الريادة الحائرة للمسرح العربي

بين لبنان والجزائر

أ.د/ سيد علي إسماعيل

كلية الآداب، جامعة حلوان – جمهورية مصر العربية

ـــــــــــــــــ

عندما قدّم مارون النقاش اللبناني مسرحيته الأولى (البخيل) عام 1848 في بيروت، كتب بيده ريادته للمسرح العربي من خلال العرض. وعندما نشر شقيقه – نقولا النقاش - كتاب (أرزة لبنان) عام 1869 – في بيروت أيضاً – ونشر فيه نصوص مارون المسرحية، كتب بيده ريادة شقيقه مارون من خلال النص! ومنذ ذلك التاريخ تربع مارون على عرش الريادة المسرحية العربية بلا منازع، حتى عام 1996؛ عندما نُشرت مسرحية (نزاهة المشتاق وغصة العشاق في مدينة طرياق في العراق) بالعربية في إنجلترا، وقيل إنها مسرحية جزائرية منشورة عام 1847 .. أي قبل مارون بعام واحد؛ وبذلك سحبت الجزائر بُساط الريادة المسرحية من تحت أقدام لبنان .. هكذا قال الكثيرون!! أما أنا فأقول: إنها مؤامرة علمية غير شريفة .. قام بها الدكتور (شموئيل موريه (<!--)) أستاذ الأدب العربي في الجامعة العبرية، بالاشتراك مع الدكتور فيليب سادجروف (<!--)!! وإليك أيها القارئ تفاصيل المؤامرة!

تهويد المسرح العربي

في عام 1996 أصدرت جامعة مانشستر في إنجلترا كتاباً ضخماً باللغتين الإنجليزية والعربية؛ عنوانه على القسم العربي، جاء هكذا: (الحركة المسرحية عند يهود البلاد العربية في القرن التاسع عشر). وعلى القسم الإنجليزي، جاء هكذا: (Jewish Contributions to Nineteenth-Century Arabic Theatre)، وقام بكتابة الكتاب كل من: (فيليب سادجروف P.C. Sadgrove من جامعة مانشستر) و(شموئيل موريه Shmuel Moreh من الجامعة العبرية). والقسم الإنجليزي من الكتاب يقع في (138) صفحة، وهو دراسة تاريخية نقدية تحليلية لدور اليهود في المسرح العربي في القرن التاسع عشر من خلال جهود (أبراهام دانينوس في الجزائر، ويعقوب صنوع في مصر، وزاكي كوهين وابنه سليم في بيروت، وأنطون شحيبر في سورية). أما القسم العربي من الكتاب فيقع في (305) صفحة، وهو عبارة عن نصوص ست مسرحيات، الأولى (نزاهة المشتاق وغصة العشاق في مدينة طرياق في العراق) لأبراهام دانينوس، والمسرحيات الخمس الأخرى لأنطون شحيبر، وهي: (المريض الوهمي، مُدّعي الشرف، انتصار الفضيلة أو حادثة الابنة الإسرائيلية، ناكر الجميل، ذبيحة إسحق).

هذا الكتاب .. كان الهدف من وراء نشره – كما جاء في مقدمته - إثبات " أن اليهود الذين يتحدثون العربية، كانوا رواداً لحركة نهضة المسرح العربي في منتصف القرن التاسع عشر" (<!--)! ومن أجل تحقيق هذا الهدف؛ أسهمت عدة جامعات رسمية، وعلى رأسها الجامعة العبرية في نشر الكتاب، هذا بالإضافة إلى بعض الأسر اليهودية، مثل أسرة (أبو العافية)، التي ساعدت على ظهور هذا الكتاب، ناهيك عن الشخصيات اليهودية، التي مدت يد العون لدعم هذا الكتاب! لذلك وجه المؤلفان شكرهما وتقديرهما إلى هذه الجهات، وإلى هذه الشخصيات في بداية الكتاب (<!--)! وعلى الرغم من هذا الدعم؛ إلا أن المؤلفين (فيليب سادجروف، وشموئيل موريه) لم ينجحا في تحقيق هدف الكتاب بالصورة المأمولة؛ لأنهما فشلا – وبنسبة كبيرة - في إقناع القارئ أن اليهود كانوا رواداً للمسرح العربي!

