<!--<!--<!--[if gte mso 10]> <mce:style><! /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-priority:99; mso-style-qformat:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0in 5.4pt 0in 5.4pt; mso-para-margin:0in; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:11.0pt; font-family:"Calibri","sans-serif"; mso-ascii-font-family:Calibri; mso-ascii-theme-font:minor-latin; mso-fareast-font-family:"Times New Roman"; mso-fareast-theme-font:minor-fareast; mso-hansi-font-family:Calibri; mso-hansi-theme-font:minor-latin; mso-bidi-font-family:Arial; mso-bidi-theme-font:minor-bidi;} -->
<!--[endif]-->
<!--<!--<!--
يروج كثير من المحللين والمتصدرين للعمل السياسي في بلادنا لما يعرف ب"التغيير التدريجي" للأوضاع السياسية والإقتصادية البالغة السوء التي تغرق فيها البلاد،وذلك في مقابل التغيير الجذري الراديكالي الذي يستبعدون حدوثه تماما .
وإذا ما وضعنا ذاك الطرح موضع دراسة نجد أنه لا يستند أو يقوم علي أي أرضية صلبة، ولكي نصل إلي اتفاق حول مدي صحة هذا الإدعاء من عدمه، ينبغي بداية التسليم بمسلمة ـ لانظن أنه قد ينشأ حولها أي اختلاف ـ مفادها أن المجموعة التي تستولي علي السلطة منذ عقود طويلة لن تتخلي عن أي مساحة من سلطتها تلك أومن نفوذها إلا تحت ضغط شديد ومستمر ويقظ (وهو ما يُعول عليه لإحداث أي تغيير تدريجي ) ، وبديهيا لابد أن تكون الجهة أو الجهات التي تمارس الضغط تملك من القوة ما يؤهلها لذلك، فإذا ما ألقينا نظرة سريعة علي الساحة السياسية لما وجدنا بين لاعبيها من يمكن أن يقوم بهذا الدور ، فالنظام استطاع وبنجاح ـ للأسف الشديد ـ أن يستميل بعض من قوي المعارضة بفتات من الامتيازات، وبتحقيق بعض المصالح الشخصية لقيادات تلك القوي ، ومن ثم تدجنت، وصارت لا تشكل عليه ضغطا من أي نوع ، وهناك قوي أخري إما تم تغييبها عن طريق تجميدها ( كحزب العمل ) أو تم تفجيرها من الداخل ( كحالة حزب الغد والتي تعد نموذجا مثاليا لتلك الوسيلة ) ، وتأتي الفئة الثالثة وهي لا تندرج تحت أي من الفئتين السابقتين، إنها جماعة الإخوان المسلمين ، التي تعد أقوي تيارات المعارضة وأكثرها تنظيما ، غير أنه إلي جانب كون القيادة الحقيقية التي تنضوي الجماعة تحت لواءها من غير السياسيين ـ وذلك يحد كثيرا من فاعليتها ـ فإضافة إلي ذلك استطاع النظام أن يجعل الجماعة في موضع الدفاع علي الدوام، ، حتي وإن تمكنت في بعض الأوقات من الفوز بشئ من المكاسب أو النجاحات ، فسرعان ما تسلب تلك النجاحات، مستخدم النظام لتحقيق ذلك كافة مقدرات الدولة، والتي تخضع لكامل سيطرته.
