نظرة عامة على بقية الأنشطة المسرحية في مصر

فرقة سليم خليل النقاش

 تحدثنا – فيما سبق – عن الأقوال، التي تثبت أن سليم خليل النقاش اللبناني – ابن شقيق مارون النقاش – هو أول من جاء بفرقة مسرحية عربية، عرضت مسرحياتها باللغة العربية في مصر عام 1876م، وبذلك يُعدّ سليم النقاش رائد المسرح العربي في مصر، وليس يعقوب صنوع .. كما أوضحنا سابقاً!!

نقلت إلينا جريدة (الأهرام) يوم 1/12/1876 خبر قدوم فرقة سليم النقاش، قائلة: " لأمر غني عن البيان أن تشخيص الروايات يعد في الوسائل الأولى التي بها أدمجته الهيئة الاجتماعية وأحكم نظامها وما تم عن هذا المبدأ الحسن من الفوائد الجلية يقصدنا عن الإسهاب في الشرح لتثبيت ما أوردناه فضلاً عن أن جميع البلاد المتمدنة توالي هذا العمل أتم مراعاة وتسهل السبل لإتقانه. وبناء على ذلك يسرنا أن نرى وأبنائنا نحن العرب شباباً أقدموا إلى ساحة هذا المضمار وخاضوا في جوانبه وتعلموا جميع أبوابه وأدركوا ما أدركوا بحزم اقترن بالثبات وأحكموا ما أحكموا بجهاد قومته الفطنة فرجعوا إلينا فوارس محنكة. وكان ممن نبغ فيهم وحاز قصب السبق بينهم ذاك الفتى اللبيب والحاذق الأديب سليم أفندي نقاش الذي تلقى هذا الفن عن عمه المرحوم الخواجا مارون النقاش المبدع هذا العلم في الأقطار السورية ويسرنا الآن أن نعلن بأنه حضر في هذه الأثناء إلى مدينتنا الإسكندرية مع رفقته المؤلفة من رجال ونساء ليقدم للجمهور ثمرة تعبه مؤملاً أن يكون سعيه مشكوراً. يوم السبت القادم الواقع في 23 الحالي الساعة 8 ونصف أفرنجية ليلاً".

وعندما جاء سليم إلى الإسكندرية أراد ضم أديب إسحاق – أحد أدباء الشام المرموقين - إلى فرقته ليساندها بجانب يوسف الخياط، فأرسل إليه، خصوصاً وأن أديب إسحاق له تجارب سابقة في المسرح؛ لأنه عرّب مسرحية (أندروماك) لراسين بناء على طلب قنصل فرنسا في الشام، كما ترجم مسرحية (شارلمان) بعد وصوله إلى الإسكندرية وانضمامه إلى الفرقة التي اكتمل شكلها بوصوله، وكانت أول مسرحية مثلتها الفرقة هي (أبو الحسن المغفل)، وبعدها قدمت مسرحية (السليط الحسود)، وهما من مسرحيات مارون النقاش! ثم عرضت الفرقة مسرحية (مى وهوراس) على مسرح زيزينيا بالإسكندرية في يناير 1877، ومن ثم توالت العروض ومنها: هارون الرشيد، والكذوب، وعايدة. والغريب أن هذه الفرقة لم تستمر سوى ثلاثة أشهر في الإسكندرية؛ حيث تركها سليم النقاش وأديب إسحاق، واتجها إلى مجال الصحافة، فأصدرا عدة صحف، منها: مصر، والتجارة، والمحروسة، والعصر الجديد.

أما (يوسف الخياط)، فأخذ على عاتقه مواصلة الفن المسرحي، وقاد زمام هذه الفرقة المسرحية، وأول مسرحية عرضها كانت (صنع الجميل) على مسرح زيزينيا، ثم مسرحية (الجبان). وفي فبراير 1879 تنتقل الفرقة إلى القاهرة وتعرض على مسرح الأوبرا مسرحية (الظلوم)، التي شاهدها الخديوي إسماعيل، وشعر أن يوسف الخياط يرمز بهذه المسرحية إلى ظلم الحاكم في الحكم، فأمر بإخراجه من مصر! وهناك رواية تكذب هذا الخبر، وتقول بأن فرقة يوسف الخياط، لم تترك مصر، واستمرت في عملها الفني، وهي حقيقة تاريخية صحيحة!!

تنقطع أخبار يوسف الخياط وفرقته، وتعود إلينا في أواخر سنة 1881، عندما مثلت الفرقة في ديسمبر بالقاهرة مسرحية (أبو الحسن المغفل)، ثم تنقطع الأخبار مرة أخرى بسبب الثورة العرابية، وتعود في أواخر سنة 1884 لتخبرنا بأن الخياط ألف فرقة جديدة من بعض الشوام والمصريين، وكانت باكورة عملها تمثيل مسرحية (هارون الرشيد) على مسرح زيزينيا بالإسكندرية، وعلى المسرح نفسه مثلت الفرقة مسرحية (الظلوم). وفي فبراير 1885 فتحت الفرقة باب الاشتراك للجمهور في مشاهدة خمس مسرحيات متتالية، هي: مي وهوراس، وشارلمان، والكذوب، والظلوم، والخل الوفى. ومن خلال هذه العروض تعرفنا على بعض أعضاء فرقة يوسف الخياط، ومنهم: الشيخ سلامة حجازي، وفتح الله الرباوي، ونجيب شكيب، والشيخ مصطفى عارف، والممثلة هيلانة بيطار.