يعقوب صنوع في مصر

جاء حديث المؤلفَين عن (يعقوب صنوع) ترديداً للمزاعم المعروفة عنه، بوصفه رائداً للمسرح العربي في مصر، ولم يستطع المؤلفان إضافة شيء على هذه المزاعم! وإذا افترضنا جدلاً أن حديثهما عن صنوع – رغم عدم الجديد فيه – كان مُفيداً وقت نشر الكتاب عام 1996؛ إلا أنه أصبح لا قيمة له بعد عام 1999، وسيظل هكذا (لا قيمة له) لسنوات طويلة مستقبلاً؛ حيث إن دراسات كثيرة نُشرت منذ عام 1999، وحتى الآن، تثبت أن نشاط صنوع المسرحي في مصر، كان وهماً في عقول الدارسين والباحثين!

ومنذ عام 1999، توقف الباحثون والدارسون عن تناول صنوع في بحوثهم ودراساتهم، ولم يستطع أي باحث أن يكتب عن صنوع بوصفه رائداً للمسرح العربي في مصر، ومَنْ يحاول الاقتراب مسرحياً من هذه الشخصية؛ لا بُد له أن يثبت أولاً أن صنوعاً أقام مسرحاً عربياً في مصر، وأنه رائد المسرح العربي في مصر، وهذا الأمر لم يستطع إثباته أي باحث حتى الآن، إلا إذا اعتمد (فقط) على أقوال صنوع نفسه، وإذا حاول أي باحث أن يبحث أو ينقب عن (إشارة واحدة)، تُشير من قريب أو من بعيد أن صنوعاً مارس النشاط المسرحي العربي في مصر طوال سنوات (1870 – 1872) – وهي فترة نشاط صنوع، كما زعم صنوع نفسه في كتاباته - فلن يجدها!! وإلى حين ظهور هذه الإشارة، سيتوقف الحديث عن صنوع وريادته المزعومة للمسرح العربي في مصر (<!--)!!

زاكي كوهين وابنه سليم في بيروت

أما حديث (سادجروف وشموئيل) عن (زاكي كوهين وابنه سليم)؛ فكان حديثاً فاتراً غير مؤثر؛ لأن أعمالهما المسرحية كانت تُقدم لأطفال المدرسة اليهودية في بيروت! ناهيك عن اعترافهما بعدم حصولهما على نص واحد من نصوص هذه المسرحيات! كذلك عدم يقينهما أن هذه المسرحيات مؤلفة أو مترجمة! وأخيراً تصريحهما بأن معلوماتهما عن زاكي كوهين وابنه سليم قليلة جداً (<!--). وعلى الرغم من كل هذا، اجتهد المؤلفان – في محاولة يائسة – لإثبات أن هذه المدرسة، كانت بمثابة (كلية عربية يهودية Jewish Arab college) (<!--)، وبالتالي فإن نشاطها المسرحي كان مرموقاً، وأن صاحب المدرسة زاكي كوهين وابنه سليم من رواد المسرح العربي في بيروت!

والحقيقة أن هذه المدرسة، كانت مدرسة أطفال متواضعة جداً، وكانت تستجدي اليهود – وغير اليهود – من أجل بقائها واستمرارها، وهذه الصورة لا تنتج بأي حال من الأحوال حركة مسرحية – ولو كانت للأطفال – ولا يُعدّ صاحب المدرسة وابنه من رواد المسرح العربي! ففي عام 1887 كتب نقولا شحادة كلمة قصيرة بوصفه مندوب مجلة (المقتطف) في مصر، تحت عنوان (المدرسة الإسرائيلية في بيروت)، فتحدث عن رئيس المدرسة الحاخام زاكي كوهين، قائلاً: "... فنثني على همة حضرة الحاخام ونستلفت غيرة أغنياء الإسرائيليين عموماً، وسكان القُطر المصري خصوصاً إلى الأخذ بيد هذا المقدام كما هو دأبهم في كل المشروعات الخيرية؛ لكي تزداد هذه المدرسة نجاحاً، ويعم خيرها أغنياءهم وفقراءهم" (<!--).

