مسرح الحملة الفرنسية
عرف العالم العربي المسرح الحديث - عن طريق مصر - في عهد نابليون بونابرت، الذي استقدم فرقة من الممثلين الفرنسيين، وقاموا بالتمثيل في منزل كريم بك ببولاق. وبعد أيام أنشأت الحملة الفرنسية مسرحاً في الأزبكية، أطلقوا عليه اسم (مرسح الجمهورية والفنون) ([1])، ويحفظ لنا التاريخ اسم مسرحيتين تم تمثيلهما به وهما: (الطحانين)، و(زايس وفلكور) أو (بونابرت في القاهرة). وقد اشترك في تمثيل المسرحية الثانية أغلب علماء فرنسا بمصر ([2]). وفي هذا الوقت تأتي إلينا أقدم إشارة عربية عن مسرح الحملة الفرنسية، وهي ما ذكره الجبرتي في تاريخه ضمن حوادث شهر شعبان عام 1215هـ، قائلاً: " وفيه كمل المكان الذي أنشأه بالأزبكية عند المكان المعروف بباب الهواء وهو المسمى في لغتهم بالكُمدي وهو عبارة عن محل يجتمعون به كل عشر ليال ليلة واحدة يتفرجون به على ملاعيب يلعبها جماعة منهم بقصد التسلي والملاهي مقدار أربع ساعات من الليل وذلك بلغتهم ولا يدخل أحد إليه إلا بورقة معلومة وهيئة مخصوصة" ([3]).
أقوال الرحالة
ومن البدايات المسرحية في العالم العربي، من خلال مصر أيضاً، أقوال الرحالة ([4])، وأهمهم على الإطلاق إدوارد وليم لين، الذي رصد لنا أول مسرحية، بصورة تفصيلية لفرقة المحبظاتية. وأهمية هذه الإشارة ترجع إلى أنها أول نص لمضمون مسرحية منشور من قبل لين في كتابه (عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم) فيما بين عامي (1835-1838). يقول إدوارد وليم لين: " يسر المصريون كثيراً بالعروض التي يقدمها المحبظون وهم مهرجو المهازل المبتذلة. ويؤدي هؤلاء مهازلهم عامة خلال الاحتفالات التي تشبه الأعراس وحفلات الختان في منازل كبار القوم ..... ويقتصر الممثلون على الصبية والرجال، أما المرأة فيقوم بدورها رجل أو صبي متنكراً في زيّها. وسأعرض للقارئ نموذجاً عن أحد عروضهم التي قدموها أمام الباشا منذ فترة وجيزة خلال احتفال أقامه بمناسبة ختن أحد أولاده .... واقتصرت شخصيات المسرحية على الناظر وشيخ البلد وخادمه وكاتب قبطي وفلاح مَدين للحكومة وزوجته وخمسة أشخاص آخرين مثّل اثنان منهما دور طبالين وثالث عازف مزمار وظهر الاثنان الباقيان في دور راقصين" ..... إلخ ([5]).
مارون النقاش
يُعدّ مارون النقاش اللبناني (1817-1855م) رائد المسرح العربي بلا منازع، حيث إنه أول من أقام مسرحاً عربياً في بيته في بيروت، وعرض فيه أول مسرحية باللغة العربية، وهي مسرحية (البخيل) عام 1848م، التي حضرها بعض القناصل والأعيان. وفي عام 1850 عرض مسرحيته الثانية (هارون الرشيد) أو (أبو الحسن المغفل)، ثم عرض مسرحيته الثالثة والأخيرة، وهي (طرطوف) لموليير، التي قدمها باسم (السليط الحسود). ولحسن الحظ أن تاريخ هذا الرائد مازال معروفاً، ومتداولاً بين أيدي الدارسين بفضل شقيقه (نقولا النقاش)، الذي نشر كتاباً عام 1869 بعنوان (أرزة لبنان)، جمع فيه كل أعمال شقيقه مارون من (مسرحيات، وخطب، وأشعار، وتاريخ .... إلخ) ([6]).
