قصة الإسلام
هو الفارس الحكيم أبو الدرداء عويمر بن زيد بن قيس الأنصاري الخزرجي صاحب رسول الله . وكان أبو الدرداء t من آخر الأنصار إسلامًا، وكان يعبد صنمًا، فدخل ابن رواحة ومحمد بن مسلمة -رضي الله عنهما- بيته فكسرا صنمه، فرجع فجعل يجمع الصنم، ويقول: ويحك! هلاَّ امتنعت! ألا دفعت عن نفسك. فقالت أم الدرداء: لو كان ينفع أو يدفع عن أحد، دَفَع عن نفسه ونفعها.
فقال أبو الدرداء: أعِدِّي لي ماء في المغتسل. فاغتسل، ولبس حلته، ثم ذهب إلى النبي ، فنظر إليه ابن رواحه t مقبلاً، فقال: يا رسول الله ، هذا أبو الدرداء، وما أراه إلا جاء في طلبنا. فقال: "إنما جاء ليسلم، إن ربي وعدني بأبي الدرداء أن يسلم".
منزلته وفضله
لأبي الدرداء t المكانة العالية والمنزلة المرموقة بين صحابة النبي ؛ قال عنه رسول الله يوم أُحد: "نعم الفارس عويمر". وقال عنه أيضًا: "هو حكيم أمتي".
وقد كان t أحد أربعة جمعوا القرآن كله في عهد النبي ؛ فقد روى البخاري بسنده عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ t قَالَ: "مَاتَ النَّبِيُّ وَلَمْ يَجْمَعْ الْقُرْآنَ غَيْرُ أَرْبَعَةٍ: أَبُو الدَّرْدَاءِ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو زَيْدٍ".
أثر الرسول في تربيته
كان للنبي الأثر الأكبر في تربية أبي الدرداء t، وقد كان الحبيب يوصيه كثيرًا بما يجلب عليه الخير في الدنيا والآخرة؛ ففي صحيح مسلم عن أبي الدرداء t قال: "أوصاني حبيبي بثلاثٍ لن أدعهن ما عشت: بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضحى، وبأن لا أنام حتى أوتر".
وروي أن عمر بن الخطاب t دخل على أبي الدرداء t فدفع الباب فإذا ليس فيه غلق، فدخل في بيت مظلم فجعل يلمسه حتى وقع عليه، فجسّ وسادة فإذا هي برذعة، وجسّ دثاره فإذا كساء رقيق. قال عمر t: ألم أوسِّع عليك؟! ألم أفعل بك؟!
فقال له أبو الدرداء t: أتذكر حديثًا حدثناه رسول الله ؟
قال: أيُّ حديث؟
قال: "ليكن بلاغ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب".
قال: نعم.
قال: فماذا فعلنا بعده يا عمر؟
قال: فما زالا يتجاوبان بالبكاء حتى أصبحا.
من ملامح شخصية أبي الدرداء
الزهد في الدنيا
قال أبو الدرداء t: ما يسرني أن أقوم على الدرج من باب المسجد فأبيع وأشتري فأصيب كل يوم ثلاثمائة دينار أشهد الصلاة كلها في المسجد، ما أقول: إن الله لم يحل البيع ويحرم الربا، ولكن أحب أن أكون من الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله.
علمه
عن يزيد بن عميرة قال: لما حضرت معاذ بن جبل t الوفاة، قيل له: يا أبا عبد الرحمن، أوصنا. فقال: "التمسوا العلم عند عويمر (أبي الدرداء)؛ فإنه من الذين أوتوا العلم". وقد ولي أبو الدرداء t قضاء دمشق، وكان من العلماء الحلماء الألِبَّاء.
حاله مع ربه
عن أبي الدرداء t أنه كان يقوم من جوف الليل، فيقول: "نامَتِ العُيُونُ، وَغارَتِ النُّجُومُ، وأنْتَ حَيٌّ قَيُّوم". وعن أبي الدرداء t قال: "لأَنْ أقول: الله أكبر مائة مرة أحبُّ إليَّ من أن أتصدق بمائة دينار".
