المــوقـــع الــرســمى الـخــــاص بــ "د/ تــامر المـــــلاح"

"تكنولوجيا التعليم " الحاسب الألى " الانترنت " علوم المكتبات " العلوم التربوية " الدراسات العليا "

تجربة كندية أثبتت نجاحها.. المعلم طفل رضيع
    

من المؤكد أن القارئ سيعتقد أن الأمر لا يعدو أن يكون طرفة أو مزحة، لكنه حين يعلم أن الأمر يتعلق بمادة دراسية جديدة، أقرتها مدارس كثيرة في كندا، ونيوزيلندا، وأستراليا، والولايات المتحدة، وإيرلندا، واسكوتلندا، بل إنها فاقت حدود الدول المتحدثة بالإنجليزية، ودخلت بالفعل حيز التطبيق في دول منها ألمانيا، فلابد أن يعيد التفكير، خاصة إذا علم أن نتائج الدراسات العلمية تؤكد استفادة أكثر من نصف مليون تلميذ من مادة (Roots of Empythy)، التي يمكن الإشارة إليها باسم (الذكاء الوجداني).

نشأة المادة
بدأت المعلمة الكندية ماري جوردن عملها في تسعينيات القرن الماضي، وكانت مدرستها في حي تسكنه الطبقات الكادحة، حيث يعاني الأطفال من العنف والإهمال والاعتداءات بكافة أنواعها، الأمر الذي يترك آثاره على سلوكهم، فيتصرفون بعدوانية مع بعضهم البعض، ولا يأبهون بآلام من حولهم، وفكرت في مستقبل هذه الأجيال، التي ستتوارث عدم الاكتراث بمشاعر الآخرين، فتنشأ مجتمعات تتفشى فيها الكراهية ولا تعرف الرحمة، لذلك قررت أن تقوم بتجربة مبتكرة لمواجهة ذلك.
كان الطالب (دارين) في الصف الثاني المتوسط، الذي تكرر رسوبه، ولذلك فهو أكبر من زملائه بعامين، وكان معروفًا بأنه مشاغب وعدواني، علمًا أن طفولته كانت مريرة، فقد كان في الرابعة من عمره، حين تعرضت أمه للقتل أمام عينيه، وانتقلت حضانته لأسرة تلو الأخرى، لصعوبة تربيته.
دخل دارين الصف مع زملائه، ليكتشفوا عدم وجود مقاعد أو طاولات، ووجدوا في وسط الغرفة سجادة خضراء، قالت لهم المعلمة جوردن إنه لا يجوز لهم أن يتخطوا طرف السجادة، لأنها مخصصة لضيف سيأتي لزيارتهم، في هذه اللحظات دخلت سيدة إلى الصف وهي تحمل طفلاً رضيعًا، لا يزيد عمره عن ستة أشهر، علت الابتسامة وجوه جميع الأطفال، وضحك بعضهم، وصرخ آخرون من فرط السعادة والدهشة. وضعت الأم طفلها على السجادة، وقالت لهم إن اسمه (إيفان).
راقب الطلاب (إيفان) وهو ينظر إليهم بعيون واسعة، وبدأت المعلمة تطرح أسئلة على الطلاب: «هل تعتقدون أنه سعيد؟ يا ترى في أي شيء يفكر؟ هل يشعر بالخوف؟ متى شعر أحدكم آخر مرة بالخوف؟»، فجأة بدأ الرضيع في البكاء، وظهر التأثر على وجوه الطلاب، ورفعته أمه عن الأرض، وأخذت تداعبه، وعادت المعلمة لتسأل طلابها: «ما السبب في بكاء الطفل؟ هل هو الخوف أم الجوع أم غير ذلك؟».

