تتعدد دراسات واستخدامات المنهج المقارن في دراسة وتحليل النظم التعليمية ومشكلاتها وسبل تطوير الأداء والتحسين في سياستها والتخطيط لها وتغير البنى التحتية فيها.وبطبيعته كمنهج مقارن يبدأ الباحث بنظام تعليم قومي ثم يختار وفق أسس منهجية النظام التعليمي الآخر,ويحدد أطره ومنطلقاته الفلسفية والنظرية والمعياريةالتي تؤدي باستخدام المنهج المقارن إلى أحكام وقوانين يمكنه من تحقيقه لهدف دراسته.
وقد أشرت في حلقات ماضية انه على الرغم من أن المنهج المقارن يشتق مداخله وتطبيقاته من مناهج العلوم الاجتماعية والتربوية إلا انه بنضوج هذا العلم ورسوخ رواده استطاع أن يكون له مداخله ومناهجه الخاصة من وجه الخصوص رغم ارتباطه بالمناهج الاجتماعية والتربوية من وجه العموم. وقد ارتبطت هذه المناهج ببعض علماء التربية المقارنة والباحثين فيها في فترات تاريخية لها ظروفها ولها أيضا القوى المؤثرة فيها.ويمكن في هذا العرض الإشارة إلى بعض هذه الدراسات والاستخدام للمنهج المقارن.
(1) طريقة إسحاق كاندل:
يذهب كاندل إلى أن المنهج المقارن يتميز بثلاثة أسس رئيسية:
1- الأساس الوصفي: وهو نقطة أساسية في منهج كاندل لان توافر المعلومات شرطا ضروريا لإصدار الأحكام وعقد المقارنات. وقد اتبع كل دراسي التربية المقارنة هذا الأساس الذي تميز به كاندل.
2- الأساس التاريخي الوظيفي:
فالحقائق وحدها ليست كافية وإنما يجب أن نبحث عن الأسباب المسئولة عن إيجادها لتفسير هذه الحقائق. ولذلك تصبح الجذور التاريخية مهمة لإلقاء الضوء عليها. ويجب أن يتحدد استخدام العرض التاريخي بان تكون وظيفته الشرح والتفسير.
3- الأساس النفعي العام: لان كاندل كان مهتما بدرجة كبيرة بتطوير التربية في جميع أنحاء العالم. ولذلك كان يستهدف منهجه خدمة التربية في أي بقعة من بقاع الأرض. وقد أدى ذلك إلى أن كاندل كان يتبنى مجموعة من القيم مثل اعتقاده بان النظم الديمقراطية للتربية أحسن من غيرها, وان المركزية سيئة, وان التربية يجب أن تستهدف النمو الكامل لشخصية الفرد ,والإيمان بالتقدم والمسؤولية الفردية.
وقد حدد كاندل مجموعة من العوامل هي القومية والأيديولوجية السياسية والتطور التاريخي كعوامل مؤثرة في النظم التعليمية. ورغم المنهج الذي تميز به كاندل إلا أن كازمياس وماسيلاس يعتقدان أن هناك انتقادات يمكن أن توجه إلى منهج كاندل. من أهمها أن كاندل أهمل كلية نتائج العلوم الاجتماعية بتعليقه أهمية كبرى على الدور الذي تلعبه الدول في التربية. ذلك لان تربية الأطفال هي ظاهرة أكثر تعقيدا من ذلك. والنقد الثاني الذي يوجه الى كاندل هو تعميماته عن الطابع القومي, مثل تعميمه بان الرجل الفرنسي هورجل الأفكار وربما كان هذا ليس صحيحا دائما.ولا يستند كاندل الى أدلة كافية لتدعيم تعميماته. ثم إن ربطه بين الطابع القومي وبعض الخصائص التربوية في بلد معين أمر موضع تساؤل كبير عن مدى صحته.
(2)- طريقة لوارايز:(Lauwerys)
إن رؤية وتناول لواريز لمجال التربية المقارنة وطرق البحث فيها تدور حول محاور رئيسية يمكن وضعها في صورة نقاط رئيسيةعلى النحو التالي:
أ- يرى لوارايز أن دارس التربية المقارنة يهتم بما يحدث أو بما حدث في ميدان التربية(في المجتمعات التي له معرفة أو اهتمام بها).