ورغم موجات الغضب العارمة، التي باتت تسري في عروق المصريين، نتيجة لازدياد سوء الأوضاع بصفة عامة ( بخاصة الاقتصادية منها )، يظهر ذلك جليا في الإحصاءات التي تناولت تعداد الإضرابات والاعتصامات والاحتجاجات في السنوات الأخيرة الماضية ، بيد أنه لا يمكن أن نعتبر ذلك الغضب رصيدا لدي قوي المعارضة ، فبجانب أن ظروفها الراهنة لا تتيح لها استثمار تلك الحالة ، لكن إذا ما فرضنا جدلا أنها تستطيع التغلب علي حالة الضعف والتفكك التي تغرق فيها ـ رغم عدم وجود أي دلائل تشير إلي حدوث ذلك في القريب العاجل أو حتي البعيد ـ لكننا إذا ما فرضنا ذلك ، سنجد هذه القوي تظل عاجزة أيضا عن استغلال حالة الغضب المتأجج التي يعيشها المصريون وتزداد يوما بعد يوم، حيث أن طبيعة ذلك الانفعال تأبي أن يتم استثماره بصورة غير مباشرة ، فأنت لا تستطيع أن توجه الجموع الغاضبة لأن تشارك في الحياة السياسية عن طريق تلك الأحزاب والجماعات ، وتقنعها أن مشاركتها ستمد الأحزاب والجماعات بالقوة اللازمة للضغط علي النظام من أجل تحصيل بعض المكاسب السياسية أو غير ذلك ( بخاصة مع الحالة ـ ولا نقول الطبيعة ـ التي تسيطر علي الجماهير ـ نتيجة لأسباب عدة ليس هنا بمجال ذكرها ـ وتتمثل في عزوف تام عن المشاركة السياسية ) ، فكما قلنا ان طبيعة ذلك الانفعال غير قابلة للاستثمار بواسطة تلك الطريقة، هذه واحدة، أما النقطة الثانية في تفنيد مقولة "التغيير التدريجي" تتمثل في طرح لعاشق مصر ومفكرها العظيم جمال حمدان، والذي ذهب في تشخيصه للداء الرئيس الذي تعاني منه مصر في أنه هو نفسه الحل الذي يطرحه كثير من محللينا وخبراءنا السياسيين للخروج من المأزق الذي تحياه البلاد منذ أمد بعيد، ولقد جاء طرح حمدان ليس فقط نتيجة لقراءة الواقع ـ وهو ما توقفت عنده العقول القاصرة التي اعتمدت مقولة "التغيير التدريجي" كسبيل وحيد للخلاص ـ بل تضمن أيضا استدعاءا للتاريخ واستخراجا لدروسه وإملاءاته ، و كذلك استشرافا للمستقبل ومتطلباته ، فيذهب جمال حمدان إلي القول بأن مأساة مصر الحقيقية تتمثل في أنها "لا تأخذ في وجه هذه الأزمات الحل الراديكالي قط وإنما الحل الوسط المعتدل ، أي المهدئات والمسكنات المؤقتة ، والنتيجة أن الأزمة تتفاقم وتتراكم أكثر . ولكن مرة أخري تهرب مصر من الحل الجذري إلي حل وسط جديد ، وهكذا" ، وهو ما يؤدي في رأيه إلي أنه حتما "سنصل يوما ما إلي نقطة الانكسار بعد الإلتواء ، وبدل المرونة سيحدث التصادم ، ومحل المهدئات ستحل الجراحة ، أي سنصل إلي نقطة اللاعودة إلي الحل الوسط ، وعندئذ سيفرض الحل الجذري الراديكالي نفسه فرضا، ولكن بعد أن يكون المستوي العام قد تدني إلي الحضيض ، والكيف قد تدهور إلي مجرد كم والمجد إلي محض تاريخ ، وذلك هو الثمن الفادح للاعتدال".
إذن فما يطرحه هؤلاء كدواء لحالة البلاد ما هو ـ في حقيقة الأمر ـ إلا دائها التاريخي ـ إن صح التعبير ـ الذي هو "مقتلها البطئ المزمن علي مر الزمن" (بتعبير حمدان) ، ويذهب مفكرنا العظيم إلي أن المخرج من تلك الحالة يتمثل في الحل الجذري الراديكالي ، الذي لا يكون إلا عن طريق "دفن آخر بقايا الفرعونية السياسية والطغيان الفرعوني"، وذلك حتما لن يكون إلا بإزاحة النظام الحالي عن السلطة .