وهذه الكلمة، تعكس لنا أن هذه المدرسة متعسرة منذ فترة زمنية ليست بالقصيرة؛ فإن كانت الكلمة نُشرت عام 1887، فهذا يعني أن المدرسة متعسرة قبل نشرها بسنوات طويلة! فإذا علمنا أن هذا التعسر، ظل مستمراً – بعد نشر الكلمة السابقة – طوال ثماني سنوات؛ ستظهر حقيقة هذه المدرسة وقيمتها في مجال النشاط المسرحي! ففي عام 1895 كتب جرجي زيدان كلمة – مشابهة لمضمون الكلمة السابقة - تحت عنوان (المدرسة الإسرائيلية العمومية ببيروت)، قال فيها: " تلك المدرسة تشكو الملل وضيق ذات اليد لتقاعد الطائفة الإسرائيلية عن الأخذ بناصرها وتنشيطها بالبذل والعطاء. والإسرائيليون أكثر طوائف الأرض مالاً وأشهرها بذلاً في معاضدة بعضهم بعضاً. فلا يليق بهم أن يشاهدوا سقوط المدرسة الإسرائيلية " (<!--).

وهذا القول يؤكد أن هذه المدرسة لم تكن بالصورة، التي حاول إيهامنا بها المؤلفان! فهي مدرسة أقل من متواضعة، والشكوك في قيمتها وأهميتها كثيرة، بدليل أنها مدرسة يهودية، ورغم ذلك لا يساعدها أغنياء اليهود أنفسهم! ووصل الأمر أن تكتب المجلات الكبرى – كالمقتطف والهلال – تتسول لها الإعانة والمساعدة! فهل مثل هذه المدرسة تستطيع أن تُقدم نشاطاً مسرحياً – للأطفال – يُسهم في تطوير الحركة المسرحية العربية؛ وأن الحاخام صاحب المدرسة وابنه من رواد المسرح العربي في بيروت؛ كما حاول سادجروف وشموئيل إقناعنا؟!

أنطون شحيبر في سورية

أما (أنطون شحيبر)، الذي شغلت نصوص مسرحياته (262) صفحة من القسم العربي في الكتاب - أي بنسبة 70% - بالإضافة إلى آخر فصلين – الخامس والسادس - من القسم الإنجليزي في الكتاب! أنطون شحيبر هذا لم يكن حظه أفضل من سابقيه؛ لأن المؤلفين – سادجروف وشموئيل - لم يقدما للقارئ الدليل القاطع المانع على يهوديته!! بل ظهرت بوادر الشك في كلامهما بأن أنطون شحيبر (ربما) يكون مسيحياً (<!--)!! وحاول المؤلفان بكل وسيلة ممكنة إثبات يهودية شحيبر دون جدوى، فما كان منهما سوى حسم الأمر بصورة غير علمية قائلين: " ومهما كانت التبعية الدينية لأنطون شحيبر، فهي لا تهم! حيث إن الشخصية اليهودية واضحة جداً في أعماله المسرحية " (<!--)!

وهذا القول (غير العلمي)؛ يعكس لنا مدى اليأس والإحباط اللذين أصابا المؤلفين (سادجروف وشموئيل) أمام فشلهما في إثبات يهودية شحيبر؛ لأن عدم يهودية شحيبر ستُطيح بالكتاب! فمن غير المعقول التضحية بإنتاج أنطون شحيبر المسرحي، الذي شغل معظم صفحات الكتاب (70%)! فلولا يهودية شحيبر ما كان الكتاب صدر؛ حيث إن المتبقي – في حالة عدم يهوديته - لا يصلح أن يكون كُتيباً، وفي أحسن الأحوال دراسة أو مقالة مطولة!

والحقيقة التي حاول (سادجروف وشموئيل) البحث عنها دون جدوى، تتمثل في هذه العبارة: (أنطون شحيبر مسيحي)!! ففي عام 1883 ألقى أنطون شحيبر خطبة في إحدى الجمعيات الخيرية بعنوان (الخطابة)؛ بدأها هكذا: " إن الخطابة كانت منذ منشئها ولم تزل نقطة مهمة في الهيئة الاجتماعية، وعنها نشأت انقلابات عظيمة على وجه البسيطة. وقد لعبت بالخير والشر لعب الطفل بأصغر الطيور. فالخطابة كانت سنداً قوياً لانتشار الدين المسيحي" (<!--). ولا أظن أن يهودياً يستطيع أن يخطب أمام الناس، وأن ينشر في أهم مجلة يهودية – مثل مجلة (المقتطف) – ويقول: إن (الخطابة كانت سنداً قوياً لانتشار الدين المسيحي) إلا إذا كان مسيحياً!!

