الصهيونية وريادة صنوع للمسرح
الموقف من ريادة يعقوب صنوع (المزعومة) للمسرح العربي في مصر منذ عام 1870 إلى 1872م، يُعدّ أقوى مثال لتطبيق مقولة (إننا شعب لا يقرأ)! فمن يريد أن يتعرف على تاريخ المسرح المصري؛ لا بد أن يقرأ عبارة (يعقوب صنوع هو رائد المسرح العربي في مصر)!! وهذه المقولة (كاذبة) بكل المعاني .. وقد فندتها في كتاباتي منذ عام 1997، وحتى الآن ([1])!! وعلى الرغم من كثرة ما كتبته في هذا الموضوع، لم يردّ عليّ أحد بأي دليل أو وثيقة تنفي ما توصلت إليه! والوحيد الذي حاول ذلك، كان المرحوم الدكتور محمد يوسف نجم؛ ولكنه – بكل أسف – لم يستطع إعادة صنوع إلى ريادة المسرح العربي في مصر، تلك الريادة التي يحاول الكيان الصهيوني تثبيتها والإصرار على وجودها المزعوم، أمام أبحاثي التي أطاحت بتاج هذه الريادة من على رأس يعقوب صنوع!! وإليك عزيزي الطالب خلاصة هذا الموضوع!!
عبارة "يعقوب صنوع رائد المسرح العربي في مصر"، هي العبارة الوحيدة التي لازمت سيرة صنوع في جميع المقالات، والدراسات، والكُتب، والرسائل الجامعية، ووسائل الإعلام العربية والعالمية حتى الآن! وهذه الريادة لم يذكرها إنسان إلا صنوع نفسه في كتاباته، أو في كتابات أصدقائه، أمثال: بول دي بينيير، وجاك شيلي، وإيميه فانترينييه، وهذه الكتابات ما هي إلا كتابات صنوع نفسه! أي أن صنوعاً، هو مصدرها الوحيد!
وريادة صنوع المزعومة للمسرح العربي في مصر، مرت بمرحلتين: الأولى قال فيها صنوع بالريادة في صحفه عام 1879م دون تفصيل، أو شرح، أو توضيح! وفجأة في عام 1902م – تبعاً لأقواله في مقالة جاك شيلي – ألقى محاضرة – وهي نص المقالة – شرح فيها كافة تفاصيل ريادته للمسرح العربي! فعلمنا أنه أنشأ المسرح العربي عام 1870م، عندما قام خيري باشا بتقديم مسرحيته الأولى إلى الخديوي إسماعيل، الذي وافق على تمثيلها وصرّح لصنوع بافتتاح مسرحه، فقام صنوع بعرض مجموعة من المسرحيات أمام الخديوي إسماعيل – تبعاً لأقوال صنوع نفسه – وأن صنوعاً ألفّ اثنتين وثلاثين مسرحية، وكوّن فرقتين مسرحيتين ضمّتا فتاتين، وعرض مسرحيته (الضرتين) 53 مرة، ومسرحيته (آنسة على الموضة) 100 مرة، وبلغت عروضه في عامين أكثر من 300 ليلة عرض، وكانت الجماهير تحضر بالآلاف، وظل مسرحه يعمل حتى أمر الخديوي إسماعيل بإغلاقه عام 1872م.
وبناءً على هذه المعلومات والأرقام - وبعيداً عن أقوال صنوع وأصدقائه - أطرح على القارئ هذا اللُغز، في صور أسئلة: كم إعلان حصلنا عليه لمئات عروض صنوع المسرحية؟ وكم مقالة – مادحة أو قادحة – نُشرت عن هذه العروض المسرحية؟ وكم صحفي أدلى برأيه في هذه العروض؟ وكم وثيقة وجدناها تتعلق بهذا النشاط المسرحي الريادي؟ وكم وثيقة وجدناها تتعلق بإنشاء أو بإغلاق هذا المسرح؟ وكم حوار وجدناه منشوراً لأعضاء فرقتي صنوع المسرحية؟ وكم مقالة نُشرت لمدح – أو ذم - أول فتاتين مصريتين تعملان في المسرح؟ وكم .. وكم .. وكم .. عزيزي القارئ إليك الإجابة: لم نجد سطراً واحداً منشوراً، يُجيب - من قريب أو من بعيد - على سؤال واحد من هذه الأسئلة، طوال الفترة ما بين عامي (1870 – 1872م)، وهي فترة نشاط مسرح صنوع، تبعاً لأقوال صنوع نفسه!!