وواهم من يعتقد أن الحركات والأحزاب التي تتكون منها المعارضة المتواجدة علي الساحة السياسية في الوقت الراهن قادرة علي القيام بتلك المهمة، فما هي إلا كيانات كسيحة منتفخة الأنا الأيدلوجية، قد أتقنت دور المغلوب علي أمره، في مواجهة النظام ، ولم تعد قادرة علي القيام بأي دور آخر، وبرهنت بشكل جلي وواضح خلال عقود مضت علي عجزها التام عن التنسيق فيما بينها للقيام بأي عمل مشترك، وتحركاتها تتسم بالعشوائية، وبالطبع لا تمتلك أي برنامج لتحقيق أهدافها المعلنة ، وهذا هو حالها لا يخفي علي أحد .
وهنا يطرح السؤال نفسه، ما هو المخرج إذن مما نحن فيه؟ ، إن الأمل مازال قائما أن تفرز الحالة المتردية والمزرية ـ سياسيا واقتصاديا، داخليا وخارجيا ـ التي تقع في براثنها البلاد ، حركة تتبني التغيير الشامل الجذري ( وكثيرا ما يتمخض عن الكوارث والنكبات القومية ـ كتلك التي تدك بلدنا دكا يوما بعد يوم ـ المبدعين الأكفاء الذين لا يألون جهدا في سبيل انتشال بلادهم من براثن تلك الكوارث والنكبات ليضعوها علي أول الطريق الصحيح )، وهذه الحركة لن تخرج بالتأكيد من رحم الوسط العفن الذي تتكون منه المعارضة، وإنما الأمل معقود علي شباب مصر، أن ينفضوا عنهم تخاذلهم وخنوعهم، وأن يوقنوا أن الطغمة المستبدة الفاسدة التي تستولي علي السلطة تكاد لا تترك لهم حيز من هواء نقي يستنشقونه، وأن لا مستقبل لهم ولا لبلدهم في ظل ذلك النظام الذي يغتصب السلطة والثروة معا، وأن تقوم تلك الحركة ـ والتي سيكون تكوينها وقياداتها من الشباب، ( وهو ما سيمنحها ميزة هامة تتمثل في أنها ستكون غير مرئية للأجهزة الأمنية، وذلك علي الأقل في مرحلة التكوين ) ـ بوضع برنامج لتحقيق هدفها في التغيير الشامل، منحية جانبا الأيدلوجيات والحزبية القميئة .
وتستطيع تلك الحركة إذا ما بلغت درجة معقولة من القوة والقدرة ، أن توجه غضب الجماهير بشكل مباشر ـ في لحظة من لحظاته الفائرة ـ تجاه النظام القائم، علي شكل عصيان مدني أو أي شكل آخر تراه الحركة مناسبا لتحقيق هدفها.
ونهاية نقول أنه إذا رأي البعض أن هذه الحركة ستبدأ من الصفر، فإن المتبنيين للطرح الآخر "التغيير التدريجي" ـ من داخل تيارات المعارضة القائمة ـ إن خلصت نواياهم سيبدأون مما هو تحت الصفر، فبجانب أن الأحزاب التي تتكون منها المعارضة ليس لديها أي رصيد جماهيري ينظر له بعين الاعتبار فالحركة الشابة لن يعاني مشروعها من كل الأمراض والآفات المستوطنة في وسط تلك الأحزاب والتي تحتاج لمعالجتها أولا قبل القيام بأي تحرك من أي نوع .
إن التسليم بعدم إمكانية قيام مثل تلك الحركة، معناه أننا نقرر ونقر بموات الشعب،ومن ثم ينعدم الأمل في حدوث أي تغيير حقيقي من أي نوع، ونظل ندور في فلك تغييرات ـ أو بالأحري تحسينات ـ شكلية هدفها ينحصر في تجميل وجه النظام القبيح المتقيح .
محمد السيد الطناوي
ساحة النقاش