يرى ابن عربي أن للحب ثلاث مراتب: حب إلهي وحب روحاني وحب طبيعي، وما ثم حب خلاف ذلك .
وهو حين يشرح الحب الإلهي يُدْخل فيه الحبين: الطبيعي والروحاني، بحيث يكون حب الإنسان لربه فيه شيء من ماهية الحب الطبيعي، وفيه أيضًا شيء من ماهية الحب الروحاني؛ لأن هذا عنده مما تقتضيه حقيقة الإنسان من حيث روحانيته وجسمانيته (1).
فالحب الإنساني عند ابن عربي هو تحقيق للحب الإلهي، ومن هذه الحقيقة قد يكون حبه " للنظام"(2) التي رأى فيها صورة للجمال الإلهي ذاته وفي ذلك يقول :
لَوْلاَ جَمَالُكِ مَا تَهَتَّكَ سِرُّ عَاشِقٍ
بَلْ كُلُ مَعْشُوقٍ عَلَيكِ دَلـِيلُ (3).
فابن عربي ما وضع كتابه ( ذخائر الأعلاق ) إلا من أجل النظام بنت شيخه مكين الدين، وهو قد بيَّن ذلك في كتابه هذا فقال :
" ... فقلدناها من نظمنا في هذا الكتاب أحسن القلائد بلسان النسيب الرائق، وعبارات الغزل اللائق، ولم أبلغ في ذلك بعض ما تجده النفس ... فكل اسم أذكره في هذا الجزء فعنها أكني، وكل دار أندبها أعني " (4).
فالنظام ابنة شيخه مكين الدين بن رستم لم تكن في الحقيقة إلا مجلى من المجالي الإلهية، وصورة من صور الجمال الإلهي التي هام بها ابن عربي، وكتب من أجلها (ترجمان الأشواق)، فهو قد رأى فيها صورة جميلة تتجلى فيها صفات الجمال الحسي والمعنوي، فاتخذ من تلك الصورة الإنسانية الحسناء رمزًا للجمال المطلق الذي يتعشقه ويعبده ويقدسه، فهو ينظم ما ينظم من قصائد وعينه شاخصة إلى صور الجمال، ولكن قلبه مشغول بصاحب الصور (5).
ويستمر ابن عربي في تشبيهه الصلة بين الحق والخلق بالصلة بين الرجل والمرأة؛ لأن كلا منهما مظهر للصلة بين الأصل وفرعه، وهذا ما يوضحه د/ أبو العلا عفيفي بقوله :
" والذي اعتقده أنه يستعمل كلمة " المرأة "... رمزًا للدلالة على أي موضوع "محبوب" ، و"الشهوة" رمزًا على الرغبة الملحة في الحصول على المطلوب، و "صلة النكاح" رمزًا على الاتحاد الصوفي، و "الاغتسال" رمزًا على الطهارة الروحية، وإذا كان الحق هو عين كل محب ومحبوب وكانت غاية كل محب الاتصال بمحبوبه والفناء فيه، والتلذذ بقربه لزم أن يكون الحق هو المحبوب على الإطلاق والمتلذذ به على الإطلاق ولزم ألا يفني محب إلا فيه، وألا تطلب "وصلة النكاح" إلا به..."(6).
كانت هذه بعض النماذج من أقوال أهل العشق من الصوفية، بيَّنا من خلالها منهج بعض الصوفية في العشق الإلهي، وهو قائم عندهم على العشق الإنساني، وهذا لا يليق بالخالق عز وجل، وتعالى ربنا عن ذلك علوًا كبيرًا.
وجملة القول أن الحب العذري في رأينا ليس طريقًا إلى التصوف لعدة أسباب :
1- إن الحب لله تعالى يبدأ من الشرع لا من حب امرأة أيًّا كانت .
2- يستند بعض الصوفية إلى أن النظر إلى الوجه الحسن عبادة، والنظر الذي ندب الله إليه نظر يثاب عليه الناظر، وهو نظر موافق لأمره، يقصد به معرفة ربه ومحبته، لا النظر الشيطاني الشهواني، وإنما تسترت هذه الطائفة لهواها وشهواتها وأوهمت أنها تنظر عبرة واستدلالاً، حتى آل – كما سبق وذكرنا - ببعضهم الأمر إلى أن ظنوا أن نظرهم عبادة؛ لأنهم ينظرون إلى مظاهر الجمال الإلهي، ويزعمون أن الله سبحانه وتعالى يظهر في تلك الصورة الجميلة، ويجعلون هذا طريقًا إلى الله تعالى .
3- عشق الصور إنما يبتلى به القلوب الفارغة من محبة الله تعالى المعرضة عنه، المتعوضة بغيره عنه، ولهذا قال بعض السلف: العشق حركة قلب فارغ؛ يعني فارغًا من محبة الله تعالى .
4- من المفترض أن يكون الصوفي منشغلاً كليًّا بربه، فليس عنده مكان في قلبه لغيره سبحانه تعالى، وذلك مما يتنافى مع جعل الحب العذري طريقًا إلى التصوف أو الحب الإلهي .
وإذا كان هذا الحب العذري لا يؤدي إلى التصوف الصحيح الموافق للكتاب والسنة، فإنه أيضًا لا يفيد روحانية السالك وترقيه الروحي .
(1) ابن عربي: الفتوحات المكية، 2: 329، 337، د/ الجزار: الفناء والحب الإلهي ، ص 14- 15 .
(2) هي النظام بنت مكين الدين بن رستم شيخ ابن عربي، ويصفها ابن عربي بقوله: " وكان لهذا الشيخ رضي الله عنه بنت عذراء طفيلة هيفاء، تقيد النظر، وتزين المحاضر، وتحير المناظر، تسمى بالنظام وتلقب بعين الشمس بين العابدات العالمات السابحات الزاهدات شيخة الحرمين، وتربية البلد الأمين الأعظم". (ذخائر الأعلاق ص 3) .
(3) د/ أبو العلا عفيفي: التصوف الثورة الروحية في الإسلام، ص 236 وما بعدها، وقارن د/ الجزار: الفناء والحب الإلهي عند ابن عربي، ص 118- 119 .
(4) ابن عربي: ذخائر الأعلاق شرح ترجمان الأشواق، ص 3- 4 .
(5) د/ أبو العلا عفيفي: الكتاب التذكاري: محيي الدين بن عربي في الذكرى المئوية الثامنة لميلاده، مقال بعنوان (ابن عربي في دراساتي) ص 19- 20، و زكي نجيب محمود: طريقة الرمز عند ابن عربي في ديوانه ترجمان الأشواق، 1389هـ/ 1969م، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، د/ الجزار: الفناء والحب الإلهي عند ابن عربي، ص 112.
(6) د/ أبو العلا عفيفي: التعليقات على فصوص الحكم لابن عربي، 2/ 329 وما بعدها، ط2، 1400هـ/ 1980م ، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.
ساحة النقاش