وربما يتعجب القارئ، فيسأل: إذا كانت هذه هي الحقيقة، فكيف كُتبت المقالات والدراسات والكتب ورسائل الماجستير والدكتوراه عن مسرح صنوع؟! سأجيبه قائلاً: كل هذه الدراسات اعتمدت فقط على أقوال صنوع وأصدقائه! وربما يسأل القارئ مجدداً: ألا تُعتبر مسرحيات صنوع، التي نشرها الدكتور محمد يوسف نجم في بيروت عام 1963م، دليلاً على نشاطه المسرحي؟! سأجيبه قائلاً: هذه النصوص أول من حصل عليها – في كراسة مخطوطة - كان الدكتور إبراهيم عبده عام 1953م من ابنة صنوع (لولي)، ثم انتقلت إلى الدكتور أنور لوقا، الذي شرح موضوعاتها عام 1961م، ثم انتقلت إلى الدكتور محمد يوسف نجم، الذي نشرها ونسبها إلى صنوع عام 1963م .. وحتى الآن لم يستطع باحث واحد إثبات نسبتها إلى صنوع؛ لأنها خالية من أي توثيق أو بيانات، بل أن خطها ليس خط صنوع!
وربما آخر سؤال من الممكن أن يُطرح في هذا الشأن، يقول: ما هو موقف الكتابات العربية المنشورة عن ريادة المسرح العربي في مصر؟ الإجابة تقول: إن رائد المسرح العربي في مصر، هو سليم خليل النقاش اللبناني! والدليل على ذلك قوله في مقدمة مسرحيته (ميّ) المنشورة عام 1875م، إنه سيخدم الخديوي إسماعيل " بإدخال فن الروايات في اللغة العربية إلى الأقطار المصرية ". وقول مجلة الجنان في يولية 1875م " بأن الحضرة الخديوية السنية قد اهتمت بإنشاء روايات عربية .... ولذلك صممت على إنشاء الروايات العربية " وأن يقوم بهذه المهمة في مصر سليم النقاش. كذلك نجد مجلة الجنان في أغسطس 1875م، تنشر مقالة بقلم سليم النقاش قال فيها عن الخديوي إسماعيل: ".. بلغت فوق ما تمنيت من أفضال جنابه العالي وأحسن إليّ بقبول طلبي وذلك بأن أدخل فن الروايات باللغة العربية إلى الأقطار المصرية ". هذه هي الأقوال المنشورة أثناء وجود صنوع في مصر!!
أما بعد سفر صنوع إلى فرنسا – وليس سفره منفياً كما قال في كتاباته - فنجد قول محمود واصف - في مقدمة مسرحيته (عجائب الأقدار) المنشورة عام 1895م - " إن فن التشخيص بلغتنا العربية لم يدخل إلى بلادنا المصرية إلا منذ عهد قريب على يد طيب الذكر سليم أفندي النقاش ". وقول مجلة الهلال – ديسمبر 1896م – " لم يدخل فن التمثيل العربي إلى هذه الديار إلا في أواخر حكم المغفور له الخديوي إسماعيل باشا، وأول من مثل رواية تشخيصية فيها المرحومان أديب إسحاق وسليم نقاش ". وقول جريدة الأخبار – في 4/1/1912 – " هيهات أن ننسى الأديبين الكبيرين المرحومين سليم النقاش وأديب إسحاق اللذين أخرجا فن التمثيل إلى عالم الوجود في مصر ". هذه هي الأقوال المنشورة، حتى وفاة صنوع في فرنسا عام 1912!!