في كل مرة كان الطلاب يجيبون عن أسئلة المعلمة، كانت تلمس أنهم لا يتحدثون عن الطفل وحده، بل يتحدثون أيضًا عن أنفسهم، عن مشاعرهم، وعن مخاوفهم، عن أمنياتهم وعن آلامهم، وجدت أن الطلاب استطاعوا أن يتقمصوا مشاعر الطفل، ليتفهموا ما يجول بخاطره، ورأت أنهم جميعًا كانوا يحسنون الإصغاء لبعضهم البعض، حين يتكلم أحدهم، وأن الهدوء مهيمن على الصف طوال الوقت.
حينما انتهت الحصة وحان موعد الذهاب إلى الفناء المدرسي للعب، جاء الطالب دارين، وسأل الأم هل تسمح له بأن يحمل رضيعها، فوافقت بشرط أن يكون حذرًا في ذلك، وقبل أن تنتهي الاستراحة ويعيده لها، سأل دارين المعلمة: «هل يقدر الإنسان أن يعطي لأطفاله من الحب، ما كان محرومًا منه في طفولته؟ وهل يصلح شخص مثله أن يكون أبًا طيبًا، رغم أنه لم يعرف عطف الأبوة ولا حب الأمومة؟».
بعد الكشف عن هذه التجربة، أصبحت ماري جوردان أكثر الناس تأثيرًا في النظام التعليمي الكندي، ولكن هذا التأثير ليس له علاقة بالمناهج الدراسية مثل الكتابة والقراءة، بل يعتمد تأثير تجربتها على تدريب الطلاب على الشعور بالآخرين، وبعد أن كانت فكرتها عبارة عن تجربة غريبة، أصبحت اليوم مادة رسمية في المدارس الحكومية الكندية.



تأثير الرضيع
توضح السيدة ماري جوردان أن الطريف في هذه المادة أن المعلم عبارة عن طفل رضيع، وهذا المعلم يختلف عن غيره، لأنه لا يملك سلطة، فلا يعطي درجات، ولا يصرخ في الطلاب، ولا يمارس أي ضغوط عليهم، ولذلك فإن قلوب الطلاب تنفتح له فورًا، ويؤدي مجرد وجوده في الصف إلى حدوث تغيرات كبيرة في سلوك الطلاب.
تأتي الأم مرات قليلة في الشهر، وبالتحديد بمعدل 27 حصة في السنة الدراسية، ويسبق حضورها تحضير لهذه الزيارة، وبعد أن ترحل، يناقش المعلم مع طلابه ما حدث أثناء الزيارة، وفي كل مرة يلاحظ الطلاب نمو الطفل، وبعد أن كان في المرة الأولى غير قادر على أن يتحول من ظهره إلى بطنه ليزحف على السجادة، ويبكي لعجزه عن القيام بما يريد، يأتي في المرة القادمة، وقد أصبح ذلك أمرًا بديهيًا سهلاً، يقوم به مرة وراء مرة، فيتعلم الطلاب أن ما لا نقدر على تحقيقه اليوم، يمكن أن يتحقق غدًا، المهم ألا نفقد الأمل وأن نستمر في المحاولة.
أثناء المناقشة سيجد المعلم أن طلابه، يبحثون عن أمثلة من حياتهم، ويصبح الانتقال من الحديث عن الآخر، للحديث عن النفس، أمرًا طبيعيًا، وبذلك لا يشعر الطالب بأن الآخرين عوامل معزولة عنه، وأنه غير محتاج للتفكير فيهم، بل تصبح معاناتهم معاناة شخصية له، فإذا وجد زميله واقعًا على الأرض، ويتألم بسبب جرح في ركبته، فإنه لن يواصل لعبه، ولن يسخر منه، بل سيقوم فورًا بتقديم المساعدة، وسيشعر بنفس ألمه.
تتحدث المعلمة الكندية ماري جوردان عما تسميه (تعلم أبجدية المشاعر)، حيث يتعلم الطلاب «قراءة» ما يشعر به الطفل الرضيع، دون أن يكون قادرًا على البوح بأي شيء، وذلك من خلال تعمق الطلاب في ذواتهم، والاقتراب مما يدور في داخل قلوبهم، وعندها يصلون إلى نتيجة مفادها: (كل ما أشعر به، يشعر بها أيضًا الأطفال الآخرون من حولي)، وحين تتاح للطالب الفرصة في أن يحمل الطفل الرضيع، فإنه يكتسب ثقة كبيرة في النفس، لأنه يشعر أنه قادر على رعاية إنسان آخر، وتحمل المسؤولية عن سلامته، وبذلك يكتسب خبرات للمستقبل، عندما يصبح أبًا في يوم من الأيام، أو ما تطلق عليه جوردان (الدرس الأول في رخصة قيادة أسرة).


