نعيش أيامنا يوماً بعد يوم، وسنة تلو أخرى، لنفاجأ أننا انتقلنا من طور لآخر، ومن مرحلة عمرية لمرحلة عمرية أخرى، فمن طفولة لمراهقة يليها رشد ومن ثم كهولة فشيخوخة. يداهمنا إحساس قوى بأن اليوم هو شبيه الأمس، وأن الغد سيكون نسخة كربونية من اليوم، وأننا تحولنا لآلات تتحرك بطريقة ميكانيكية ولا سبيل لإيقاف تلك الحركة، والفعل الثورى أو حتى الاحتجاجى أمر غير وارد، وهل للآلات من سبيل إليه؟!، والموضوع غائب وبغيابه يُِفسح المجال للعبثية لتستوطن حياتنا وتمتص حيويتنا حتى آخر قطرة، فنصير أجساداً بلا أرواح، وأحلاماً لليقظة دون أمل فى أن تصير حقيقة، فكيف السبيل للخلاص؟، والسؤال هنا لا تتخفى وراءه إجابة تحمل حلاً سحرياً تتبدل بها الأحوال من حال إلى حال، بل هى إجابة بسيطة تملكها أنت وحدك، تنفعك ولا تنفع غيرك، وبقدر بساطتها بقدر تمنعها، فهى غير متاحة إلا للأرواح التواقة للخلاص.
وسبيلك للخلاص كامن فى ذلك الجزء المظلم من ذاتك، فى اللاشعور، منسى أو مكبوت هناك، إنه الموضوع. ولكل منا موضوع خاص به، فمنا من يتمثل موضوعه فى حلم قديم، قد ألهته عجلة الحياة الدائرة بسرعة مخيفة عن تحقيقه، ومنا من كان موضوعه قيمة عليا يتمثلها، حرية مثلاً يتحرر بها من قيود أثقلته فأقعدته، وحالت بينه وبين إبداع ينشد تحقيقه أو هيئة يريد لها أن تصبح هيئته، ومنا من نشد الجمال فواجه القبح يحيط به من كل مكان فارتد مهزوماً مدحوراً، ومنا من طلب العلا فلاقى من الصعاب فى الصعود ما أرهبه وأثناه عن مطلبه فنزل عنه لتسيره الحياة بعد ذلك كيفما شاءت، ومنا من يعش حياته دون أن تكشف له نفسه عن أى موضوع فيمضى به العمر, وهو واقع أسير لـ "اللامعنى"، والمشترك بين كل هؤلاء هو الاستسلام لما قدرته الحياة لهم لا لما قدروه هم.
فلتكن ثورة إذن يعلى فيها كل منا موضوعه، مستخرجين إياه من بواطن نفوسنا، مستضيئين به فى مسيرتنا الطويلة. نعم قد نصادف فى سبيل ذلك الآلام والوحشة، ولكنها ألآم بطعم اللذة ووحشة تغنى عن أى أنس.
إنها دعوة للحياة، قد صاغها الشاعر الشاب العبقرى أبو القاسم الشابى أبدع صياغة فى أبيات من الشعر، إذ قال: "إذا ما طمحت إلى غاية ركبت المنى ونسيت الحذر ولم أتجنب وعور الشعاب ولا هبة اللهب المستعر".
محمد السيد الطناوي
ساحة النقاش