وفي عام 1897 كان أنطون شحيبر كاتب سر لجنة الاحتفال باليوبيل الفضي للمطران (يوسف الدبس رئيس أساقفة بيروت)! وشارك في كتابة فاتحة كتاب ضخم صدر بهذه المناسبة، كما شارك في كتابة ترجمة حياة المطران يوسف الدبس المنشورة في الكتاب نفسه بصفته كاتب سر الجمعية الخيرية المارونية، وألقى شحيبر خطبة بوصفه رئيساً لجمعية أخوة الفقراء المارونية في الاحتفال بيوبيل المطران يوسف الدبس (<!--)! ومن خلال هذه الصفات والمناصب والوظائف، تظهر حقيقة أن أنطون شحيبر مسيحي ماروني، وليس يهودياً كما حاول (سادجروف وشموئيل) إجبارنا على قبول يهوديته دون توثيق أو تحقيق!

أبراهام دانينوس في الجزائر

لم يبق من كتاب (الحركة المسرحية عند يهود البلاد العربية ...) سوى الحديث عن أبراهام دانينوس ومسرحيته (نزاهة المشتاق وغصة العشاق في مدينة طرياق في العراق)! وقد جعلت حديثي عنهما متأخراً؛ لأن المسرحية دُرّة الكتاب، ومؤلفها أبراهام يُعدّ كشفاً تاريخياً! فحتى صدور كتاب (الحركة المسرحية عند يهود البلاد العربية ...) عام 1996؛ كُنا نعتقد أن رائد المسرح العربي هو (مارون النقاش) اللبناني، وأن أول مسرحية عربية كانت (البخيل)، التي عرضها مارون عام 1848؛ ولكن كتاب سادجروف وشموئيل أطاح – مؤقتاً – بهاتين الحقيقتين؛ حيث وردت في الكتاب معلومات تقول: إن أبراهام دانينوس الجزائري، هو رائد المسرح العربي؛ لأنه نشر مسرحيته (نزاهة المشتاق وغصة العشاق ...) عام 1847 في الجزائر، أي أنه سبق مارون النقاش بعام كامل، وبذلك أصبح هو الرائد الحقيقي المُكتشف حديثاً، وأصبحت الجزائر موطن بداية المسرح العربي لا لبنان كما كان الجميع يعتقد منذ عام 1869، وهو عام صدور كتاب (أرزة لبنان)، الذي جمع تاريخ مارون النقاش، وجمع أعماله المسرحية والشعرية، وهذا الكتاب كان أول كتاب مسرحي منشور (<!--)!

لم يكتف سادجروف بإعلان ريادة أبراهام دانينوس للمسرح العربي في هذا الكتاب؛ حيث أعلنها مرة ثانية في كتابه (المسرح المصري في القرن التاسع عشر) الذي صدر بالإنجليزية عام 1996؛ أي بعد صدور كتابه (الحركة المسرحية عند يهود البلاد العربية ...) مباشرة وفي العام نفسه! كذلك فعل شموئيل موريه عندما أعلن ريادة دانينوس للمرة الثالثة في مقدمة تحقيق مسرحية (الأحمق البسيط) باللغة العربية عام 1997! وبهذا نجد إصراراً كبيراً من قبل سادجروف وشموئيل على نشر ريادة أبراهام دانينوس للمسرح العربي.

وإحقاقاً للحق أقول: إن جميع محاولات سادجروف وشموئيل في سبيل نشر هذه الريادة؛ لم تنجح بقدر نجاح محاولة الدكتور مخلوف بوكروح؛ عندما أعاد نشر وتحقيق مسرحية (نزاهة المشتاق وغصة العشاق ...) في الجزائر عام 2003! فمنذ ظهور كتاب بوكروح، أصبح الحديث عن دانينوس ومسرحيته هو الشغل الشاغل للمسرحيين العرب بصفة عامة، وللمسرحيين الجزائريين بصفة خاصة!

وفي عام 2007، تناولتُ ريادة دانينوس ومسرحيته المُكتشفة في أحد هوامش كتاب سادجروف (المسرح المصري في القرن التاسع عشر)، عندما شاركت في إصداره باللغة العربية في مصر. وفي هذا الهامش أظهرت عدم اقتناعي بقبول حقيقة ريادة دانينوس، واختتمت كلامي قائلاً: " ... هذه وجهة نظري في هذا الأمر، وربما أكون مُصيباً فيها أو مخطئاً، وأتمنى أن أعود إلى هذا الأمر في دراسة مستقلة، أو أن يجتهد باحث آخر في تجليته، لربما نكتشف ريادة مسرحية جديدة كُنا غافلين عنها " (<!--).

