مقال مسرحي تأخر نشره 47 سنة
د.سيد علي إسماعيل
جامعة حلوان - مصر
ــــــــــ
كتب الناقد المرحوم فؤاد دوارة (1928 – 1996) – في مجلة (المجلة) - عام 1966 نقداً لكتاب أصدره في الكويت الراحل زكي طليمات (1894 -1982)! فردّ عليه طليمات بمقالة مضادة! وهذا أمر مألوف يحدث كل يوم بين الكُتّاب والنُقاد! لا سيما وأن مقالة فؤاد دوارة منشورة ومتاحة للقُراء منذ عام 1966! ولكن غير المألوف أن ردّ زكي طليمات .. غير منشور .. وغير مُتاح .. ولم يقرأه إنسان .. ولم يطلع عليه أحد حتى الآن منذ عام 1966!! وهذا هو الجديد .. الحديث عن موضوع كان من المفروض أن يُنشر منذ 47 سنة!!
بدايات فؤاد دوارة
بدأ فؤاد دوارة الكتابة النقدية عام 1948، عندما كان طالباً، وقد جمع بعض هذه الكتابات، ونشرها مع غيرها في كتابه (شعر وشعراء). وأول كتاب مسرحي أصدره فؤاد دوارة كان ترجمته لمسرحية (الحضيض) لمكسيم جوركي عام 1953. وأول مقالة نشرها في الدوريات، كانت بعنوان (أيها المثقفون .. خذوا الشعب إلى جانبكم)، وهي عن الأدب الشعبي، ونشرها في مجلة (الإذاعة) بتاريخ 20/7/1957. أما أول مقالة نقدية عن المسرح فكانت عن مسرحية (اللحظة الحرجة) ليوسف إدريس، ونشرها في مجلة (الإذاعة) بتاريخ 12/6/1958. وأول ترجماته المسرحية في الدوريات، كانت مسرحية (عالم بلا نهاية) للأمريكي بيرسيفال وايلد، ونشرها في مجلة (الشهر) في ديسمبر 1958. وأول كتاب غير مسرحي نشره دوارة كان عام 1958 بعنوان (سقوط حلف بغداد)!!
ومن خلال هذه البدايات التي ظهرت في أواخر خمسينيات القرن الماضي، وحتى وفاة فؤاد دوارة 1996، يستطيع القارئ تخيل الكم الهائل من الكتب والمقالات والدراسات التي نشرها دوارة، وهو كم من الصعب حصره أو الوقوف عليه بصورة دقيقة!! والمتتبع لكتابات دوارة النقدية، سيلاحظ أن أقوى فترة مرّت عليه في هذا المجال، هي فترة كتاباته وعمله في مجلة (المجلة)!!
صدرت مجلة (المجلة) في يناير 1957 بوصفها (سجل الثقافة الرفيعة)! وهذه العبارة لازمت ترويسة المجلة طوال أربعة عشر سنة، حيث كانت المجلة – بالفعل – سجلاً للثقافة العربية! وكيف لا تكون! وقد رأس تحريرها طوال هذه السنوات كل من: الدكتور محمد عوض محمد، والدكتور حسين فوزي، والدكتور علي الراعي، والأديب يحيى حقي! وآخر عدد حمل عبارة (سجل الثقافة الرفيعة) كان العدد رقم 166 في أكتوبر 1970، وهو العدد الذي رأس تحريره – لآخر مرة – يحيى حقي!! بعد ذلك حُذفت العبارة من ترويسة العدد التالي مباشرة، وتغير رئيس التحرير، وتغير الناشر، وتغيرت الإدارة، وتغير كل شيء .. إيذاناً بتوقفها الذي حدث - تقريباً - بعد العدد 178 في أكتوبر 1971.
ومجلة (المجلة) تألقت مسرحياً عام 1959، عندما رأس تحريرها الدكتور علي الراعي. وهذا التألق أغرى فؤاد دوارة لأن يكتب أولى مقالاته النقدية في هذه المجلة، وكانت عن الناقد الأدبي جوركي في فبراير 1960، وبعدها بأربعة أشهر نشر مقالته الثانية عن الروائي (دستويفسكي: حياته وأهم أعماله). أما أول مقالة مسرحية نشرها دوارة، فكانت نقداً تطبيقياً لمسرحية (شقة للإيجار) لفتحي رضوان في مايو 1961. ثم تنوعت جهوده – بعد ذلك – فنجده يُقدم الجديد من الكتب، ثم يكتب عن إليوت ومدرسته الأدبية، ويكتب عن مسرح يوجين أونيل. ومنذ يناير 1962 أصبح فؤاد دوارة محرراً لمجلة (المجلة)، وكان اسمه يُوضع بعد اسم الدكتور علي الراعي، ولم يتغير هذا الوضع عندما تغير رئيس التحرير من الدكتور علي الراعي إلى الأديب يحيى حقي.