خوفه وخشيته
قال أبو الدرداء t: "أضحكني ثلاث وأبكاني ثلاث: أضحكني مُؤمِّل دنيا والموت يطلبه، وغافل وليس بمغفول عنه، وضاحك بملء فِيهِ ولا يدري أرضي الله أم أسخطه؟! وأبكاني فراق الأحبة محمد وحزبه، وهول المطلع عند غمرات الموت، والوقوف بين يدي الله ، ولا أدري إلى الجنة أم إلى النار؟!".
وقال أبو الدرداء t لبعيرٍ له عند الموت: "أيها البعير، لا تخاصمني إلى ربك؛ فإني لم أكُ أحمِّلك فوق طاقتك".
حرصه على الأخوة في الله
كان أبو الدرداء t يقول: أعوذ بالله أن يأتي عليَّ يوم لا أذكر فيه عبد الله بن رواحة t، كان إذا لقيني مقبلاً ضرب بين ثديي، وإذا لقيني مدبرًا ضرب بين كتفي، ثم يقول: يا عويمر، اجلس فلنؤمن ساعة. فنجلس فنذكر الله ما شاء، ثم يقول: يا عويمر، هذه مجالس الإيمان.
ولما قيل لأبي الدرداء t: ألا تبغض أخاك وقد فعل كذا؟ قال: "إنما أبغض عمله وإلاَّ فهو أخي، وأخوة الدين أوكد من أخوة القرابة". وكان أبو الدرداء t يقول: "إني لأدعو لسبعين من إخواني في سجودي، أسمِّيهم بأسمائهم".
حرصه على الدعوة إلى الله
عن رجل من النخع قال: سمعت أبا الدرداء t حين حضرته الوفاة قال: أحدثكم حديثًا سمعته من رسول الله ، سمعت رسول الله يقول: "اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، واعدد نفسك في الموتى، وإياك ودعوة المظلوم؛ فإنها تستجاب، ومن استطاع منكم أن يشهد الصلاتين العشاء والصبح ولو حبوًا، فليفعل".
من مواقفه مع الصحابة
موقفه مع سلمان الفارسي
روى البخاري بسنده عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه قال: آخى النبي بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء مُتبذِّلة، فقال لها: ما شأنك؟
قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا.
فجاء أبو الدرداء فصنع له طعامًا، فقال: كُلْ.
قال: فإني صائم.
قال: ما أنا بآكل حتى تأكل.
قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نَمْ. فنام ثم ذهب يقوم، فقال: نَمْ. فلما كان من آخر الليل، قال سلمان: قم الآن. فصليا، فقال له سلمان: "إن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعطِ كل ذي حق حقه". فأتى النبي فذكر ذلك له، فقال النبي : "صدق سلمان".
موقفه مع أبي بن كعب
عن أبي الدرداء t قال: جلس رسول الله يومًا على المنبر، فخطب الناس وتلا آية وإلى جنبي أبيّ بن كعب، فقلت له: يا أبيّ، ومتى أنزلت هذه الآية؟ قال: فأبى أن يكلمني. ثم سألته، فأَبَى أن يكلمني حتى نزل رسول الله ، فقال أبيّ t: ما لك من جمعتك إلا ما لغيت. فلما انصرف رسول الله جئته فأخبرته، فقلت: أَيْ رسول الله ، إنك تلوت آية وإلى جنبي أبيّ بن كعب، فقلت له: متى أنزلت هذه الآية؟ فأبى أن يكلمني، حتى إذا نزلتَ زعم أبيّ t أنه ليس لي من جمعتي إلا ما لغيت. فقال: "صدق أبيّ، إذا سمعت إمامك يتكلم فأنصت حتى يفرغ".