وفي عام 2011 شاركت في ندوة (نقد المسرح العربي: رؤية مستقبلية)، التي أقامتها الهيئة العربية للمسرح في الشارقة، وفي هذه الندوة تحدث باستفاضة الدكتور عبد الرحمن بن زيدان – من المغرب – في بحثه القيم (توصيفات ومرجعيات النقد المسرحي العربي من منظور تاريخي)، تحدث فيه عن ريادة دانينوس للمسرح العربي. وفي المداخلات، أظهرت له مخاوفي من قبول هذه الريادة؛ وكأنها حقيقة مسلم بها، لا تقبل نقاشاً! وتدخل في الحوار كل من الدكتور إبراهيم نوّال، والأستاذ عبد الناصر خلاف، وأظهر كل منهما رأيه في هذه القضية. وعندما اتصل بي هاتفياً الأستاذ عبد الناصر خلاف من أجل دعوتي للملتقى العلمي لمهرجان المسرح المحترف في الجزائر 2012، أخبرته أنني سأشارك بموضوع عن ريادة أبراهام دانينوس؛ فقال لي بالنص: (نحن نريد الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة)، فألهب هذا القول حماسي، وبدأت أبحث عن حقيقة ريادة دانينوس للمسرح العربي!

انطلقت رحلة البحث من خلال أسلوب (سادجروف وشموئيل) في كتابهما (الحركة المسرحية عند يهود البلاد العربية ...)، عندما ضخما النشاط المسرحي المتواضع لمدرسة أطفال يهودية، بجعله نشاطاً مسرحياً مرموقاً لكُليّة عربية يهودية! كذلك محاولتهما جعل صاحب المدرسة - الحاخام زاكي كوهين وابنه سليم - من رواد المسرح العربي؛ بالرغم من عدم حصولهما على أي نص مسرحي لهما، واعترافهما بقلة معلوماتهما عن الحاخام وابنه! وأخيراً تعمدهما تهويد أنطون شحبير من أجل اعتبار نصوصه المسرحية المسيحية نصوصاً مسرحية يهودية! كل هذا جعلني لا أثق في معلوماتهما عن دانينوس ومسرحيته المُكتشفة!

فإذا نظرنا إلى المعلومات المنشورة في كتاب (الحركة المسرحية عند يهود البلاد العربية ...) عن دانينوس ومسرحيته، سنجدها تتمثل في: إن مسرحية (نزاهة المشتاق وغصة العشاق في مدينة طرياق في العراق)، هي (مسرحية جزائرية) كما جاء في فهرس القسم العربي في الكتاب، وفي الصفحة الأولى! أما الصفحة الأولى لنص المسرحية، فكتب سادجروف وشموئيل – بعد عنوان المسرحية – " تأليف أبراهام دانينوس المترجم في محكمة الجزائر حوالي سنة  1847"! وكلمة (حوالي) عائدة على عمل دانينوس في المحكمة، لا على تاريخ نشر المسرحية؛ بدليل قول المؤلفين في القسم الإنجليزي من الكتاب: " إن هذه المسرحية طُبعت في المطبعة الحجرية، دون ذكر لمكان النشر، أو تاريخ النشر " (<!--)!!

وبالرغم من عدم تحديد تاريخ نشر هذه المسرحية؛ إلا إن عام 1847، أصبح التاريخ المُعتمد في الكتاب، والمعتمد أيضاً في جميع الكتابات العربية، التي تناولت ريادة دانينوس للمسرح العربي (<!--)! فالمعروف أن مارون النقاش هو رائد المسرح العربي، عندما قدّم مسرحيته (البخيل) في بيروت عام 1848. وهذا التاريخ أثبته أكثر من مرة نقولا النقاش – شقيق مارون - في كتابه (أرزة لبنان) عام 1869، عندما قال: "... بهذا المكان عينه قد تقدمت أول رواية عربية من أستاذي وأستاذكم أخي مارون نقاش، تغمده الله بغزير رحمته. وموقفي الآن هنا مكان موقفه في سنة 1848. يذكرني ما قاله بخطبته على رواية البخيل، التي هي أول رواية تقدمت بلساننا العربي". وقال في موضع آخر: "... في أوائل سنة 1848 قدم في بيته إلى أصحابه رواية موسيقية معروفة برواية البخيل، ودعي إليها كامل قناصل البلدة وأكابرها؛ فأعجب هذا الفن أهالي بلادنا حتى شاع ذكر هذه الرواية بكل البلاد العربية، واندرجت في الغازيطات [ أي الجرائد] الأفرنجية". وفي موضع ثالث ذكر خطبة مارون تحت عنوان "الخطبة التي تلاها رحمه الله عند تقدمة أول رواية في شهر شباط سنة 1848 "(<!--).