وللأسف الشديد تتعرض ريادة (مارون النقاش) للمسرح العربي إلى محاولات صهيونية للتشكيك في حقيقتها التاريخية وقيمتها الفنية، يقوم بها الكيان الصهيوني في محاولة – يائسة – للقول بأن اليهود هم أصحاب الريادة في تاريخ المسرح العربي ([1])!! فقد نشر الدكتور فيليب سادجروف عام 1996 كتاباً بالإنجليزية بعنوان (المسرح المصري في القرن التاسع عشر) ([2])، قال فيه: إن أول مسرحية عربية كتبها يهودي جزائري اسمه (إبراهام دانينوس)، وكانت بعنوان (نزاهة المشتاق وغصة العشاق في مدينة طرياق في العراق)، وهي مطبوعة بالحجر في الجزائر عام 1847م! كما ألمح بأن مسرح مارون النقاش كان أوربي الطراز!!
ومن خلال هذه الإشارات، يفهم القارئ أن سادجروف يقصد بأن الريادة الحقيقية للمسرح العربي لم تكن على يد مارون النقاش - صاحب التجارب المسرحية العربية الأوروبية الطراز - بل كانت على يد إبراهام دانينوس مؤلف أول مسرحية عربية الطراز! وتجلية هذا الأمر، تتمثل في أن سادجروف نشر – بعد كتابه هذا مباشرة - كتاباً آخر عام 1996م بالاشتراك مع شامويل موريه Shmuel Moreh – أستاذ الأدب العربي الحديث بالجامعة العبرية - بعنوان (الحركة المسرحية عند يهود البلاد العربية في القرن التاسع عشر). وهذا الكتاب احتوى نصوصاً مسرحية عربية لمؤلفين من اليهود العرب في الجزائر وسورية، والدراسات المصاحبة لهذه النصوص تصف مؤلفيها بأنهم رواد المسرح العربي الحديث، وأول نص مسرحي منشور كان (نزاهة المشتاق وغصة العشاق في مدينة طرياق في العراق) لإبراهام دانينوس. وعلى الرغم من أن الكتاب ذكر صراحة إن هذه المسرحية تم اكتشافها من غير ذكر تاريخ لها أو مكان لنشرها، إلا أن الكتاب نشرها وذكر إنها أُلفت حوالي سنة 1847م. وهذا التاريخ هو التاريخ المعروف لعرض مسرحية البخيل بوصفها الريادة العربية المسرحية المعروفة لمارون النقاش، إلا أن كتاب الحركة المسرحية عند يهود البلاد العربية شكك في هذا التاريخ عندما تناول مسرحية البخيل مُشيراً إلى أنها مُثلت في بيروت عام 1847م أو في فبراير 1848م، كما جاء صراحة في الكتاب. ومن خلال هذا التشكيك ينتهي الكتاب إلى استنتاج مفاده، أن مارون النقاش لم يكن رائداً مسرحياً عربياً عام 1848م، لأن عروضه كانت أوروبية الطابع، بعكس إبراهام دانينوس مؤلف أول مسرحية عربية الطابع عام 1847م. وبذلك يستنتج قارئ الكتاب أن اليهود كانوا رواداً للحركة المسرحية العربية في القرن التاسع عشر.
وفي عام 1997م قال شامويل موريه صراحة في مقدمة مسرحية الأحمق البسيط: "وبذا يكون إبراهام دانينوس قد سبق مارون النقاش منشئ المسرح العربي"! والجدير بالذكر في هذا المقام، أن الدكتور مخلوف بوكروح – الأستاذ الجزائري - أعاد تحقيق ونشر مسرحية (نزاهة المشتاق وغصة العشاق في مدينة طرياق في العراق) - عام 2003م في الجزائر - وفي تقديمه أكد على أن ريادة مؤلفها تتمثل في تأليفها ونشرها، من غير أن يتنكر لريادة مارون النقاش المعروفة، أو التلميح ليهودية إبراهام دانينوس. كما أنني قابلت الدكتور مخلوف بوكروح في الجزائر، وتحدثت معه في هذا الشأن، فأكدّ لي أن نص مسرحية إبراهام دانينوس غير مؤرخ، بل والنسخة الوحيدة غير موجودة الآن في المكتبة الوطنية الجزائرية ([3])!!