نقد كتاب لزكي طليمات
في هذه الفترة ابتكر فؤاد دوارة باباً خاصاً به – ضمن أبواب مجلة (المجلة) - أطلق عليه عنوان (الصفحة الأخيرة) ابتداء من سبتمبر 1962، وتمثل مجهوده في هذا الباب في كتابة صفحة واحدة، هي الصفحة الأخيرة!! وهذه الصفحة لم تستمر طويلاً؛ حيث إن مجهود دوارة كناقد من الصعب ظهوره في صفحة واحدة، بل يحتاج صفحتين على الأقل، أي ورقة كاملة ذات وجهين، وهذا ما حدث بالفعل، عندما استبدل دوارة بابه الأثير (الصفحة الأخيرة) بباب آخر، هو (الورقة الأخيرة) ابتداءً من ديسمبر 1965؛ لذلك أرسل إليه زكي طليمات كتاباً ألفه - طليمات - في الكويت بعنوان (التمثيل .. التمثيلية .. فن التمثيل العربي)، وهو أول كتاب مسرحي تنشره الكويت، وأول كتاب يدرسه طلاب مركز الدراسات المسرحية في الكويت، ذلك المركز الذي تحوّل فيما بعد إلى المعهد العالي للفنون المسرحية الموجود حتى الآن في الكويت!!
وفي العدد رقم 116 من مجلة (المجلة) بتاريخ يونيو 1966، كتب فؤاد دوارة نقداً لهذا الكتاب في بابه (الورقة الأخيرة)، تحت عنوان (ما لا يستطيع غير زكي طليمات)!! بدأه بأهمية قيام المسرحيين بكتابة سيرهم الذاتية وتجاربهم المسرحية، وتاريخ مسرحهم، وضرب أمثلة بما قام به ستانسلافسكي، وجوردون كريج، وجورج فوكس، وآلمر رايس .. وتمنى أن يجد مسرحياً مصرياً يستطيع أن يقوم بما قام به هؤلاء الأعلام .. فوجده، وقال عنه: "لم أجد بين رجال مسرحنا المعاصر من يستطيع تحقيق هذه الأمنية مثل زكي طليمات، فهو الرجل الذي عاش أول فترة من تاريخ مسرحنا بالطول وبالعرض وبالعمق، وكان له أضخم الأثر في تنميته وتطويره، وتزويده بالخطط والقيم والمشروعات ..... فمن غيره إذن يستطيع أن يؤلف لنا مثل هذا الكتاب؟!".
ثم يفاجئنا دوارة بأن حديثاً سابقاً دار بينه وبين طليمات حول تأليف هذا الكتاب، قائلاً: " ما جلست إليه مرة [ يقصد زكي طليمات] إلا وألححت عليه في أن يكتبه، ولو في شكل حلقات تنشرها (المجلة)، فيسهل بعد ذلك جمعها في كتاب. وكنت دائماً أجد لديه الاقتناع والحماسة والرغبة في التنفيذ، بل لقد اعترف لي مرة أن أكبر أمنية في حياته اليوم أن تُتاح له فرصة التفرغ لتأليف هذا الكتاب، خاصة وأن نقاطه الرئيسية مدونة بالفعل في أربع مفكرات كبيرة يحتفظ بها في أدراج مكتبه".
ويتعجب دوارة من تراخي طليمات في تأليف هذا الكتاب، ويفند تبريرات طليمات غير المقنعة؛ حيث إن طليمات برر تراخيه أن وقته لم يسعفه لذلك، فهو يقوم بالتمثيل والإخراج ويشغل عدة مناصب إدارية وفنية يخدم بها المسرحين المصري والعربي، وهذا المجهود يحتاج عشرة رجال!! فيرد دوارة قائلاً: " باستطاعة تلاميذه العديدين أن ينهضوا اليوم بذلك كله مثله أو خيراً منه، أما تأليف هذا الكتاب فهو وحده الذي يستطيع النهوض به، وهو أكبر خدمة يستطيع أن يسديها اليوم لمسرحنا، لينفع به الجيل الحاضر والأجيال القادمة من العاملين بالمسرح".