إذن عام 1848 هو عام ريادة المسرح العربي على يد مارون النقاش؛ وعندما يحاول البعض – وعلى رأسهم سادجروف وشموئيل - إقحام عام 1847 – دون سند توثيقي أو علمي – بوصفه العام المُفترض لنشر مسرحية (نزاهة المشتاق وغصة العشاق ..)؛ ليُصبح مؤلفها (أبراهام دانينوس) رائداً للمسرح العربي؛ لأنه سبق مارون النقاش بعام واحد! فهذا يعني تحويل البحث العلمي إلى مؤامرة غير شريفة! الغرض منها سلب ريادة المسرح العربي من مارون النقاش المسيحي اللبناني، وإلصاقها بأبراهام دانينوس اليهودي الجزائري! وللأسف الشديد، نجحت هذه المؤامرة منذ عام 1996 – وحتى الآن – حيث إنني لم أجد أحداً تناول هذه القضية إلا وتحدث عن أبراهام دانينوس؛ بوصفه رائداً للمسرح العربي!!

ومنذ عام 2003، عندما نشر د.مخلوف بوكروح مسرحية (نزاهة المشتاق وغصة العشاق ..) لأول مرة في الجزائر، بدأت الكتابات الجزائرية والعربية تتوالى، وبدأت الاجتهادات تظهر في الآفاق حول المسرحية وصاحبها، وأغلب هذه الكتابات والاجتهادات، تحدثت – ومازالت تتحدث – عن أمور اجتهادية، بوصفها حقائق علمية (<!--)، تتلخص في أن (المؤلف الجزائري اليهودي أبراهام دانينوس، ألف مسرحية " نزاهة المشتاق وغصة العشاق .."، وطبعها في المطبعة الحجرية بالجزائر عام 1847، وبذلك يكون رائداً للمسرح العربي).

وهذه العبارة – التي تُعتبر الشغل الشاغل في قضية ريادة المسرح العربي في وقتنا الحاضر - تحتاج إلى مراجعة دقيقة قبل تبني ما فيها من معلومات! ومنها جزائرية دانينوس! وبمعنى آخر: هل أبراهام دانينوس يهودي جزائري بالفعل؟! فسادجروف وشموئيل قالا عنه: "يهودي من اليهود السفرديم، مُتحدث العربية، مُقيم في الجزائر" (<!--)، ورغم ذلك حاول المؤلفان الالتفاف على هذا الأمر، مستخدمين المراجع التاريخية، والحُجج السياسية، والمنطق السليم في قبول الأمر في بعض الأحيان، والمنطق غير السليم في أحيان كثيرة .. إلخ، ورغم ذلك لم يستطع المؤلفان إيجاد مرجع واحد، أو عبارة واحدة صريحة تقول: إن أبراهام دانينوس جزائري أو من أصول جزائرية!!

والدليل على ذلك أن سادجروف وشموئيل كتبا فصلاً كاملاً عن دانينوس ومسرحيته تحقيقاً وتوثيقاً، ولم أجد في هذا الفصل عبارة صريحة عن جزائرية دانينوس! بل ما قرأته – في هذا الفصل - يدل على فرنسيته أكثر مما يدل على جزائريته! ومن الأقوال الدالة على ذلك: " أُلفت هذه المسرحية بواسطة يهودي يتحدث اللغة العربية في الجزائر ..... ما الذي جعل يهودياً يتحدث العربية كاتباً للمسرح في الجزائر؟ ..... منذ بداية الاحتلال كان دانينوس على صلة وثيقة بالفرنسيين .... كان دانينوس مساعداً ومترجماً ودليلاً للقائد العسكري توربين خلال حملته العسكرية .... إن دانينوس استمد علمه في الأدب والفلكلور العربي من خلال تعامله اليومي مع المثقفين العرب في الحيّ وفي المقهى والتجارة " (<!--).

