تاريخ الحركة الصوفية في مصر (1)

من المعلوم أن الإنسان مجبول على التدين، وإن اختلفت درجته بين الناس، فمنهم المُفْرِط الغالي، وفيهم المُفرِّط المتهاون، ولقد كان الاتجاه في مصر أدنى إلى الفريق الأول الذي غلاَ في التدين حتى رده الغلو إلى حياة النسك والعبادة بما فيها من غلظة وخشونة وإعراض عن زينة الدنيا، واستخفاف بمباهج الحياة ونعيمها الزائل(<!--) .

تعد الطرق الصوفية في مصر من الظواهر الاجتماعية التي تمتد بجذورها إلى القرنين الثالث والرابع الهجري، وتنتشر الطرق الصوفية في جميع ربوع مصر؛ حيث تمتد على مساحة مصر الجغرافية كلها تقريبا، فلا تكاد تخلو قرية أو مدينة من وجود أتباع لهذه الطريقة أو تلك، وتكاد تتشابه الطرق الصوفية في مصر إلى درجة تكاد تذوب فيها الفوارق بينها؛ حيث تتشابه جميعها في شروط الانتساب، والمواصفات المطلوبة في الشيخ، وآلية تولي خلافة الطريقة، وحتى في الأوراد.

وهناك 77 طريقة صوفية في مصر تتفرع معظمها عن 6 طرق صوفية كبرى دخلت مصر جميعها في القرن الرابع الهجري، وفيما يلي نعرض لتاريخ الحركة الصوفية في مصر، ونحاول الإلمام بأطوارها المختلفة مع إيجاز، حتى ما قبل القرن الرابع عشر الهجري، العشرين الميلادي.

أولاً: الحركة الصوفية في مصر في القرن الأول والثاني الهجريين :

عرفت مصر الزهد – وهو كما ذكرنا يمثل المرحلة الأولى من التصوف – في طور باكر من تاريخها، وظهر بها إبان القرنين الأول والثاني الهجريين حشد هائل من الزهاد والعباد ، ليس من اليسير استقصاؤهم، لذا سوف نشير إلى أبرزهم فيما يلي(<!--) :

سليم بن عتر النجيبي ( ت57هـ/676م ) وعبد الرحمن بن مجيرة الخولاني (ت83هـ/702م) وحيوة بن شريح ( ت 158هـ / 774م ) وغيرهم.

لم تلبث حركة الزهد التي عرفتها مصر في صدر تاريخها أن تحولت إلى تيار صوفي إصلاحي، تجاوز نطاق الزهد والعبادة وشدة العناية بأمر الدين، إلى التدخل في شئون المجتمع والتوجيه الفعلي لمجريات الأمور والأحداث فيه، ففي سنة (200هـ/815م) ظهرت بالإسكندرية طائفة عرفوا بالصوفية، كانوا يدعون إلى المعروف وينهون عن المنكر، وهذه الحركة قد عرفت بثورة الجروى والسري بن الحكم (<!--).

ثانيًا: المدرسة الصوفية المصرية في القرنين الثالث والرابع الهجريين:

وفي القرن الثالث الهجري ظهرت بمصر مدرسة صوفية متميزة ، تنتسب إلى أبي الفيض ثوبان بن إبراهيم، المعروف بذي النون المصري (ت245هـ/ 859م)، ويعد ذو النون بحق أول من وضع أسس التصوف في مصر والعالم الإسلامي، فقد كان أول من تكلم في ترتيب الأحوال ومقامات أهل الولاية([4]) .

وقد اشتهر من رجال هذه المدرسة الصوفية التي أرسى دعائمها ذو النون عدد كبير من صوفية القرنين الثالث والرابع، من أبرزهم: أبو بكر الزقاق الكبير(ت290هـ/902م ) وكان من أقران الجنيد(ت297هـ/909م) وأكابر مشايخ مصر(<!--)، وأبو الحسن بنان الحمال(ت316هـ/927م)، وكان معدودًا من كبار مشايخ مصر، وينتمي إلى أبي سعيد الخراز(ت286هـ/898م) (<!--)، وأبو على الروزباري ( ت322هـ/933م )، وهو بغدادي أقام بمصر، وصار شيخ الصوفية ورئيسهم بها، صحب الجنيد والنوري وغيرهما، وكان من أعلم المشايخ بالطريقة(<!--)، وأبوالحسن على بن الدينوري الصائغ الزاهد (ت331هـ/942م ) وكان من كبار مشايخ الصوفية بمصر(<!--) ، وشيخ الشيوخ محمد بن خفيف أبو عبد الله الشيرازي الزاهد (ت371هـ/981م )(<!--) وغيرهم كثير.

ثالثًا: الحركة الصوفية في ظل الدولة الفاطمية ( 358-567هـ/ 969-1171م ):

كانت الدولة الفاطمية دولة مذهبية، تحمل البلاد التي تفتحها على التشيع، فلا عجب أن طبعت مصر بالطابع الشيعي طوال حكم الفاطميين؛ إذ نشط دعاتهم في أنحاء البلاد، يعقدون مجالس الحكمة التأويلية، ويتكلفون الوسائل والأسباب لدعوة المصريين إلى التشيع، فاستجاب لهم قسم من المصريين، وظل القسم الأكبر على عقيدته ومذهبه السني.