ما سبق كان تمهيداً لنقد كتاب طليمات، حيث قال دوارة: " تلقيت أخيراً كتاباً من تأليف زكي طليمات، أرسله إليّ من الكويت حيث يعمل الآن مشرفاً عاماً على مؤسسة المسرح والفنون، فظننت أنه قد وفق إلى تحقيق أمنيتي وأمنيته، ولكن سرعان ما خاب ظني"!! فقد تفاجأ دوارة بأن الكتاب (كتاب مدرسي)!! ألفه طليمات بصورة تعليمية موجزة من خلال خيوط عريضة في تاريخ المسرح لتتناسب مع شباب الكويت، الذين يدرسون في مركز الدراسات المسرحية؛ حيث إن هذا الكتاب كان أول كتاب مسرحي دراسي مقرراً على طلاب المركز!!
وبالرغم من أن الكتاب (كتاب مدرسي)، إلا أن دوارة تناوله بالنقد، قائلاً: "وقد نأخذ على الكتاب هنة هنا وأخرى هناك، وهو أمر طبيعي بالنسبة لاتساع الرقعة التي تناولها، ومن ذلك مثلاً زعمه أن قصة (أوديب) وردت مفصلة في (الإلياذة)، مع أنها وردت في (الأوديسة) وبإيجاز شديد، أو قبوله للرأي الشائع بأن أرسطو قال بالوحدات المسرحية الثلاث، في حين أنه لم يقل في حقيقة الأمر إلا بوحدة الموضوع فقط".
وبخلاف هذين الأمرين – قصة أوديب والوحدات الثلاث في هذه العبارات المقتضبة - لم يتعرض دوارة للكتاب نهائياً؛ لنجده يعود من حيث بدأ مقالته، قائلاً: " وبالرغم من ذلك أعود فأقول إن الكتاب قد خيب ظني، فكما يستطيع أي تلميذ من تلاميذ زكي طليمات أن يباريه اليوم في الإخراج والتمثيل، يستطيع أيضاً أن يؤلف مثل هذا الكتاب، فإن لم يستطع، فإن أي ناقد مسرحي جاد يستطيع أن ينهض بهذا الواجب على خير وجه، أما ما لا يستطيع أن يكتبه إلا زكي طليمات فهو تاريخ مسرحنا كما عاشه ولمسه عن قرب. وقد صارحته بهذا الرأي في إحدى رسائلي إليه، فجاءني رده يقول: .. التاريخ الدقيق لمسرحنا، يستلزم أمر كتابته تفرغاً تاماً، وهو في قيام المسرحية وتطورها غير تتبع أطوار الحركة المسرحية، وغير تسجيل انطباعاتي وذكرياتي .. وإني لأدعو الله أن ييسر أمر إنجاز هذه المهمة. وقد انتهى إليّ أخيراً بأن لجنة المسرح في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب قد رشحتني بالإجماع لأن أتولى عمل (موسوعة) للمسرح العربي قديماً وحديثاً، على أن تمنحني (تفرغاً) لإنجاز هذه الموسوعة، فهل انتهى إليك أمر هذا الخبر؟؟ إنني أرحب بهذه المهمة، ومستعد أن أترك الكويت بعد أن امتلأت أوعيتها وطاقتها بمفاهيمي المسرحية، ولم يعد هناك مكان وفراغ ليمتلئ بما عندي. وقد وفقت والحمد لله في تقديم طلبة المعهد إلى الجمهور في حفلات عامة لمدة أربعة أيام من 23/4/1966 إلى 26، قدموا فيها فصلين من مسرحية (مجنون ليلى) لأحمد شوقي، ثم مسرحية كوميدية فكاهية باللهجة الإقليمية. ولأول مرة يسمع الجمهور الكويتي شعراً معبراً يجري على السنة ممثلين يخضعون التفاعيل والأوزان لمقتضيات المعاني، ولا يجري الشعر على ألسنتهم إنشاداً مفخماً منتعشاً..".