([1])- تصديت إلى هذه المحاولات، وكتبت عشرين مقالة صغيرة في شكل سلسلة أسبوعية بجريدة الجمهورية، ويمكن الاطلاع عليها في الإنترنت من خلال هذا الرابط:
http://kenanaonline.com/users/sayed-esmail/topics/66461/posts/128924
([2])- هذا الكتاب قمت بنشره في مصر عام 2007 من خلال المركز القومي للمسرح، وقام بترجمته د.أمين العيوطي، وقمت بكتابة المقدمة والتعليقات على الترجمة، وتوجد منه نسخة ألكترونية متاحة في الإنترنت، وهذا هو رابط تحميل الكتاب:
http://kenanaonline.com/users/sayed-esmail/downloads/5659
([3])- للمزيد ينظر: P.C. Sadgrove & Shmuel Moreh: Jewish Contributions to Nineteenth-Century Arabic Theatre, Oxford: Oxford University Press, 1996.، حبيب أبلا مالطي – الأحمق البسيط: رواية كوميدية – تحقيق وتقديم: شامويل موريه وموسى شواربه – سلسلة منشورات الكرمل – عدد7 – حيفا - 1997م – ص(24)، إبراهيم دانينوس - نزاهة المشتاق وغصة العشاق في مدينة طرياق في العراق – تحقيق وتقديم: مخلوف بوكروح – المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية، وحدة الرغاية – الجزائر – 2003م.
([1])- وعن هذا المسرح يقول محمد سيد كيلاني في كتابه (في ربوع الأزبكية) - دار العرب للبستاني - ط1 - 1958 - ص (108): " أنشأ نابليون مسرحاً ضخماً بوجه البركة مثلت فيه الروايات باللغة الفرنسية ترفيهاً عن الجنود وتسلية لهم. ولكن هذا المسرح دمر خلال ثورة سنة 1799، فأعاد الجنرال مينو بناءه من جديد، وأطلق عليه (مسرح الجمهورية) وكان موقعه بالقرب من شارع غيط النوبى الآن ".
([2])- راجع: سليمان حسن القباني - بغية الممثلين - مطبعة جرجي غرزوزي بالإسكندرية - 1912 - ص (31، 32).
([3])- عبد الرحمن الجبرتي - تاريخ الجبرتي - الجزء الثالث - مطبعة الأنوار المحمدية - 1986 - ص (202).
([4])- وللمزيد عن أقوال الرحالة في رصد بدايات وظواهر المسرح المصري في القرن التاسع عشر، انظر: يعقوب لنداو - دراسات في المسرح والسينما عند العرب - ترجمة: د. أحمد المغازي - الهيئة المصرية العامة للكتاب - 1972 - ص (105-108)، وأيضاً: د. محمد يوسف نجم - المسرحية في الأدب العربي الحديث - دار بيروت للطباعة والنشر - 1956 - ص (20-24)، ود.علي الراعي - المسرح في الوطن العربي - سلسلة (عالم المعرفة) - الكويت - عدد 25 - يناير 1980 - ص (31-36).
([5])- إدوارد وليم لين - عادات المصريين المحدّثين وتقاليدهم (مصر ما بين 1833-1835) - ترجمة: سهير دسّوم - مكتبة مدبولي بالقاهرة - ط1 - 1991 - ص (399-401).
([6])- كتاب (أرزة لبنان) المنشور عام 1869 متوفر في الإنترنت، وهذا رابط تحميله
http://www.4shared.com/document/bph0-HRC/__online.html
ساحة النقاش