والمستغرب أن الأقوال لم تتغير، حتى بعد وفاة صنوع، فنجد مثلاً قول جورج طنوس – في كتابه الشيخ سلامة حجازي وما قيل في تأبينه، المنشور عام 1917م – " ظهر التمثيل العربي في هذه الديار. وكانت نشأته الأولى في الإسكندرية على أيدي الأديبين الشهيرين إسحاق والنقاش ". وقول محمد تيمور عام 1919م – في كتابه حياتنا التمثيلية – " أتانا التمثيل ... وأول من جاءنا به قوم من فضلاء السوريين أمثال النقاش وأديب إسحاق والخياط ... ولقد نجحوا في بناء أساس ذلك الفن نجاحاً كبيراً ... وأنشئوا بأيديهم فن التمثيل في مصر". وكذلك قول خليل مطران – في مجلة الهلال 1/2/1921 – " المرحوم سليم النقاش ... أول من أنشأ فرقة للتمثيل بمصر باتفاق بينه وبين الحكومة ". وقول محمد فاضل في كتابه الشيخ سلامة حجازي، المنشور عام 1932م – " كان ظهور هذا الفن في مدينة الإسكندرية، حيث كانت أصونة الأدباء إسحاق والنقاش والخياط مخيمة في ميدان المنشية ". وقول أحمد شفيق باشا في مذكراته عن التمثيل " ثم بدأت تفد على مصر بعض الفرق السورية، فكان ذلك منشأ المسرح العربي الأهلي، وأولى هذه الفرق هي فرقة سليم النقاش". وما جاء في عدد جريدة الأهرام التذكاري عام 1950م " أما التمثيل العربي، فقد حمل لواءه إخواننا السوريون وعلى رأسهم سليم نقاش ". وقول عبد الرحمن صدقي في مجلة الكتاب، يناير 1951م " كانت بداية المسرح في مصر الحديثة في الشطر الثاني من القرن التاسع عشر على عهد الخديوي إسماعيل ... ثم كان على يديه مطلع التمثيل العربي ... حين وفدت فرقة للتمثيل العربي من لبنان قوامها سليم النقاش وأديب إسحاق ويوسف خياط "!! يا تُرى أين رائد المسرح يعقوب صنوع من هذه الأقوال؟!
هذه هي رؤيتي لمسرح صنوع! وستظل حياة صنوع ومسرحه عُرضة للتأويلات، والتفسيرات، ومختلف الاحتمالات المتنوعة، طالما نفتقد الأدلة التي تؤيد أقوال صنوع وإدعاءاته. وسيظل صنوع هدفاً لأسنة أقلامي، حتى يظهر الدليل القاطع المانع، الذي يُبعده عن مرمى هذه الأسنة. فليس هدفي التشكيك في حياة صنوع، أو أنشطته المتنوعة، أو ريادته للمسرح العربي في مصر، بل هدفي، هو كتابة تاريخ المسرح المصري بصورة علمية صحيحة، بغية الوصول إلى الحقيقة، الواجب إثباتها وتسجيلها في عقول الدارسين، حتى يأخذ كل إنسان حقه من التقدير العلمي والتاريخي! فشهرة صنوع جابت الآفاق، وكُتب عنه ما لم يُكتب عن غيره، وسيرته أصبحت مثلاً يُحتذى! ثم أكتشف أخيراً أنها سيرة مرجعها الوحيد صاحبها!
وإذا كنت قد أوضحت رؤيتي في حياة صنوع ومسرحه، فهذا جهدي المتواضع - ربما أكون مُصيباً فيه، أو مُخطئاً - متمنياً أن يستكمله الباحثون في مجالات أخرى. فمثلاً أدعو المتخصصين في مجال تاريخ التعليم في مصر – بعيداً عن أقوال صنوع في مذكراته وصحفه، وكتابات أصدقائه – البحث عن اسم يعقوب صنوع، بوصفه تلميذاً أو أستاذاً أو مفتشاً، سواء في مدرسة المهندسخانة، أو في أية مدرسة أخرى. كما أدعو المتخصصين في مجال تاريخ أسرة محمد علي باشا الكبير، البحث عن روفائيل صنوع – والد يعقوب صنوع – بوصفه موظفاً أو مستشاراً لفرد من أفراد أسرة محمد علي. وأدعو كذلك المتخصصين في مجال الجمعيات الأدبية والسياسية والمحافل الماسونية، ربما يجدوا اسم صنوع ضمن أعضائها. وربما هذه الدراسة، تُثير حفيظة المتخصصين في تاريخ الخديوي إسماعيل، فيبحثون عن دور صنوع في حياته. أو المتخصصين في مجال القوانين والأوامر والفرامانات، ربما يجدوا أوامر إغلاق مسرح صنوع، أو مصادرة جريدته، أو نفيه. كذلك المتخصصين في تاريخ الثورة العُرابية، ربما يجدوا دوراً لصنوع فيها، أو تأثيراً له على زعمائها. وأخيراً أدعو المتخصصين في تاريخ اليهود المصريين البحث عن اسم يعقوب صنوع الحقيقي، ومعرفة تاريخ مولده، وعمله، ونشاطه، وجنسيته!!