ويُعلق فؤاد دوارة على خطاب طليمات؛ بأنه لا يعلم بقرار اختياره لكتابة موسوعة المسرح العربي، ويستند على خطاب طليمات في توجيه رسالة إلى الوزارة، جعلها دوارة خير ختام لمقالته، قال فيها: " أرجو أن تسارع وزارة الثقافة إلى تنفيذه [أي قرار قيام طليمات بكتابة موسوعة المسرح العربي] قبل أن يعود زكي طليمات لتجديد عقده مع حكومة الكويت، وإن لم تكن قد اتخذته حتى الآن، فلست أرى ما يمنعنا من اتخاذه متى فطنت إلى أهميته وجدواه .. إن لم يكن تكريماً لهذا الرائد الكبير ولجهوده الضخمة في خدمة مسرحنا، فحرصاً منها على تاريخ مسرحنا وتسجيل مراحل تطوره ونمائه، وهو فيما أعتقد من أهم واجباتها ومسئولياتها".
انتهت مقالة دوارة، وبعد نشرها بعدة أيام، كتب زكي طليمات رداً عليها في ثلاث صفحات بتاريخ 12/6/1966، وأرسله إلى دوارة على أمل نشره في العدد التالي (يولية 1966)!! وصدر العدد التالي ولم نجد رد طليمات!! وصدر العدد تلو الآخر دون أن نجد ردّ طليمات!! وانتهت السنة دون نشر الرد!! وتوقفت المجلة بعد خمس سنوات من مقالة دوارة، دون أن تنشر رد طليمات!! ويشاء القدر أن أحصل على الصورة الكربونية من رد زكي طليمات ضمن وثائق المسرح الكويتي، التي نشرت جزءاً يسيراً منها في أربع حلقات بمجلة (كواليس) – طوال عام 2010 – ولأهمية هذه الوثيقة فنياً وتاريخياً، سأوردها كاملة بنصها وبشكلها المكتوب – قبل أن أعلق عليها ببعض الملاحظات - لأنها مقالة كان يجب نشرها عام 1966؛ ولكنها تأخرت في النشر 47 سنة (فقط)!!
زكي طليمات يرد
حول (الذي لا يقدر عليه غير زكي طليمات)
" نشرنا في العدد ..... من هذه المجلة نقداً تحت هذا العنوان، وننشر الرد عليه من جانب زكي طليمات"
المحرر
قرأتك في مجلة (المجلة) وقد تفضلت فتناولت كتابي ((التمثيل والتمثيلية وفن التمثيل العربي)) تناولاً نقدياً دقيقاً وكريماً.
وأبادر بإزجاء الشكر إذ خصصتني باهتمامك في تقييم هذا الكتاب والكشف عن هنّات فيه، كما أذكرتني بما يجب أن يكون له قلمي في هذه الآونة، وهو إعلاء الأهم على المهم فيما يتناوله، والأهم هو كتابة انطباعاتي عن حياة عريضة وطويلة لي في المسرح المصري (العربي) هذا في حين أن ما هو دون الأهم، هو كتابة هذه المصنفات الأكاديمية التي بدأتها بكتابي السابق الذكر ...
وكل هذا من إيجابية النقد ومن صميم مهمته.
وآخذ بشيء من التفصيل بعد هذا الإجمال فأقول، أو بالأحرى أجري توضيحاً لوجهات نظري فيما أخذته عليّ:
(أولاً): حق إن أسطورة (أوديب) لم ترد في صلب الإلياذة، وإنما جاءت في ملحقها، وهو الأوذيسة.
وإذا كنت قد نسبت هذه الأسطورة إلى الإلياذة ولم أشر إلى الأوذيسه، فقد أتيت هذا من باب إطلاق الكل على الجزء، وبالأخذ بالتعميم دون التخصيص، باعتبار أن الأوذيسة تؤلف الفصل الأخير من الإلياذة، أي أن كلتيهما تنتسب لمؤلف واحد وهو هوميروس، وما الأوذيسة إلا تكملة لسيرة عولس (أوليس) أحد أبطال الإلياذة، وذلك بعد أن انتهت حرب طروادة وأبلى فيها، ثم ركب البحر عائداً إلى وطنه.
هذا وأظنك توافقني على أن هوميروس معروف بالإلياذة أكثر مما هو معروف بالأوذيسة ....
هذا، وغير خاف عليك أن هناك نفراً من المؤرخين ينكرون نسبة كتابة الإلياذة إلى هوميروس نفسه، ويرون أن الإلياذة والأوذيسة إنما هما نتاج أقلام عدة مجهولة أسماء أصحابها.