من مواقفه مع التابعين
موقفه مع أهل الشام
عن الضحاك قال: قال أبو الدرداء t: يا أهل دمشق، أنتم الإخوان في الدين، والجيران في الدار، والأنصار على الأعداء، ما يمنعكم من مودتي، وإنما مؤنتي على غيركم، ما لي أرى علماءكم يذهبون، وجُهّالكم لا يتعلمون، وأراكم قد أقبلتم على ما تُكفّل لكم به، وتركتم ما أمرتم به، ألا إن قومًا بنوا شديدًا، وجمعوا كثيرًا، وأمَّلُوا بعيدًا، فأصبح بنيانهم قبورًا، وأملهم غرورًا، وجمعهم بورًا، ألا فتعلّموا وعلِّموا؛ فإن العالم والمتعلم في الأجر سواء، ولا خير في الناس بعدهما".
موقفه يوم فتح قبرص
عن جبير بن نفير قال: لما فتحت قبرص فُرِّق بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، فرأيت أبا الدرداء t جالسًا وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء، ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟!
قال: ويحك يا جبير! ما أهون الخلق على الله إذا تركوا أمره.
أثره في الآخرين (دعوته وتعليمه)
روي أن أبا الدرداء t كتب إلى سلمان: "يا أخي، اغتنم صحتك وفراغك قبل أن ينزل بك من البلاء ما لا يستطيع العباد ردَّه، واغتنم دعوة المبتلى. يا أخي، ليكن المسجد بيتك؛ فإني سمعت رسول الله يقول: "المساجد بيت كل تقي"، وقد ضمن الله لمن كانت المساجد بيوتهم بالروح والرحمة والجواز على الصراط إلى رضوان الله . ويا أخي، ارحم اليتيم وأدنه وأطعمه من طعامك؛ فإني سمعت رسول الله يقول وقد أتاه رجل يشتكي قساوة قلبه، فقال رسول الله : "أتحب أن يلين قلبك؟" فقال: نعم. قال: "أدن اليتيم منك، وامسح رأسه وأطعمه من طعامك؛ فإن ذلك يلين قلبك وتقدر على حاجتك". ويا أخي، لا تغترن بصحبة رسول الله ؛ فإنا عشنا بعده دهرًا طويلاً، والله أعلم بالذي أصبنا بعده".
وعن أبي قلابة أن أبا الدرداء t مر على رجلٍ قد أصاب ذنبًا فكانوا يسبونه، فقال: "أرأيتم لو وجدتموه في قَلِيبٍ، ألم تكونوا مستخرجيه؟!
قالوا: بلى.
قال: "فلا تسبُّوا أخاكم، واحمدوا الله الذي عافاكم".
قالوا: أفلا تبغضه؟!
قال: "إنما أبغض عمله، فإذا تركه فهو أخي".
بعض ما رواه عن رسول الله
روى مسلم بسنده عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ t أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: "مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْف، عُصِمَ مِنَ الدَّجَّالِ".
وروى الترمذي بسنده عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ t، عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: "مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ، وَمَنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ".
من كلمات أبي الدرداء
كان أبو الدرداء t حكيمًا وأيَّ حكيم، ومن بستان حكمته قوله t: "لو أن رجلاً هرب من رزقه كما يهرب من الموت، لأدركه رزقه كما يدركه الموت".
وقوله: "من كثر كلامه كثر كذبه، ومن كثر حلفه كثر إثمه، ومن كثرت خصومته لم يسلم دينه".
وقال أيضًا: "من لم يعرف نعمة الله عليه إلا في مطعمه ومشربه، فقد قلَّ علمه وحضر عذابه، ومن لم يكن غنيًّا عن الدنيا فلا دنيا له".
موقف الوفاة
عن أم الدرداء -رضي الله عنها- أن أبا الدرداء t لما احتضر جعل يقول: من يعمل لمثل يومي هذا؟! من يعمل لمثل ساعتي هذه؟! من يعمل لمثل مضجعي هذا؟! ثم يقول: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110].
مات أبو الدرداء t سنة اثنتين وثلاثين من الهجرة بدمشق، وقيل: سنة إحدى وثلاثين.
ساحة النقاش