وإذا نحينا جانباً الحديث عن أصل أبراهام دانينوس المتأرجح بين الفرنسي والجزائري - حتى يحسمه أحد المتخصصين في تاريخ اليهود في الجزائر في القرن التاسع عشر - وافترضنا جدلاً أنه جزائري! سنجد أمامنا هذا السؤال: هل طُبعت بالفعل مسرحية (نزاهة المشتاق وغصة العشاق ..) في المطبعة الحجرية في الجزائر عام 1847؟!

بالنسبة لطباعة المسرحية في المطبعة الحجرية؛ فهذا أمر مؤكد لا شك فيه؛ لأن شكل الطباعة واضح وظاهر ويثبت أسلوب الطباعة الحجرية؛ ولكن الشك يتمثل في هذا السؤال: أي مطبعة حجرية طبعت هذه المسرحية؟ المعروف – بناءً على ما سبق، وبناءً على المعلومات المعروفة – أن المسرحية طُبعت في المطبعة الحجرية في الجزائر! وهذا أمر غير منطقي بنسبة كبيرة؛ لأن المطبعة الحجرية أدخلتها فرنسا إلى الجزائر عام 1847 من أجل طباعة جريدة (المُبشر) (<!--) كأول جريدة رسمية تصدر في الجزائر باللغتين العربية والفرنسية، من أجل اطلاع أهل الجزائر على قوانين المستعمرين وأوامرهم (<!--)!! ولا يُعقل أن هذه المطبعة تطبع مسرحية في أول عام لها، وهي مطبعة رسمية للاستعمار!!

فالمعروف أن جميع المطابع الحجرية – وغير الحجرية – عندما تدخل أية دولة لأول مرة، تقوم بطباعة الصحف الرسمية، والنشرات السياسية، والأوامر والقوانين، ثم الكُتب الدينية والتعليمية، ثم كتب التاريخ والتراث، ثم دواوين الشعر، ثم الكُتب الأدبية المعاصرة كالروايات والمسرحيات .. إلخ، وهذا الترتيب يستغرق سنوات كثيرة؛ أي أن مسرحية دانينوس لا يُمكن طباعتها في المطبعة الحجرية في الجزائر إلا بعد عام 1847 بعدة سنوات!! فتونس مثلاً أدخلت المطبعة الحجرية عام 1849، وأول كتاب طبعته (مسامرة قرطاجنة) وهو مناظرة دينية بين قاضٍ ومفتٍ وراهبٍ. وفي المغرب دخلت أول مطبعة حجرية عام 1864، فطبعت أول ستة كتب في سبع سنوات، وكلها كتب دينية وتعليمية (<!--)!

وبناءً على ذلك نقول: إن مسرحية (نزاهة المشتاق وغصة العشاق ..) طُبعت في المطبعة الحجرية الجزائرية بعد عام 1847 بسنوات كثيرة، أو أنها طُبعت بالفعل عام 1847؛ ولكن في الطبعة الحجرية في فرنسا، وليست في الجزائر! والدليل على ذلك أن نُسخة هذه المسرحية لم تُذكر في جميع كُتب الفهارس والمؤلفين وفهارس المطابع! ولم تُدرج في بحوث المتخصصين، الذين تحدثوا عن أوائل المطبوعات العربية أو المطابع الحجرية؛ مما يؤكد أن المسرحية طُبعت في المطبعة الحجرية في باريس، وليست في الجزائر!!

لم يبق غير سؤال واحد؛ سيحسم أمر ريادة أبراهام دانينوس ومسرحيته، وهو: هل كتب – أو نشر - أبراهام دانينوس مسرحيته (نزاهة المشتاق وغصة العشاق ..) عام 1847؟! الإجابة المتوقعة تقول: نعم كُتبت المسرحية ونُشرت عام 1847!! هكذا قال سادجروف وشموئيل ومخلوف بوكروح! وكل من تناول هذا الموضوع!! أما الحقيقة المنطقية، فتقول غير ذلك!! تقول: إن مسرحيته (نزاهة المشتاق وغصة العشاق ..) كُتبت ونُشرت بعد عام 1861!! وإليك الأدلة!