وهناك رأي آخر يضع نقاطاً على حروف، وهو أن أسطورة أوديب، وردت أول ما وردت في ملحمة صغيرة لشاعر أفريقي اسمه (سيناتون CINETHON) عاش في القرن الثامن من قبل الميلاد (صفحة 907 من الجزء السابع لدائرة المعارف الفرنسية لاروس)، واسم هذه القصيدة هو (OEDIPODIE) نسبة إلى أوديب ومعنى هذا، أن الأب الشرعي الأول لأسطورة أوديب ليس هوميروس وليست الأوذيسة!!
والسبب المباشر لهذا الخلط والتحريف في إنزال الأمور منازلها الصحيحة، هو أن ذلك العهد الذي نتحدث عنه موغل في القدم وكان الرواة هم الوسيلة الوحيدة لحفظ أحداثه وأخباره، وشد ما يختلف الرواة.
وقد نتسآل، وهو تساؤل مشروع، ولماذا لم آخذ بالاحتمال المرجح في هذه النقطة بالذات فأنسب أسطورة (أوديب) إلى الأوذيسة رأساً بل أخذت بالاحتمالات الواسعة الرحاب التي تتضمن آراء مختلفة قد يناهض البعض فيها بعضها الآخر .... وجوابي أنني منذ أخذت في ذلك الكتاب ملأني حرص شديد في ألا أثقل على الطلبة بذكر فيوض من الأسماء الأجنبية التي لم تصل إلى مسامعهم من قبل، وذلك خشية أن ينفروا من قراءة ذلك الكتاب، وبالأحرى أن يكرهوا هذا اللون الجديد من الثقافة الفنية ... فالدافع إلى هذا التورط، إذا صح أنه تورط، إنما هو رغبة شديدة في التيسير .... وهذا كله ولا شك من أضعف الإيمان ... ولكنه ضرورة فيما أنا بصدده.
(ثانياً): الوحدات الثلاث
أجل لقد أخذت في نسبتها إلى (المعروف والشائع) على ما هو مشوب بالظن، ولم آخذ بالصواب القاطع الذي لا يعرفه غير الأخصائيين، فقلت إنها تنتسب إلى (أرسطو) ... هذا في حين أن (أرسطو) لم يعترف إلا بوحدة واحدة من هذه الثلاث، وهي (وحدة الموضوع) أو (وحدة العمل ACTION)، أجل أتيت هذا، لاقتناعي بأن الأخذ بالخطأ الشائع المعلوم يكون (أحياناً) خيراً من الأخذ بالصواب المجهول إذا خيف منه إرهاق الذهن من جانب الطلاب، والبلبلة، والتمزق الفكري.
وأكرر ما سبق أن ذكرته، وهو أنني، فيما أصدرت في ذلك الكتاب، تقيدت منذ البداية بأن أتناول الموضوع في خطوط عريضة، وفي يسر، وفي كل ما يبعد الإرهاق، والبلبلة عن دارسه أو قارئه، إنني لم أكتب للأخصائيين والجهابذة.
(ثالثاً): أنت محق كل الحق في ألا أبعثر جهودي بالكتابة في مواضيع أكاديمية يمكن لتلاميذي أن يخوضوا فيها بسهولة وكفاية، وأن الخير كل الخير في أن أتفرغ لكتابة مذكراتي، ثم كتابة تاريخ المسرح المصري الذي عشته أربعين عاماً .... إلا أنني أصارحك، بأن حيرة تساورني في هذا الصدد!! وإني أسألك، أيهما أجدى، ويسد فراغاً في ثقافة مسرحنا وفي سبيل تقييمه: كتابة مذكراتي؟ أو كتابة تاريخ المسرح المصري؟!
لقد تلقيت منذ أسبوعين عرضاً من السيد رئيس مجلس إدارة شركة الدار المصرية للتأليف والترجمة بتأليف كتاب في (تاريخ المسرح المصري) ..... ولكنني أقرر – ويا للأسف – إن كتابة مذكراتي، أو كتابة تاريخ مسرحنا المصري، أمر لا أقدر عليه، وأنا أعمل في الكويت عملاً متصلاً يأكل كل وقتي وجهدي وليس عندي وقت أعيش فيه بعين الماضي، أسترجع الأحداث، وأستعيد الرؤى، وأستخرج ما يفيد الجيل الصاعد.
