دون ذلك بمراحل عديدة، وما قيمة العقل والبرهان أمام المواجهة المباشرة بين قلب العارف ومعرفته!

وهو ما أشار إليه سهل التستري عندما قال: بدء الأشياء المعرفة وآخرها العلم، وبدء الشيء العلم وآخره المعرفة، وآخر باب من العلم أول باب من المعرفة، وأول باب من المعرفة السكون إلى الله عز وجل.

ويتضح معنى ذلك في قول الصقلي ( أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد المتوفى عام 423هـ): لقوله تعالى: " وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ "([12])، وأخرها العلم أي في الدنيا بأن الله تعالى خالق رازق لقوله تعالى: " وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ "([13]) وبدء الشيء العلم، أي العبادة بالتوحيد له لا تقوم إلا بالعلم، ومنه قوله (صلى الله عليه وسلم): " طلب العلم فريضة على كل مسلم ... وآخره المعرفة: أي ثبات اليقين وزيادة الإيمان بحقيقة المعرفة، ومن ذلك قول النبي (صلى الله عليه وسلم) لحارثة، "لكل حق حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ فذكر ما جاء في الحديث فقال له (صلى الله عليه وسلم): عرفت فالزم. مؤمن نوَّر الله قلبه بالإيمان، وأما قوله: وآخر باب من العلم أول باب من المعرفة، أي آخر باب من علم الأمر والنهي على حقيقة أدبه، والعلم به تمام شرطه مع الخشية لله عز وجل فيه، وأول باب من المعرفة السكون، أي الثقة بالله عز وجل، والطمأنينة بوعده وهو أول باب من حقيقة التوكل، لقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "ومن قنع ورضي وتوكل كفي الطلب "([14]).

والواضح هنا أن الصوفية يريدون بالعلم في هذه الأقوال العلم الكسبي، أي ما ذكرناه من قبل وهو ما سبيله الرواية والدراية أو العقل والنقل، ويقصدون بالمعرفة ما يتحصل للصوفي في تجربة الاتصال المباشر مع الله سبحانه وتعالى، فإذا كان العلم يتحصل بالوسائط؛ فإن المعرفة تتم لهم بلا واسطة.

ولعل هذا ما جعل الدكتور كمال جعفر يقول بالأنواع الأربعة للمعرفة والعلم، وهي:

1-   معرفة أصلية خلال لقاء سابق مع الله فيه ثبت الإقرار بالربوبية.

2-   معرفة مكتسبة نظريًّا أو عقليًّا، فيها يتوصل من الآثار إلى معرفة المؤثر.

3-   معرفة دينية أو تقليدية ترتبط بالشريعة أو الدين الموحي به من حيث التكاليف.

4-   معرفة مباشرة مؤسسة على التجربة، وهي في الواقع ليست إلا محاولة استعادة الشعور باللقاء السابق يوم الميثاق، باستدامة الإحساس بحضور الله وقيامه عزوجل على خلقه([15]).

وفيما يخص الغاية أو النتيجة التي تترتب على كل من العلم والمعرفة نقف في أقوال الصوفية على فارق آخر بينهما، وهو ما يتضح في مثل قول أبي على الدقاق: "المعرفة توجب السكينة في القلب، كما أن العلم يوجب السكون ، فمن ازدادت معرفته ازدادت سكينته "([16]).

والنظرة المتفحصة لأقوال الصوفية تبين حقيقة أنهم يقيمون نظريتهم في المعرفة كما صرَّح الدكتور كمال جعفر على أساس: " حصيلة مجموع الطاقات البشرية كلها من روحية وعقلية وإرادية، وهي في جملتها مغامرة فدائية تتطلب تمهيدًا نفسيًا شاملاً على طريق الوسائل الزهدية العديدة، ومرانًا روحيًا مستمرًا ومستضيئًا، ودربة عقلية خاضعة لهذا النطاق الروحي الذي يترجم عن المستوى الذي وصل إليه نضج الصوفي، وعلى ذلك فجميع الفضائل الصوفية تتدرج كلها بلا استثناء تحت تلك الوسائل، على تباين درجاتها وتعدد مراحلها([17]).