من خلال قراءة مسرحية (نزاهة المشتاق وغصة العشاق ..)، وتحقيقها من قبل سادجروف وشموئيل – ومن بعدهما مخلوف بوكروح – يتضح أن مؤلفها أبراهام دانينوس ألفها معتمداً على كُتب التراث الأدبي، لا سيما (كتاب ألف ليلة وليلة، وكتاب كشف الأسرار عن حُكم الطيور والأزهار لعز الدين بن عبد السلام، وكتاب سفينة المُلك ونفيسة الفُلك لإسماعيل شهاب الدين، وديوان البهاء زهير .. إلخ)! وتبعاً للمنطق السليم، يجب أن تكون هذه الكُتب مطبوعة ومنشورة قبل عام 1847، حتى يعتمد عليها دانينوس في تأليف مسرحيته!

وبناءً على ذلك نقول: إن كتاب (ألف ليلة وليلة) طُبع قبل عام 1847 بسنوات طويلة، ولا خلاف في اعتماد دانينوس عليه؛ ولكن الخلاف في كتاب (كشف الأسرار) المطبوع لأول مرة في باريس عام 1821! فقد أقرّ سادجروف وشموئيل بأن دانينوس اعتمد على نسخة باريس بالذات في تأليف المسرحية، وهو أمر منطقي؛ لأن كشف الأسرار طُبع عام 1821، والمسرحية كُتبت ونشرت عام 1847! ولكن عندما نجد اختلافات بين طبعة باريس لكتاب كشف الأسرار، وبين نص المسرحية – بناءً على تحقيقه العلمي – فلا بُد أن نضع احتمالاً آخر يقول: إن دانينوس لم يعتمد على طبعة باريس عام 1821 لكتاب (كشف الأسرار)؛ بل اعتمد على أول طبعة عربية لكتاب (كشف الأسرار)، عندما طبعته مصر في المطبعة الحجرية عام 1859 (<!--)!

والأمثلة كثيرة على وجود اختلافات بين نسخة باريس لكتاب (كشف الأسرار) عام 1821، وبين نص المسرحية – بناء على التحقيق – منها: أن دانينوس كتب في القسم الأول من الفصل الرابع مجموعة من الأشعار ذكرتها (نعمه) – إحدى شخصيات المسرحية – كان من ضمنها بيتان، هما:

من قال أول الهوى اختيار        فقل كذبت كلّه اضطـرار

وليس بعد الاضطرار عار        دله عى صحته أخبــار

ووضع المحققان – سادجروف وشموئيل – هامشاً عند هذين البيتين، قالا فيه: هذه الأبيات مقتبسة من (كشف الأسرار)، ص33 (<!--)، وعندما بحثت في نسخة باريس لكتاب (كشف الأسرار) صفحة (33)، لم أجد هذين البيتين، ولكنني وجدت بيتين آخرين – تحت عنوان إشارة الريحان – هما:

سايلي عن خفي سر غرامــي        ويك أقصر وخلني وهيامــي

أنا مستودع لسر حبيبــــي       كيف أبدي ولست بالنمامي (<!--)

 فبحثت عن البيتين في الكتاب بأكمله فلم أجدهما نهائياً!! وفي موضع آخر أجد المحققين يذكران أبياتاً بها عبارات مختلفة عما هو موجود في نسخة كتاب (كشف الأسرار) الفرنسية، منها عبارة (ذاك الحمى)، فوجدتها (ذاك اللوى) (<!--)، وفي موضع ثالث أجد المحققين يكتبان أبياتاً مقتبسة من نسخة باريس لكتاب (كشف الأسرار)، فاكتشف اختلافاً بين أرقام الصفحات المذكورة في المسرحية المحققة، وبين الأرقام الموجودة بالفعل في كتاب (كشف الأسرار) (

المصدر: الريادة الحائرة للمسرح العربي بين لبنان والجزائر – مجلة (كواليس) الإماراتية – عدد 33 – يناير 2013 – ص (86 – 93)
sayed-esmail

مع تحياتي ... أ.د/ سيد علي إسماعيل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 882 مشاهدة

ساحة النقاش

أ.د سيد علي إسماعيل

sayed-esmail
أستاذ المسرح العربي بقسم اللغة العربية - كلية الآداب جامعة حلوان »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

826,215