إنني ما زلت حتى الساعة أصنع تاريخ المسرح العربي في أقطار الوطن العربي، والذي يصنع التاريخ قلما يجد وقتاً ليكتبه أو بالأحرى ليؤرخ لنفسه من حيث يشعر ولا يشعر.
(رابعاً): أؤكد لك ما سبق أن كتبت فيه إليك، وهو أنني مستعد لأن أترك عملي في الكويت لأكون لمهمة لا تقل أهمية عنه، بل ربما يتجاوزه في الأثر العام وهو كتابة موسوعة للمسرح العربي عامة، وكتابة تاريخ للمسرح المصري، إنني مستعد أن أترك مهمتي في الكويت، إذا منحني المسئولون في ج.ع.م - [اختصار لعبارة: الجمهورية العربية المتحدة أي مصر] – منحة التفرغ وهي منحة مهما كبرت قيمتها النقدية، فلن تساوي ثلث ما أتقاضاه من دولة الكويت حيث أعمل مشرفاً عاماً لمؤسسة المسرح والفنون، وعميداً لمعهد التمثيل.
ويبقى شكر عميق أكرره وأؤكده، لما خصصتني به من تقدير بمناسبة كتابي (التمثيل، التمثيلية، فن التمثيل العربي) وهو تقدير تجلى في نقد موضوعي بنّاء جرى به قلمك البارع وجمع إلى دقة الصائغ، وحرص الصيرفي، كرم الفنان وسماحته.
زكي طليمات
12/6/1966
ملاحظات
1 – تكرر في مقالة دوارة وردود وخطابات طليمات الحديث عن فكرة قيام زكي طليمات بكتابة عمل ضخم للمسرح؛ تارة نجده (موسوعة للمسرح)، وتارة أخرى نجده (تاريخاً للمسرح)، وتارة ثالثة نجده (مذكرات وانطباعات)!! والحقيقة التاريخية تقول: إن زكي طليمات لم يكتب – طوال تاريخه – موسوعة للمسرح، أو تاريخاً للمسرح!! ولكنه كتب (انطباعات) نشرها في كتابين: الأول (فن الممثل العربي: دراسة وتأملات في ماضيه وحاضره)، وألفه طليمات أثناء عمله في الكويت، ونشره عام 1971. والكتاب الآخر (ذكريات ووجوه) 1981. والحقيقة التي لا يعلمها كثيرون أن زكي طليمات له مذكرات بالفعل؛ ولكنها لم تخرج إلى النور حتى الآن!! وهي مذكرات بصوته مُسجلة على أشرطة (كاسيت)، رأيتها محفوظة في المركز القومي للمسرح في مصر، وهذه الأشرطة لم تُفرغ ولم تُنشر حتى الآن، وقد استمعت إلى أجزاء منها داخل المركز القومي للمسرح عام 1995!!
2 – مرّ علينا اقتراح فؤاد دوارة، الذي اقترحه على طليمات بأن يكتب مذكراته وانطباعاته وتاريخه المسرحي في شكل حلقات، وسوف ينشرها له دوارة في مجلة (المجلة) في حلقات، ومن ثم تُجمع فيما بعد في كتاب!! ولو وافق طليمات – في عام 1966 – على هذا الاقتراح، لكان طليمات أول مؤرخ للمسرح العربي .. لو وافق!! وهذا التمني – غير المجدي الآن – يعكس لنا مدى صدق دوارة وإخلاصه في عمله، لا سيما مقترحاته المخلصة للأدباء والكُتّاب!! فاقتراحه المخلص وإن لم ينجح مع طليمات؛ إلا إنه نجح مع آخرين، أمثال: الدكتور علي الراعي، والأديب يحيى حقي!! وفي ذلك يقول الراعي تحت عنوان (فؤاد دوارة عاشق المسرح الرصين) في مجلة (المصور) 7/4/1989: "عرفت فؤاد دوارة منذ أواخر الخمسينات، وعملنا معاً أثناء رئاستي لتحرير مجلة (المجلة) وأذكر له في تلك الحقبة فضلاً كبيراً عليّ، فقد كنت أكتب في صحيفة (المساء) ومن بعد في (المجلة) فصولاً عن الرواية المصرية، فلما انتهيت منها وقفت حائراً ماذا أفعل بها؟ وكان الاتجاه الغالب عليّ أن أكتفي بظهورها على شكل مقالات. غير أن فؤاد دوارة كان له رأي آخر. أصرّ على أن أجمعها في كتاب وأخذ على عاتقه أن يرتب الفصول، وأشار عليّ باستكمال نقص هنا وهناك. فلما خرج الكتاب للناس بعنوان (دراسات في الرواية المصرية) ولقى ترحيباً بين النقاد والدارسين والقراء، أدركت كم كان فؤاد دوارة حكيماً ومخلصاً في نصحه. وهما خصلتان محمودتان أبداهما فيما بعد في تعامله مع مقالات أستاذنا يحيى حقي الأولى، فقد أصرّ – مرة أخرى – على أن تُجمع هذه المقالات وتصبح كتباً. ولو دققنا النظر في الحالتين لوجدنا وراءهما حب فؤاد دوارة الذي لا يفتر للتوثيق والتسجيل".
