ما حدث في لقاء رئيس الجمهورية مع ممثلي الأحزاب والقوي السياسية حول قضية سد النهضة الأثيوبي ما زال يطرح تساؤلات مزعجة, أفاض كتاب ومحللون في التعليق علي هذا اللقاء الذي تم بثه مباشرة علي الهواء بغير علم من شاركوا فيه.
مبعث الدهشة بل الصدمة أن بعض المداخلات التي تمت تضمنت تحليلات ومقترحات علي درجة بالغة من الحساسية ما كان ينبغي مطلقا أن تذاع مباشرة علي الهواء. ناهيك عن عدم علم أصحابها بإذاعة اللقاء, وهذا خطأ آخر يضاف الي الخطأ الأول. الموضوع علاوة علي أنه أصابنا بالصدمة والكدر يكشف عن دلالات مقلقة من المفيد استخلاصها سواء من جانب السلطة أو المعارضة.
الدلالة الأولي: إن هذا اللقاء في مجمله يكشف عن أزمة ثقة بين السلطة والمعارضة يبدو أنها بلغت طريقا مسدودا. فالبعض يعتقد أن السلطة تصطنع أزمة السد الاثيوبي لكي تجهض مبادرة تمرد والدعوة لمظاهرات30 يونيو. وهو شك يستعصي علي التصديق. ومن ناحية أخري فإن رفض الكثير من رموز المعارضة حضور اللقاء هو أمر يستعصي علي الفهم. المؤكد في أزمة الثقة المتفاقمة بين الطرفين أن ضحيتها هذه المرة هو مصر نفسها. الضحية هي الوطن بقضاياه المصيرية ومصالحه العليا التي كان يجب أن تعلو في هذه اللحظة علي الأخص علي أي خلافات أو حسابات. انظروا أيها السادة لإسرائيل وتعلموا من ساستها وقادة أحزابها حينما يتعلق الأمر بالمصلحة العليا للدولة الصهيونية. سرعان ما تطوي خلافاتهم السياسية وتتراجع حساباتهم الحزبية من أجل المصلحة العليا لإسرائيل. أما في حالة قضية السد الاثيوبي فقد سعي كل طرف لأن يسجل نقطة علي خصمه السياسي ليتلذذ برؤيته محاصرا مأزوما. وإذا كانت مؤسسة الرئاسة قد ارتكبت خطأ فادحا في إدارتها لتنظيم اللقاء علي هذا النحو المروع فإن الذين تخلفوا عن حضور اللقاء قد ارتكبوا بدورهم خطأ مقابلا. فمن المؤكد أن التأثير السلبي لهذا التشرذم الوطني سوف يضعف من الموقف التفاوضي المصري مع أثيوبيا. فالناس هناك يعرفون منذ الآن أننا لسنا علي قلب رجل واحد.. هل تستحق مصر هذا؟
الدلالة الثانية: إنه بهذا الفشل السياسي والإعلامي في إدارة اللقاء نعتقد أنه آن الأوان لكي تراجع مؤسسة الرئاسة دولاب العمل فيها.
فمنذ أول عملية تصوير لأداء القسم لوزراء أول حكومة ونحن نشعر شيئا من الأداء الارتجالي في البيت الرئاسي. علي مؤسسة الرئاسة أن تعيد أيضا تقييم فريقها وكوادرها ليس فقط في الديوان الرئاسي بل في كل مواقع العمل الأخري في السياسة والادارة والثقافة والتعليم. لا أريد الوقوع في فخ التعميم لأن نقص الكفاءة لا يطول الجميع بالضرورة. ولا ننسي أننا كنا نشكو من الأمر نفسه في ظل النظام السابق. لكن الحاصل اليوم أن فريق السلطة وكوادرها أصبح معظمه عبئا علي موقع الرئاسة, بل أصبح عبئا علي مرحلة التحول الديمقراطي ذاتها, بل قل علي مصر كلها..
الدلالة الثالثة: إن الموضوع قد أثار شهية النقد السياسي وشهوة التجريح الشخصي, فوجد فيه البعض فرصة لمواصلة أدب السخرية السياسية ضد رئيس الجمهورية, وهو نوع من الأدب الصحفي يعيش اليوم أزهي عصوره في تاريخ مصر قاطبة. ولو أن هناك مسابقة دولية لهذا النوع من أدب المقال الصحفي لحصد فيها بعض كتابنا المراكز الاولي. هنا يستحق الأمر مراجعة. فالحاصل أننا نطالع منذ فترة إمعانا في السخرية السياسية المقزعة والجارحة. وهذه ظاهرة تتجاوز ما عرف عن المصريين من أخلاقيات وعدم زج الموضوعي بالشخصي.
ومن المؤكد أن مقارنة أدب الاختلاف السياسي في زمن العقاد او طه حسين أو لطفي السيد بما نقرؤه ونشاهده اليوم هي مقارنة تغني عن أي تعليق. هي المقارنة نفسها بين رقي أم كلثوم وعبد الوهاب وتدني سعد الصغير وشعبان عبد الرحيم. هي المقارنة نفسها بين قاموس الراحل العظيم أحمد بهاء الدين في ذروة اختلافه مع السادات وبين قاموس الحواة الذين صنع منهم المال الغامض الحرام نجوما بفعل قانون الإلحاح. بعضهم لا تتابعه لفكره أو لتحليله أو لمعلوماته لكن لكي تضحك علي( النمرة) التي يقدمها رغم الهموم الجاثمة علي الصدور.
لا أحد ينكر فداحة الخطأ الذي كشفت عنه إذاعة لقاء رئيس الجمهورية بممثلي الأحزاب وهذا خطأ يبرر استهجانه بنقد موضوعي ولو كان قاسيا وساخرا ولاذعا لكن ليس بهذه الدرجة من التجريح الشخصي والامتهان الإنساني الذي ينتهك الحق في احترام الكرامة الإنسانية من أولئك الذين أوجعوا الرءوس بالحديث عن حقوق الإنسان.