ولهذا ذهب بعض الباحثين إلى أن هناك تقاربًا بين التصوف وتعاليم الإسماعيلية، حيث كان دعاة الدولة الفاطمية يتوسلون بالتصوف لنشر الفكر الشيعي الإسماعيلي بين جموع المصريين، وينبثون في مختلف أنحاء مصر، ويظهرون الزهد والورع والتقوى على طريقة الصوفية لجذب العامة إلى الشيعة، كما يرى هؤلاء أن بعض الصوفية كانوا من دعاة الفاطميين(<!--).

وعلى الرغم مما سبق فإن الحركة الصوفية في ظل الفاطميين لم تنزع في مجموعها هذا المنزع الشيعي، حيث شهدت مصر في مقابل التصوف الشيعي نشاطًا ملحوظًا في جانب التصوف السني، حمل لواءه عدد من الأعلام، الذين خدموا التصوف خدمة جليلة، ونهضوا بالتراث المصري الروحي، ومن هؤلاء:

ابن الترجمان محمد بن الحسين بن علي ( ت448هـ/1056م ) شيخ الصوفية بديار مصر، وأبو بكر الطرطوشي ( ت520هـ/1126م )، وأبو القاسم الصامت ( ت437هـ/1045م )(<!--) .

ولقد حمل التصوف المصري الطابع السني، ونحى المنحى العملي، على يد الإمام الغزالي في كتابه "إحياء علوم الدين"؛ فقد عرف في مصر، وشاعت أفكاره بين متصوفيها، ولقد ذهب د/ أبو الوفا التفتازاني إزاء حديثه عن كتاب ابن عطاء الله السكندري(ت709هـ/1309م) المعروف بـ(الحكم العطائية) أنه عندما عرض كتابه على شيخه المرسي، قال له: " يا بني، لقد أتيت في هذه الكراسة بمقاصد الإحياء وزيادة "(<!--)، ويقصد إحياء علوم الدين للغزالي.

<!--

<!--[if !supportFootnotes]-->

<!--[endif]-->

(1)  د/ توفيق الطويل: التصوف في مصر إبان العصر العثماني، ص 36 ، 1988م، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.

(2) جلال الدين السيوطي: حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم،
1: 255، 256، 260، 1418هـ / 1998م، دار الفكر العربي القاهرة، و د/ محمد كامل حسين: الحياة الفكرية والأدبية بمصر من الفتح العربي حتى أواخر الدولة الفاطمية، ص 72، 73، الكتاب (244) من الألف كتاب، 1959م، مطبعة مصر.

(3) د/ محمد كامل حسين: الحياة الفكرية والأدبية بمصر، ص 73، و د/ كامل مصطفي الشيبي: الصلة بين التصوف والتشيع، 1: 360، 1382هـ / 1963م، مطبعة الزهراء، بغداد.

(4) نيكلسون: الصوفية في الإسلام، ص 24، و د/ محمد مصطفي حلمي: الحياة الروحية في الإسلام، ص104، ابن الجوزي: تلبيس إبليس، ص 162.

(5)  القشيري: الرسالة القشيرية، ص 417، و الشعراني: الطبقات الكبرى، 1: 197.

(6)  الرسالة القشيرية: ص 404، و الطبقات الكبرى للشعراني ، 1: 216.

(7)  القشيري: الرسالة القشيرية، ص 416، و الشعراني: الطبقات الكبرى، 1: 207.

(8) ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب، 2: 330، دون تاريخ، بيروت، دار الكتب العلمية، والسيوطي: حسن المحاضرة، 1: 422، والقشيري، الرسالة القشيرية، ص 421.

(9)  القشيري: الرسالة القشيرية، ص 420، ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب، 3: 76.

(10)  د/ سعيد عبد الفتاح عاشور: المجتمع المصري في عصر سلاطين المماليك، ص 163، ط1، 1963م، دار النهضة العربية، القاهرة، و د/ كامل مصطفي الشيبي: الصلة بين التصوف والتشيع، 1: 67، 80، 120، 125، 222، 290 وغيرها.

(11)  السيوطي: حسن المحاضرة ، 1: 423، 376-377.

(12) د/ أبو الوفا التفتازاني: ابن عطاء الله السكندري وتصوفه، ص 65، ط2، 1969م، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة. 

 

المصدر: مصطفى فهمي : رسالة دكتوراه -كلية دار العلوم-جامعة القاهرة
Dr-mostafafahmy

د/ مصطفى فهمي ...[ 01023455752] [email protected]

  • Currently 33/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
12 تصويتات / 756 مشاهدة

ساحة النقاش

مصطفى فهمي

Dr-mostafafahmy
فلسفة الموقع مهتمة بتحديد طريقة الحياة المثالية وليست محاولة لفهم الحياة فقط. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

499,867