3 – اعترف زكي طليمات في ردّه إنه نسب أسطورة (أوديب) إلى الإلياذة بدلاً من الأوديسة، واعترف أيضاً بأن أرسطو لم يتحدث عن الوحدات الثلاث؛ بل تحدث فقط عن وحدة الموضوع. وهذان الموضعان صححهما له دوارة – بصورة علمية كما مرّ بنا – وقد حاول طليمات تبرير موقفه بصورة غير مقنعة، لا سيما تبريره بأنه ألفّ الكتاب لطلاب مركز الدراسات المسرحية في الكويت، ولم يرد أن يثقل عليهم، بل أراد تيسير المعلومات، حتى ولو كانت خاطئة وشائعة، فهذا أفضل من صحتها المجهولة، التي لا يعرفها غير المتخصصين، خصوصاً وأنه لم يكتب الكتاب (للأخصائيين والجهابذة)!! وهنا أخالف طليمات؛ لأنه كتب الكتاب للأخصائيين والجهابذة قبل أن يكتبه للطلاب!! فقد اطلعت على وثيقة – مؤرخة في 21/5/1966 - تثبت أن هذا الكتاب، نشرته الكويت أملاً في انتشاره خارج الكويت، وصولاً إلى بقية الأقطار العربية!! بل وقامت الكويت بتوزيع 200 نسخة منه على المكتبات الوطنية العامة في الوطن العربي، وعلى مكتبات الجامعات العربية، وعلى كبار الصحافيين والنقاد ... إلخ!! فهل اهتمام الكويت – وكذلك طليمات - بهذا الكتاب بهذه الصورة، كان اهتماماً لأنه كتاب مدرسي للناشئة؟!!
وأختتم هذا الموضوع بسؤال: لماذا لم ينشر فؤاد دوارة ردّ زكي طليمات؟! قبل الإجابة على هذا السؤال، يجب الإقرار بأن الصداقة الحميمة بين فؤاد دوارة وزكي طليمات – في هذه الفترة – كانت قوية، بدليل الرسائل المتبادلة بينهما، كما أوضحت المقالة، وكما جاء في ردّ طليمات. وربما هذه الصداقة الحميمة، كانت السبب في عدم قيام دوارة بنشر ردّ صديقه طليمات؛ لأن نشر الردّ سيقلل من قيمة زكي طليمات العلمية؛ لأن الردّ يثبت أن فؤاد دوارة كان أدق علمياً من زكي طليمات!! كما أن نشر الردّ سيقلل من قيمة الكتاب، وهو كتاب فريد في وقته وموضوعه، وكانت الصحف تتناوله بكل تقدير، وكانت الكويت تفخر به فخراً كبيراً، بل أن رواد المسرح الكويتي حتى الآن – أمثال: مريم الصالح، أمين الحاج، فؤاد الشطي، أحمد مساعد - يفتخرون بأنهم درسوا هذا الكتاب على يد مؤلفه وأستاذهم زكي طليمات!! كما أن عدم قيام دوارة بنشر الرد، يثبت بوضوح سمو أخلاقه كناقد؛ حيث إن نشر الردّ سيرفع قدره أمام المجلة والقُراء، ويثبت أنه أدق علمياً من طليمات، وهي فرصة ثمينة لأي ناقد؛ ولكن ناقدنا ليس كأي ناقد .. إنه فؤاد دوارة!!
ساحة النقاش