ولعلنا إذا استعرضنا قول السراج الطوسي في هذا الموضع سنراه يدل على هذا الرباط الوثيق بين المعرفة العلمية؛ معرفة العقل المسترشد بنور الإيمان، وبين المعرفة الذوقية بحيث لا تشرق الثانية في قلب العالم ما لم يجتهد في تحصيل الأولى فيقول: "إن هناك ألوانًا من المعارف العقلية والحسية لا غنى لهم ( أي الصوفية ) في عباداتهم عنها، فأول آدابهم من ذلك أن يكون تأهبهم للصلاة قبل دخول وقت الصلاة حتى لا يفوتهم الوقت الأول الذي هو المختار، ولا يمكنهم ذلك إلا بمعرفة الوقت الأول لكل صلاة، ولا يقدر على ذلك إلا بمعرفة وعلم، مع الوقوف على علم الزوال، ومقدار ظل الزوال في كل وقت وأوان في كل الأقطار، وأن يعلم علمَ كمْ نزول الشمس في كل وقت، وكم يزداد وينقص، ويعتبر ذلك بمقدار قامته إذا لم يكن معه مقياس لذلك ... وكذلك يحتاج إلى معرفة شيء من النجوم ومنازل القمر وطلوعها وغروبها ونوبة طلوع كل نجم من منازل القمر حتى إذا نظرنا بالليل إلى النجوم لا يخفى عليه ما مضى من الليل وما بقى إلى الصبح.

ويحتاج أيضًا إلى معرفة القطب والكواكب التي يستدل بها على القبلة، ولا يصح له ذلك إلا بالاجتهاد ومعرفة سمت كل بلدة، حتى أين تقع من الكعبة، وأين كان ذلك في وقت معلوم من محاذاة القطب والجدي والفرقدين ..."([18]).

هكذا كانت المعارف العلمية القائمة على النظر والملاحظة والغرض والاستنتاج لابد منها للصوفية كي ما يتمكنوا من إتمام عبادتهم.

والفرق هنا كما يوضحه أستاذنا الدكتور السيد الحجر بين الصوفية وغيرهم من المسلمين أن العبادة عند الأولين ليست نهاية المطاف، وإنما هي أساس استعدادهم لذلك النور الذي يقذف به الله تعالى في قلوبهم كما يتجلى ذلك في تأكيدهم على أنه لا حقيقة بدون شريعة ([19]).


(1)  د/ عفيفي: التصوف الثورة الروحية في الإسلام، ص 246، د/ جلال شرف: خصائص الحياة الروحية في مدرسة بغداد، ص 150، 1977م، طبعة دار الفكر الجامعي.

(2)  د/ عبد اللطيف العبد: الفكر الفلسفي في ضوء الإسلام، ص 154.

(3) د/ محمد عبد الله الشرقاوي: الصوفية والعقل، ص 205، ط1، 1416هـ/1995م، دار الجيل، بيروت، مكتبة الزهراء بجامعة القاهرة.

(4)  د/ السيد رزق الحجر: التصوف الإسلامي بين الاتباع والابتداع، ص 176.

(5)  د/ كمال جعفر: التصوف طريقًا وتجربة ومذهبًا، ص 182 وما بعدها.

(6) د/ السيد الحجر: التصوف الإسلامي بين الإتباع والابتداع، ص 149، د/ عبد اللطيف العبد: التصوف في الإسلام، ص 149.

(7) د/ محمد الجليند: من قضايا التصوف، ص 150.

(8) د/ كمال جعفر: التصوف طريقًا وتجربة ومذهبًا، ص 210.

(9) الهجويري: كشف المحجوب، 2/626.

(10) القشيري: الرسالة القشيرية، ص 311.

(11) د/ كمال جعفر: التصوف، ص 182.

(12) سورة الأعراف: الآية 172.

(13) سورة الزخرف : الآية   87 .

(14) د/ كمال جعفر: من التراث الصوفي، سهل التستري، 1/219.

(15) د/ كمال جعفر: التصوف طريقًا وتجربة ومذهبًا، ص 202.

(16) القشيري: الرسالة القشيرية. ص 312 .

(17)  د/ كمال جعفر: التصوف ص 203-204.

(18)  السراج الطوسي: اللمع، ص 204 وما بعدها، الهجويري: كشف المحجوب، 1: 303.

(19) د/ السيد الحجر: التصوف الإسلامي، ص 157.

المصدر: د/ مصطفى فهمي: رسالة دكتوراه - كلية دار العلوم - جامعة القاهرة
Dr-mostafafahmy

د/ مصطفى فهمي ...[ 01023455752] [email protected]

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 3156 مشاهدة

ساحة النقاش

مصطفى فهمي

Dr-mostafafahmy
فلسفة الموقع مهتمة بتحديد طريقة الحياة المثالية وليست محاولة لفهم الحياة فقط. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

499,851