مسارح الأزبكية

من الملاحظ أن جميع الكتابات التي تحدثت عن الأزبكية، أو عن مسارحها، لم تتحدث إلا عن مسرح الكوميدي الفرنسي، ودار الأوبرا الخديوية، واعتبرت هذه الكتابات أن هذين المسرحين هما وسيلتا الترفيه الوحيدتين في مصر في القرن التاسع عشر، وبالأخص للجاليات الأجنبية. والحقيقة أن الخديوي إسماعيل أقام عدة منشآت ترفيهية أخرى بخلاف ذلك في منطقة الأزبكية. فقد أقام سيركاً، وملعباً للخيول، وملعباً للجمباز. وبعد أن تمت هذه المنشأت، تمّ الإعلان عنها جميعاً بإعلان منشور بتاريخ 21/11/1870، هذا نصه: "إعلان: لجميع الناس وكل من أراد التروح والأئتناس .. ابتداء اللعب في التياترات أي الملاعب الأفرنجية الكائنة بالأزبكية من الساعة 8 وربع، وهذا بيان أثمان المحلات لمن أراد من أبناء العرب وحضرات الذوات الكرام ذوي الميسرات أن يغتنمن هذه الفرصات ويقتسم حظ هذه الخيرات قبل الفوات. 10 فرنك على الكراسي المتقدمة وراء طقم الموسيقى.7 على الكراسي المتأخرة، 65 الخلوة الأرضية، 75 الخلوة من الدور الأول، 53 الخلوة من الدور الثاني، 2 المجلس على المدرج في الدور الثالث ([1]).

أما إذا تطرقنا إلى الحديث عن المسارح الكبرى بمنطقة الأزبكية، سنجدها ثلاثة: مسرح الكوميدي الفرنسي، ومسرح حديقة الأزبكية، وأخيراً دار الأوبرا الخديوية. ويُعدّ مسرح الكوميدي الفرنسي أول مسرح يُقام في منطقة الأزبكية، وقد افتتحه الخديوي إسماعيل عام 1868 تحت إدارة الخواجا منسى، وكانت مسرحية الافتتاح أوبريت (هيلين الجميلة) عن أوبريت أوفنباخ، التي ترجمها رفاعة الطهطاوي، وتم توزيع نسخها المترجمة بالعربية على جمهور المسرح ([2])! ومن الغريب أن تاريخ هذا المسرح ونشاطه يُعدّ من الأمور المجهولة تماماً في تاريخ المسرح العربي، والأغرب مكان هذا المسرح غير المحدد حتى الآن؛ رغم أنه يقع في منطقة الأزبكية!! علماً بأن معظم المباني التي بُنيت في عهد الخديوي إسماعيل – في منطقة الأزبكية - مازالت باقية!! وهناك احتمال بأن مبنى البوسطة في العتبة هو هذا المسرح، وإن لم نجد وثيقة تدل على ذلك حتى الآن!!

أما نشاط مسرح الكوميدي الفرنسي، فاستطعنا معرفة جوانب منه، من خلال اطلاعنا على الدوريات المحفوظة في دار الكتب المصرية، ومنها ما نشرته مجلة (وادي النيل) عن أسماء العروض المسرحية، التي تمت في موسم (1870-1871)، ومنها مسرحيات: الموافق والمخالف، وكروك بول، وموال فرنتنيو، وفرننده، وجاووث ومينار وشركائهما، وأسرار الصيف ([3]).

أما مسرح حديقة الأزبكية فيُعدّ - رغم شهرته الكبيرة - لغز الألغاز في تاريخ المسرح المصري! لأننا لم نجد له أية إشارة تتحدث عنه بصورة صريحة! فلم نعرف مكانه على وجه التحديد! ولم نعلم عن أموره الإدارية أي شيء على الاطلاق! بل ولم نعلم تاريخ بنائه أو افتتاحه! وكل ما نعلمه بعض الإشارات اليسيرة من خلال أخبار الفرق المسرحية التي عرضت عليه أعمالها المسرحية! وبسبب هذا التعتيم على هذا المسرح خلط بعض الدارسين بينه وبين مسرح الكوميدي الفرنسي! لذلك بحثت في هذا الأمر، وتوصلت إلى الحقائق الآتية:

إن مسرح الجمهورية والفنون، الذي بُنى في الأزبكية أيام الحملة الفرنسية، وهُدم أثناء ثورة القاهرة، بُني على أطلاله مسرح حديقة الأزبكية! حيث اكتشفت وثيقة محفوظة في دار الوثائق القومية، تحمل أمراً من الخديوي إسماعيل في 6/5/1869 إلى المهندس فرانس بك يأمره ببناء هذا المسرح ([1])، الذي افتتح عام 1873 تحت إدارة الخواجة أنريكو سانتيني.

أما نشاط مسرح حديقة الأزبكية فتمثل في عرض مجموعة كبيرة من المسرحيات الأجنبية والعربية، نقتطف منها بعض السنوات، مثل: عام 1887 حيث مُثلت مسرحية (عجائب البخت)، ومسرحية إيطالية اختتمت بفصل مضحك بعنوان (أنا في انتظار العروسة). كما عرضت جمعية المعارف مسرحية (تأثير العشق على الملكة بلقيس) إعانة منها لمدرسة النجاح التوفيقية. وفي عام 1888 مثلت مسرحية (عواقب الأمور في حكم المقدور) تأليف مرقص جرجس شقيق ميخائيل جرجس صاحب جوق السرور الشهير، كما مُثلت مسرحية (هند بنت النعمان) ([2]). وفي عام 1898 مثلت فرقة إسكندر فرح مسرحية (أنس الجليس) بطولة الشيخ سلامة حجازي والمطربة ملكة سرور، ومثلت الفرقة نفسها مسرحية (الاتفاق الغريب) في الليلة الخيرية التي أقامتها جمعية الرابطة الأخوية.ى كما مثل الجوق الإيطالي مسرحية (لافيل ده ثامبور ماجور) في حفل جمعية التلامذة المتخرجين من مدارس الفرير، وخصص دخل هذه الليلة لمساعدة طلاب القسم المجاني بالمدارس ([3]).

