تحتاج الحركة الإسلامية أن تزاوج بين النص الشرعي والواقع العملي تزاوجا ً صحيحا ً لا يخل بأحدهما .. فلا تترك النص الشرعي تحت ضغط الواقع .. ولا تهمل الواقع تحت دعوى أن أعمال النص هو أصل كل شيء .
فالنص الشرعي لا يعمل في فراغ .. كما أن نصوص القرآن والسنة في المعاملات والأحكام لها علة وحكمة .. وهي تدور مع هذه العلة وجودا ً وعدماً .. فإذا وجدت العلة وجد الحكم الشرعي .. وإذا عدمت العلة أو غابت غاب معها الحكم الشرعي .
صحيح أن العبادات لا تخضع لهذه القاعدة .. ولكن المعاملات كلها تخضع لها .. ووجود العلة في واقع الحياة وإدراكها والاهتمام بها يفيد نصوص الشريعة ويكتب لها الخلود .
فلولا العلة والقياس عليها ما حرمت المخدرات .. لأنه لا يوجد لها حكم مستقل في القرآن أو الأحاديث الشريفة .. ولكن اتحاد المخدرات والخمر في علة التحريم جعل الحكم مشتركا ً بينهما .
وآفة بعض الحركات الإسلامية اليوم أنها تنظر إلي ظاهر النصوص وتتمسك بحرفيتها دون أن تكلف نفسها أن تتعمق في مغزاها ومعناها .. وتدرك مقصودها الذي رمت إليه الشريعة الغراء .
فهل يجوز اليوم مثلا ً ألا يصطحب المسلمون المصاحف والكتب الدينية إذا ذهبنا إلي أمريكا أو بريطانيا أو الصين أو فرنسا أو اليابان بحجة ما رواه الشيخان عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه نهى "أن يسافر بالمصحف إلي أرض الكفار" .
وهذا هو الظاهر المتبادر من أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا لم ننظر إلي علته .
وهل هذه العلة موجودة الآن في عالم اليوم.. أم أنها تغيرت عن ذي قبل ؟
فالعلة من هذا النهي النبوي الشريف هو الخوف من الاستهانة بالمصحف أو أن يناله أحد منهم بسوء .. وهذا كان يحدث للمصحف الشريف في بعض بلاد غير المسلمين في الأزمان الماضية.
فإذا انتفت العلة انتفى الحكم .. وهذا ما حدث في هذه الأيام .. إذ يصطحب المسلمون المصاحف إلي كل الدنيا ومعها كل الكتب الدينية الأخرى .. ويفعل ذلك أصحاب الديانات الأخرى إذا جاءوا إلي بلاد المسلمين .. فالحكم يدور من علته وجودا ً وعدما ً .
وهذا رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) يوصي في حروبه للفارس بثلاثة أسهم والراجل " المشاة " بسهم من الغنيمة في الحروب .. وهذا الحكم كان مناسبا ً لتشكيل وتكوين الجيوش أيام الرسول ( صلى الله عليه وسلم) والصحابة .. حيث كان الفارس يأتي بالفرس وسلاحه وعدته من ماله الخاص .
أما الآن فالجندي يذهب إلي الجيش دون أن يستخدم حتى ملابسه العادية .. فالسلاح والذخيرة والمعدات والملابس والطعام من ميزانية الجيش .
والفارس وفرسه قديما ً كان يساوي الدبابة والمدرعة الآن .. وسورة "العاديات" تعبر عن سلاح الفرسان قديما ً والمدرعات حديثا ً .. لأن بينهما نفس الخصائص تقريبا ً .
ولهذا فإن هذا الحكم قد انتفت علته في واقع الجيوش الحديثة .
وهذا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ينهي في الصحيح أن "تسافر المرأة بغير محرم " .
وفي رواية "ألا تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم".
وعلة النهي في الأمر النبوي الشريف واضحة وذكرها العلماء كثيرا ً وهي الخوف عليها من أخطار الطريق في الصحاري الشاسعة إذا لم يكن معها رجل من محارمها يحميها ويحول بين أن تلوك الألسنة سمعتها بالقيل والقال.
فالعلة هو عدم الأمن .. فإذا توفر في السفر الأمن وعدم الخوف كما حدث الآن بعد أن تطورت وسائل وطرق السفر .. وأصبحت الطائرات تنقل الإنسان من دولة إلي أخرى في عدة ساعات وتحوي المئات من الركاب ويودعها المحرم في مطار ويستقبلها الآخر في مطار آخر .
ولذلك أجاز الفقهاء المحدثون سفر المرأة الآن للحج أو العمرة أو غيرها من الأغراض المباحة مثل العمل أو طلب العلم إذا كانت في رفقة آمنه من النساء .. فساروا مع علة الحكم وداروا معها ولم يدوروا مع ظاهر النص ..لأن الحكم يدور مع علته وجودا ً وعدما ً.
إن التزاوج بين النص وعلته في المعاملات والعادات والجمع الصحيح بين النص " الواجب الشرعي " وبين "الواقع العملي" هو سر خلود الشريعة وبقائها وحيويتها وقبول الناس لها وللدعاة الذين يحسنون هذا الجمع.
فهل ندرك ذلك ؟!.. أم سنظل نتعامل دوما ً مع ظاهر النصوص دون التعمق في علتها وأسبابها ؟!
ومتى نستطيع حقا ً الجمع الصحيح بين الواجب الشرعي والواقع العملي جمعا ً لا يخل بأحدهما؟!