ب- يهدف الدارس الى تحليل وتفسير النظم التعليمية لكن ليس عمله الوصف البسيط لما حدث او يحدث من تغيير في النظام التعليمي او عملياته المتعددة وهذا التحليل والتفسير بغرض الكشف عن ماذا تكون او كانت أمور النظام التعليمي على ما هي عليه.
ج- يؤكد لاورايز على أن دارس التربية المقارنة لا يكتفي بمجرد جمع الحقائق عن النظم التعليمية وإنما ينبغي عليه أن يرتب هذه الحقائق في نظام له معنى.
د- في ضوء ذلك يعرف لوارايز التربية المقارنة بأنها دراسة الحقائق التعليمية بهدف فهم النظم والسياسات التعليمية بالوضع الذي هي عليه"
ه- يعطي لاورايز نماذج من مجالات البحث في التربية المقارنة يمكن وضعها على النحو التالي:
- كيف يستطيع النظام التعليمي أن يوجه اختيار أفراد معينين لأعمال محددة؟
- هل يؤثر الطابع القومي على شكل النظام التعليمي؟
ويضيف عبد الجواد بكر نقطة أخرى
- هل تؤثر متغيرات العالم او المتغيرات الدولية في شكل النظام التعليمي وما موقف وشكل الطابع القومي في هذه الحالة؟
(3)- طريقة هانز:
وتقوم هذه الطريقة على وضع تحديدات فلسفية لمفهوم المثالية والقومية وفق كتاباته عن انعكاسات او تأثير عدة محددات وضعها في ثلاثة مجموعات لتفسير تكوين وأداء وعمليات النظام التعليمي في عدة بنيات, وذلك بهدف الإصلاح التعليمي ومن هنا فان هانز يؤكد على ان هدف التربية المقارنة هو هدف إصلاحي محض وان التربية المقارنة يجب أن تنظر بإصرار نحو المستقبل بقصد جاد نحو الإصلاح, ولهذا فان لها دراسة لها طبيعة دينامكية وذات هدف نفعي.
ويقول هانز إننا إذا استطعنا أن نفصل وان نحلل العوامل التي كانت ذات فاعلية من الناحية التاريخية في خلق أمم مختلفة, كان علينا أن نواصل السير نحو تحديد المبادئ التي ترتكز عليها نظم التعليم القومية. وقد ذكر هانز في كتابه التراث التربوي خمسة عوامل تعمل على تكوين الأمة النموذجية وهي وحدة الجنس, وحدة الدين,وحدة اللغة ,التركيب الإقليمي,والسيادة السياسية). والمحددات التي وضعها هانز في تحليله للنظام التعليمي والتي تعتبر مرشدا رئيسيا في استخدام التحليل الثقافي في المنهج المقارن تنقسم إلى:
- العوامل الطبيعية (الجنس, اللغة, الجغرافية الاقتصادية)
- العوامل الدينية ( الكاثوليكية والانجليكانية والتطهرية)
- العوامل العلمانية (الإنسانية, والاشتراكية, والقومية).
ويعتبر هانز أن هذه العوامل هي مفسرات تاريخية لتوجيه النظم التعليمية كما يعتبرها أيضا قوي مساعدة في تعيين مشكلات هذه النظم حيث نجد أن هناك عددا من الدول التي يمكن ملاحظة اشتراكها في سوابق ثقافية في قطاع التعليم والتشابه في المشكلات التي يواجهها نظامها التعليمي ومن ثم تستوجب المقارنة.
(4)- طريقة بيريداي:
يتلخص منهج بيريداي في دراسة النظم التعليمية دراسة مسحية تحليلية في إطارين اثنين هما:
الأول: دراسة المنطقة ويقصد بها الدولة في إطار المؤثرات الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية والسياسية.
والثاني: دراسة مشتركة (تعاونية) تغطي أكثر من قطر.
وتتطلب الدراسة والبحث كما خطط لها بيريداي استخدام الخطوات او المراحل التالية:
أ- الوصفdescription:
ويتم في هذه المرحلة تناول خصائص المناطق الجغرافية : (التوزيع السكاني ,الموقع الجغرافي, المناخ والبيئة الطبيعية). كما يتم تناول ثقافة المجتمع ومفرداتها. والمنهج الوصفي يوفر مشاهدات حية واقعية من الباحث نفسه او من آخرين. وهذه تمثل المادة الخام للباحث قبل دراسة النظام التعليمي.