نتائج الأبحاث العلمية
كل من يسمع عن هذه التجربة تعجبه، ولكن هذا الإعجاب ليس مبررًا لتخصيص ساعات من اليوم المدرسي لهذا التجربة، لأن هناك بالتأكيد الكثير من المعارف والتجارب، مما يمكن أن يضاف إلى المنهاج المدرسي، لكن السؤال الهام هنا، هو عن الفوائد الفعلية لتلك التجربة، وعن نتيجة الأبحاث العلمية عن هذه المادة المستحدثة هنا أو هناك.
هناك عدد ضخم من الأبحاث التي أجريت على الطلاب، منذ انطلاق التجربة في التسعينيات، وكانت التجارب الأولى تعتمد على قياس معايير بعينها مثل مستوى العدوانية في الصف، والسلوك الاستفزازي بين الطلاب، قبل البدء في هذه التجربة، ثم إعادة قياس نفس المعايير بعد انتهاء العام الدراسي، الذي تكررت فيه هذه الحصص مع الطفل الرضيع، وكانت النتائج إيجابية للغاية، لكن بعض العلماء شكك في النتائج، لأنه ليس من الضروري، أن يعود الفضل في التحسن في السلوك، لهذه الدروس دون غيرها، في ظل وجود عوامل أخرى كثيرة يمكن أن تكون ذات تأثير أيضًا، مثل عامل السن، والذي ربما يجلب بعض النضج والتحسن، أو قدوم معلم جديد له تأثير إيجابي أو غير ذلك.
ولهذا السبب اعتمدت الدراسات التالية على إجراء التجربة بشكل أشمل، أي أن تشارك كل الصفوف من نفس المرحلة العمرية، وفي داخل نفس المدرسة، بحيث تكون القواسم المشتركة كثيرة، والفرق الوحيد أن بعض الصفوف يحصل على هذه المادة، وبعضها لا يحصل عليها، وبعد مرور العام، يتم قياس التأثير على كل الصفوف، الواقعة جميعًا تحت نفس المؤثرات، باستثناء عامل واحد، هو هذه التجربة، وقد اتضح أن كل الصفوف التي شاركت في التجربة سواء كانت في كندا أو أوروبا أو نيوزيلاندا، قد حققت نتائج إيجابية لا يمكن إنكارها.
وكانت أهم هذه النتائج أن طلاب هذه الصفوف التي مرت بهذه التجربة، أصبحوا أكثر ميلاً من غيرهم لتقديم المساعدة للآخرين، وأنهم صاروا أقدر على تقمص مشاعر الآخرين، وأن ظاهرة الاضطهاد التي يقوم به الطلاب غالبًا تجاه أضعفهم، لا وجود لها في هذه الصفوف، الأمر الذي دفع بعض المدارس إلى اتخاذ قرار إدخال هذه المادة، باعتبارها أحد الحلول الفعالة في وقف اضطهاد الطلاب بعضهم بعضًا.
أما الأمر المفاجئ أن العلماء كرروا أبحاثهم على الطلاب، بعد ثلاث سنوات من انتهاء التجربة، فوجدوا أن تأثيرها مازال مستمرًا، بل إن هذا التأثير كان أكبر من الفترة الأولى بعد انتهاء التجربة مباشرة، مما يدلل على أن هذا التغير في السلوك، لا يمّحي بسهولة، بل يشكل منعطفًا هامًا في حياة هؤلاء الطلاب.
اتضح أيضًا من التجارب أن الطلاب يكونون أكثر تركيزًا وأفضل سلوكًا في الحصص التالية، لحصة المعلم الرضيع، ولذلك كان المعلمون الآخرون يتسابقون إلى هذه الحصص، للاستفادة من الهدوء الذي يسود الصف، والمشاعر الرقيقة التي تتملك الطلاب والطالبات.
وتتوقع البروفيسورة سو كارتر، وهي أستاذة علم الأحياء العصبية بجامعة إلينوي في شيكاجو، أن يكون هذا التأثير الإيجابي لهذه الحصص، مرتبطًا بإفراز الجسم لهرمون أوكسيتوسين، الذي يعتقد بتأثيره في علاقة الأم بطفلها، وبأن ارتفاعه يزيد من القدرة على الثقة في الآخرين، ولذلك فإن هناك دراسة حديثة لقياس نسبة هذا الهرمون عند الطلاب بعد انتهاء هذه الحصة مع الطفل الرضيع، ولكن نتائج الدراسة لن تظهر قبل عامين.
كما يقوم عالم النفس الأمريكي أندرو ميلزوف من جامعة واشنطن الواقعة في مدينة سياتل، على قياس تأثير هذه التجربة على مخ الطلاب، علما أن معهده متخصص في دراسة طريقة عمل مخ الأطفال عن طريق تخطيط الدماغ المغناطيسي، ويتوقع أن تظهر النتائج خلال العام الحالي.