أما ريادة صنوع للمسرح العربي في مصر، من عام 1870 إلى 1872م، فلا مجال لحسمها عن طريق التأويل، أو التفسير، أو التخمين! بل يجب حسمها – بعيداً عن أقوال صنوع وكتاباته، وكتابات أصدقائه - عن طريق الدليل القاطع المانع المنشور في مدة (1870-1872م) – وأن يشتمل هذا الدليل على عبارات واضحة عن المسرح، وأن يُذكر فيه – صراحة - اسم (يعقوب صنوع)، أو (صنوع)، أو (James Sanua)، أو (Sanua). وهذا الدليل ربما يوجد في: الوثائق العربية، أو التركية، أو الصحف العربية، أو الصحف الأجنبية، أو المذكرات، أو اليوميات، أو كتابات الرحالة ... إلخ. ومن وجهة نظري، هذا الدليل – ربما – يظهر في حالات ثلاث – بكل أسف - لم أستطع تحقيق إحداها .. حتى الآن :
الأولى: الحصول على عددي جريدة (نزهة الأفكار)، التي أصدرها - في أغسطس عام 1870م - محمد عثمان جلال، وطُبعت في مطبعة جمعية المعارف، لصاحبها إبراهيم المويلحي، لا سيما أن محمد عثمان جلال من كُتّاب المسرح الأوائل – ويُقال إنه على علاقة بصنوع، كما جاء في مقال جاك شيلي - والآخر إبراهيم المويلحي، ذُكر اسمه كثيراً في الخطابات، التي نشرها شامويل موريه في دراسته عن صنوع. وهذا يعني أن الجريدة، ربما تكون ذكرت مسرح صنوع، لا سيما وأنها صدرت في أول أعوام نشاط مسرح صنوع 1870م، تبعاً لأقوال صنوع في كتاباته!
الثانية: الحصول على بقية أعداد مجلة (وادي النيل) بعد عام 1871م، لعلنا نجد أخباراً عن مسرح صنوع العربي – لأننا لم نجد هذه الأخبار في أعداد المجلة المتوفرة في عامي 1870 و1871م. فهذه المجلة كانت مهتمة بجميع الأنشطة الفنية، لا سيما المسرح. هذا بالإضافة إلى أن صاحبها عبد الله أبو السعود من المسرحيين القُدامى، والمُعرّب الأول لأوبرا (عائدة) عام 1871م.
الثالثة: الحصول على جميع أعداد جريدة (الجوائب) في المدة (1870-1872م)، التي كان يصدرها أحمد فارس الشدياق في الأستانة، حيث إنها كانت تنشر أخبار المسرح، فقد ذكرت خبراً عن رجل إنجليزي اسمه (جيمس)، مثّل مسرحية عربية في الأزبكية لأول مرة عام 1872م! وبعض الدارسين ظنوا الخبر يخصّ مسرح صنوع العربي، وفاتهم أن مسرح صنوع أُغلق عام 1872م - تبعاً لأقواله – فكيف يكون تاريخ أول عرض مسرحي عربي لجيمس الإنجليزي، هو نفسه تاريخ آخر عرض لجيمس سنوا، أو (يعقوب صنوع)؟! لذلك يجب الاطلاع على أعداد جريدة (الجواب)، لتتبع هذا الخبر، وغيره، ربما نكتشف الرائد الحقيقي للمسرح العربي في مصر!
([1])- ومنها على سبيل المثال: محاكمة مسرح يعقوب صنوع - الهيئة المصرية العامة للكتاب - 2001م، وملحق بعنوان (استئناف محاكمة مسرح يعقوب صنوع) المنشور في نهاية كتابي: مسيرة المسرح في مصر (1900-1935م): الجزء الأول (فرق المسرح الغنائي) - الهيئة المصرية العامة للكتاب - 2003م، ومقدمتي لكتاب فيليب سادجروف السابق، وتعليقاتي على فصل مسرح يعقوب صنوع في الكتاب نفسه، ودراستي (أسطورة لاعب القراقوز) في مقدمة كتاب (ألبوم أبو نظارة يعقوب صنوع) لبول دوبنيير - ترجمة د.حمادة إبراهيم - وزارة الثقافة - المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية - 2008م، والكتاب الأخير تتوفر منه نسخة ألكترونية في الإنترنت، يُمكن تحميلها من خلال هذا الرابط:
http://kenanaonline.com/users/sayed-esmail/topics/66460/links/5006
ساحة النقاش