إذا انتقلنا إلى الحديث عن دار الأوبرا الخديوية، سنلاحظ أن مراجع كثيرة تحدثت عنها؛ ولكنها اختلفت في تاريخ افتتاحها وتضاربت الأقوال عن أول عرض مسرحي أقيم فيها!! حيث إن أغلب المراجع تقول أن الأوبرا افتتحت بعرض (عايدة)!! وهذا الأمر تناولته في كتابي (تاريخ المسرح في مصر في القرن التاسع عشر)، وانتهيت فيه إلى أن الأوبرا الخديوية افتتحت يوم 1/11/1869، تحت إدارة مديرها (باولينو درانيت باشا)، والطريف – في وقتنا الحاضر - وجود شارع في الإسكندرية يحمل اسم هذا الرجل دون أن يعرفه أحد حتى الآن!!

أما عرض افتتاح الأوبرا فكان عبارة عن قصيدة غنائية، وصفتها مجلة (وادي النيل)، قائلة: " انكشفت الستارة أولاً عن تلحين قصيدة أغاني باللغة الفرنساوية كان قد نظمها بعض أدباء الأمراء الأفرنجيين في مدحة الحضرة الخديوية. وقد زان هذا المنظر الجميل صورة أعلى ذاته البهية موضوعة في وسط المجلس على دكة عليه يحيط بها من اللاعبين واللاعبات ما يتصور في ذاتهم بطريق الرموز الإشارية صورة العدل والحلم والشهرة وغير ذلك من الأوصاف الجميلة التي تعود على ذاته الجليلة بالمدح ويطول منها الشرح".

أما عرض أوبرا (ريجوليتو)، فقد تمّ في اليوم التالي، أي يوم 2/11/1869، ومن الطريف أن هذا العرض لم يكتمل؛ إذ حدث حريق أثناء العرض أدى إلى فرار الممثلين، كما أخبرتنا بذلك مجلة (وادي النيل)!! وتبعاً للأخبار المتاحة، سنجد أن أوبرا (سميراميس) كانت أول أوبرا كاملة تُعرض على خشبة مسرح دار الأوبرا الخديوية في فبراير 1870 ([1]). أما أوبرا (عايدة) فقد عُرضت يوم 24/12/1871، وهي من تأليف ماريت باشا مدير المتحف المصري، وصاغها شعراً كاميل دو لوكل مدير الأوبرا كوميك في باريس، وترجمها بالإيطالية الشاعر أنطونيو جيزلنزوني، ولحنها الموسيقار (فيردي).

 



([1])- ينظر: مجلة وادي النيل - السنة الثالثة - عدد 52 - 17/2/1870 - ص(1285).



([1])- ينظر: دار الوثائق القومية - دفاتر المعية السنية - دفتر س1/1/39 - ص(95).

([2])- ينظر: جريدة الوطن - عدد 606 - في 3/5/1887،  29/9/1888، جريدة القاهرة - عدد 475 - 10/7/1887، 10/11/1887، 12/11/1887، مجلة الآداب - عدد 49 - 24/5/1888،

([3])- ينظر: جريدة الأخبار - عدد 648 - 31/10/1898، جريدة مصر - عدد 872 - 13/12/1898، 5/6/1899.

 



([1])-مجلة وادي النيل - السنة الرابعة - عدد 60 - 21/11/1870 - ص(8).

([2])-من الأمور المكتشفة حديثاً أن الطهطاوي هو الذي عرَّب مسرحية (هيلانة الجميلة) بأمر من الخديوي إسماعيل، كما ترجم أيضاً قطعاً تياترية أخرى، وقد ذكرت ذلك صراحة مجلة (وادي النيل) عام 1871م. وذلك على الرغم من عدم ذكر اسم الطهطاوي على غلاف المسرحية عندما نُشرت. والنسخة المتبقية – وربما الوحيدة - من هذه المسرحية كانت محفوظة بدار الكتب المصرية، وفُقدت مع الأسف! ولكن بياناتها المحفوظة تقول: هيلانة الجميلة، رواية تياترية، بدون مؤلف، القاهرة، مطبعة بولاق، 1285هـ، 86 صفحة، دار الكتب. وفي حالة ظهور هذه النسخة، ستكون إضافة جديدة لجهود الطهطاوي في مجال الترجمة المسرحية، وستجعل منه صاحب أول ترجمة عربية لمسرحية أجنبية تُنشر في مصر. وللمزيد انظر: مجلة وادي النيل – السنة الرابعة – عدد71 – الجمعة 14 شوال 1287هـ – الموافق 6/1/1871م - ص(4-6)، دار الكتب والوثائق القومية، مركز الخدمات الببليوجرافية: الثبت الببليوجرافي للكتب المترجمة إلى اللغة العربية في القرن التاسع عشر – مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة – 1998م.

([3])- راجع: مجلة وادي النيل - السنة الرابعة - عدد 52 - 21/10/1870 - ص(2،3).

المصدر: محاضراتي للفرقة الرابعة بكلية دار العلوم - جامعة المنيا
sayed-esmail

مع تحياتي ... أ.د/ سيد علي إسماعيل

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
3 تصويتات / 948 مشاهدة

ساحة النقاش

أ.د سيد علي إسماعيل

sayed-esmail
أستاذ المسرح العربي بقسم اللغة العربية - كلية الآداب جامعة حلوان »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

826,306