ب- وفي الجزء الثاني من الوصف في هذه المرحلة يؤكد بيريداي على ضرورة دراسة النظام التعليمي نفسه ولكن بنفس منهج الوصف والملاحظة المباشرة على وجه الخصوص, ويتم ذلك عن طريق زيارة معاهد التعليم وجمع البيانات يتم بصورة مباشرة ويتم بلورة فرض أو عدة فروض لبحثها خلال فترة زمنية معينة لدراسة نظام تعليمي معين في هذه المنطقة.
2- التفسيرInterpretation:
ويتم في هذه المرحلة تناول المعطيات التربوية بالنظر والتحليل في بلد من البلاد او عدة بلاد في هذه المنطقة أو تلك. ولكن في إطار شامل للخلفيات والقوى( التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية) ويرى بيريداي أن دراسة تأثير كل هذه العوامل مجتمعة يمكن أن يساعد في الإجابة على سؤال رئيسي لماذا؟ لماذا كان كينونة النظام التعليمي على هذا النحو وباستخدام عمليات المقارنة في مرحلة لاحقة يمكن الإجابة على سؤال الكيفHOW?.
وهكذا يمكن حل مشكلة مثلا من مشكلات النظام التعليمي او تفسير ظاهرة معينة مميزة لهذا النظام.
3- مرحلة المناظرة او المضاهاةJuxtaposition:
فيها نعود الى مرحلة الوصف التي تم فيها تجميع وتصنيف وتبويب البيانات والإحصاءات والرسوم والجداول البيانية. في دولتي المقارنة او دول او مناطق المقارنة. وفيها يتم تحديد المتشابهات والمختلفات في هذه البيانات ومن هنا يمكن تحديد ووصف دقيق لمعيار يتم في ضوئه عمليات المقارنة. وفي هذه المرحلة يتم فحص الأوجه المحددة للمقارنة عن طريق عمليات المناظرة بين قطر(أ) وقطر(ب) وهكذا يمكن مناقشة صحة الفروض السابق وضعها وتحديد الفروض تحديدا واضحا.
4- المقارنةComparison:
هنا يتم منهج المقارنة بخلاصة استخدام عدة مناهج وطرق في الوصف والتفسير وفرض الفروض وتحليل أبعاد المشكلات. وفي هذه المرحلة ووفقا لأوجه المناظرة المحددة في الخطوة السابقة يمكن التوصل مثلا إلى:
1- نتائج محددة حول النظام التعليمي ومشكلاته.
2- تحديد بعض صفات النظام التعليمي.
3- تحديد كيفية الإفادة من خصائص نظام تعليمي معين في حل مشكلات نظام تعليمي آخر.
وهكذا يؤكد بيريداي على أن دراسة المشكلات التربوية هو الموضوع الأساسي لدراسته ورؤيته في التربية المقارنة ويؤكد على أن التربية المقارنة علم يقوم ببحث المشكلات التربوية ووصف مظاهرها ثم التعمق في أسبابها ثم البحث عن أسباب نشأة هذه المشكلات والصور والمسار التي تبلورت فيه وأسباب ذلك أيضا, ويرتبط عمل بيريداي بالدراسات المسحية ودراسات الحالة وذلك لمعرفة أوضاع التعليم في بلد معين صورة دينامية تبين أبعاد وأوضاع هذه النظم التعليمية وخلفياتها الثقافية معا.
(5)- طريقة هولمز:
اعتمد هولمز على خطوات التفكير النقدي عند ديوي والثنائية الحرجة عند كارل بوبر في تحديد المشكلات التربوية وحلها. وبذا فانه وبيريداي يلتقيان إلا أن هولمز يؤمن بان المنهج التاريخي ليست له قيمة فاعلة حيث إن التاريخ وان كان مهمآ في تفسير الظاهرة التربوية إلا أن الأمر يحتاج إلى التنبؤ بالنتائج. لكنه يلتقي مع ديوي في الفلسفة البرجماتية ويرى أن المنهج البرجماتي يقوم على طريقة علمية من اجل التوصل إلى التنبؤ وهو هدف العلم الأسمى.