دروس لعالم أفضل؟
من يطالع المراجع الصادرة عن هذه المادة الجديدة، يجدها تتحدث عن أهداف كبيرة، مثل أن يؤدي ذلك البرنامج إلى تعايش سلمي بين أفراد المجتمع من خلال تنمية الذكاء الوجداني، أي القدرة على الوعي بمشاعر الآخرين، ومعرفتها وتقديرها، كما يهدف إلى تأهيل الأجيال القادمة لأن يكونوا آباء وأمهات جيدين، عطوفين على أطفالهم، وأن يكونوا أفرادًا مسؤولين في مجتمع تسود فيه الرحمة والاهتمام بالآخر.
أما على المستوى المدرسي فإن البرنامج يطمح أن يسهم في تحسين العلاقة بين الطلاب، وتخفيض مستوى العنف والعدوانية في المدارس، وتنمية السلوك الاجتماعي، ونشر المعرفة عن مراحل نمو الإنسان، وعن عملية التعلم منذ الصغر، وتربية الطلاب ليكونوا أعضاء مسؤولين في مجتمع المستقبل.
ربما تبدو الصورة مشرقة بصورة خيالية، وكأن طفلاً رضيعًا قادرًا على حل مشكلات العالم، وعلى تحقيق ما عجز عنه خبراء التعليم، وفلاسفة التربية، ولكن يبدو أن الكائن البشري، يحتاج إلى من يحرك فيه إنسانيته، وعندها يتغير سلوكه، ويتخلص من الشرور التي اكتسبها من العالم الخارجي، لأن الأصل فيه هو الخير، ولأن الطفل الرضيع هو رمز لهذا الخير في أنقى صوره، ربما كان هو الأقدر على القيام بهذا الدور.

المصدر: إعداد م/ تامر الملاح
tamer2011-com

م/تامر الملاح: أقوى نقطة ضعف لدينا هي يأسنا من إعادة المحاولة، الطريقة الوحيدة للنجاح هي المحاولة المرة تلو المرة .."إديسون"

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 300 مشاهدة

ساحة النقاش

م/ تامر الملاح

tamer2011-com
باحث فى مجال تكنولوجيا التعليم - والتطور التكنولوجى المعاصر »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

3,917,212

بالـعلــم تـحـلـــو الحـــيـاة

للتواصل مع إدارة الموقع عبر الطرق الأتية:

 

 عبر البريد الإلكتروني:

[email protected] (الأساسي)

[email protected]

 عبر الفيس بوك:  

إضغط هنا

(إني أحبكم في الله)


أصبر قليلاً فبعد العسر تيسير وكل أمر له وقت وتدبير.