منهج هولمز وان كان يرتبط بطريقة حل المشكلات عند جون ديوي إلا انه وضع صورة معدلة منه تناسب دراسة النظام التعليمي وتقوم على الأسس التالية:
1- اختيار المشكلة وتعديلها:
ويتوقف هذا الاختيار على الباحث نفسه ولكن محك الاختيار هو شيوع هذه المشكلة( عموميتها) في النظم التعليمية.مثال ذلك:
أ- المشكلة التعليمية ذات طابع اقتصادي
ب-المشكلة التعليمية ذات طابع اجتماعي
ج-المشكلة التعليمية ذات طابع سياسي.
د-المشكلة التعليمية ذات طابع عقيدي ديني...وهكذا
2- صياغة مقترحات رسم السياسات التعليمية للمشكلة. فمشكلة مجتمع(دولة) لا يناسب دولة أخرى(المقارنة بين الدول النامية والمتقدمة), ثنائية العلاقة البينية في الأخذ والنقل (اليابان وأمريكا) بعد الحرب العالمية الثانية, وعلى الباحث هنا وضع الاقتراحات ثم الاختيارات والبدائل المناسبة لرسم الساسة التعليمية أو تمحيص هذه الاقتراحات أولا ثم بناء الاختبارات.
3- تحديد العوامل المتصلة:
أ- الإطار المعياري: عوامل أيدلوجية( معايير اتجاهات)
ب- الإطار التأسيسي: المنظمات والمؤسسات وعملياتها.
ج- الإطار الطبيعي: لا دخل للإنسان به وهو الأرض والثروة وغيرها وبالتالي فان المقترحات التي يضعها الباحث في رقم 2 والخاصة بالسياسة التعليمية المنتهجة يجب تمحيصها عن طريق هذه الأطر التي توضح بصورة أفضل تركيب المشكلة موضع الدراسة بجوانبها المتعددة.
4- التنبؤ:
وهو يعني بمدى نجاح الحلول المستخدمة إذا ما وضعت موضع التطبيق وهو آخر مرحلة في خطوات التفكير النقدي.
(6): طريقةمولمان(النموذج النظري)
تتركز فكرة مولمان في ضرورة تحليل النظام التعليمي كي يتم فهمه ، ومن هنا كانت حاجته الماسة لإقرار (نموذج نظري(Theoretical Model يتيح له فرصة التحليل المنظم لكلا الاتجاهات المعاصرة والعوامل طويلة المدى(long-rang factors) مثل العلم والتكنولوجيا وعلم الجمال .ولكن ذلك يتطلب استخدام منظور مقنن يساعد في عمل موازنة بين الأدلة والبراهين التجريبية المباشرة والمتاحة وبين التأثير المستمر للقيم الثقافية values Cultural
لذا يرى مولمان ضرورة الأخذ بقانون التركيب أو (المورفولوجي) الذي يساعد على دراسة التربية في شكلها الراهن وفي تطورها التاريخي ،وقد استعان مولمان بقانون هيرسكوفيتس في (المورفولوجي والذي يتضمن الثقافة المادية وتوابعها (التكنولوجيا والاقتصاديات )(المؤسسات الاجتماعية)(التنظيمات والتربية والتراكيب السياسية)-الانسان والكون (نظم الاعتقاد)علم الجمال اللغة.
وساعدت هذه المعتقدات مولمان في وضع نموذج نظري الذي يمثل جمعا من العناصر التي يجب تحديدها تحديدا دقيقا والتي ترتبط بثقافة منطقة من المناطق الجغرافية او السياسية والتي أثرت وما زالت تؤثر في تشكيل النظام التربوي بالصورة التي يبدو عليها في الوضع الراهن .هذه العناصر هي التي أطلق عليها مولمان اسم العوامل طويلة المدى والتي تترابط مع بعضها والتي تؤثر في توجيه النظام التربوي وتكوينه وعملياته ،ويصف مولمان هذا التجمع من العناصر طويلة المدى- التي يجب تحديدها قبل البدء في دراسة النظام التربوي -بانها تميز حلقة من الانسانية (Circle of Humanity)في مكانها وزمانها ودوامها (استمراريتها)وكذلك في ثبات عملية تحليل النظام التربوي.
ساحة النقاش