وفى بداية عام 1886 كوّن الخياط فرقة مسرحية جديدة بالاشتراك مع مراد رومانو، وعزمت هذه الفرقة على تمثيل عدة حفلات بمسرح زيزينيا بالإسكندرية، كان منها: عايدة، وأندروماك، وشارلمان. ولمدة عامين بعد ذلك، واصلت الفرقة نشاطها المسرحي في أقاليم مصر، مثل: الزقازيق، والمنصورة، ودمياط، وطنطا، ودمنهور، وهذا النشاط الذي انتهى في مايو 1888، كان آخر نشاط مسرحي لفرقة يوسف الخياط، الذي مات سنة 1900. وهكذا تسدل الستار على نهاية أول فرقة مسرحية عربية تزور مصر في القرن التاسع عشر، على اعتبار أن فرقة يوسف الخياط من نتاج فرقة سليم خليل النقاش.

فرقة سليمان القرداحي

على الرغم من قلة المراجع الحديثة، التي تحدثت عن سليمان القرداحي وفرقته، إلا أنها اختلفت في أمر بدايته المسرحية. فهناك رأى يقول إن القرداحي جاء من سوريا هو وزوجته، التي أنشأت مدرسة، فكانت تقيم حفلة مسرحية مدرسية كل عام فيها، وبسبب هذه الحفلات حضت زوجها على إنشاء فرقة مسرحية. أما الرأى الآخر فيقول: إن القرداحي كان ممثلاً في فرقتي سليم النقاش ويوسف الخياط([1]).

والرأي الأول، أخذت به؛ بسبب ما توصلت إليه من خلال الأخبار المنشورة في الدوريات القديمة، التي أكدت ووثقت صحته! فجريدة (التجارة) عام 1879 نشرت خبرين، الأول يقول إن خرستين قرداحي رئيسة المدرسة القرداحية توجهت إلى بيروت في زيارة عائلية، وستعود بعدها لاستئناف عملها في الموسم الدراسي الجديد! والخبر الثاني عبارة عن إعلان موقع من سليمان القرداحي، يطالب فيه الأهالي بدفع المستحقات المالية الجديدة لتعليم أبنائهم في العام الدراسي! وتوقيع سليمان القرداحي في نهاية الإعلان، يؤكد أنه كان يساعد زوجته خرستين في الأمور الإدارية للمدرسة. ومن هنا يصح الرأى الأول في أن زوجة القرداحي دفعت زوجها لإنشاء فرقته المسرحية.

تكونت فرقة القرداحي في عام 1882 بالإسكندرية ومثلت في مسرح زيزينيا عدة مسرحيات، منها (فرسان العرب)، ثم توقف وعادت في نهاية عام 1885 بتكوين جديد - بعد أن شارك القرداحي المطرب مراد رومانو في تكوينها - وبدأت تمثل موسماً حافلاً بمسرح البوليتياما بالإسكندرية. ومن عروض هذا الموسم مسرحيات: زنوبيا، وأستير، وهارون الرشيد، ويوسف. والمسرحية الأخيرة (يوسف)، كتبت عنها جريدة (الأهرام) يوم 14/1/1886 قائلة: "شخص جوق قرداحي أفندي ورومانو أفندي مساء أمس رواية (يوسف) فأجاد جميع المشخصين وأحسنوا الإشارة والإلقاء وخصوصاً يعقوب وأولاده وامرأة العزيز حتى استغرقوا الأغراض ووسعوا الناس شرع الإطناب في تمداحهم والثناء عليهم فصفقوا لهم مراراً. وفى الحقيقة فإننا نرى هذا الجوق أخذ في التقدم منهجاً مستقيماً فهو اليوم خير منه أمس وقد دلنا ذلك على أن هلال تقدمه سيصير عما قليل بدراً كاملاً غير أننا نرجو من الجمهور الإسكندري أن يقابله بالمبادرة إلى حضور رواياته لتتوفر لديه أسباب هذا التقدم. ولقد عقب تمثيل الرواية فصل بانطوميم مضحك جداً قام بإدارته البارع الماهر في هذا الفن الذي كان يقدم فصول البانطوميم في جوق حضرة الشيخ أبي خليل أفندي القباني فسر جميع الحضور بما شهدوا من رشاقة حركاته. وسيشخص الجوق المذكور مساء غد رواية (عنترة العبسي) بناء على طلب كثيرين من أهل الذوق وهي رواية ذات ثلاثة فصول تنتهي بزفاف عبلة إلى عنترة وتتخللها أدوار بديعة ومناظر مدهشة جادتها سجائب الظرف وهب عليها نسيم اللطف وكفى بها أنها تعرب عن عزة العرب ومنعتهم وسخائهم ووفائهم وتظهر خير فضلهم الباهر وشرفهم الزاهى".

وفي فبراير 1886، انتقلت الفرقة إلى القاهرة، ومثلت في الأوبرا الخديوية مجموعة من المسرحيات، منها: تليماك، وبجماليون، وعلى الباغي تدور الدوائر، ويوسف الحسن، ونكث العهود، وغرام الملوك، وزنوبيا، والجاهل المتطبب، ومحاسن الصدف، وحفظ الوداد، وعنترة العبسي، والباريسية الحسناء.

واصلت فرقة القرداحي نجاحها المسرحي لعدة أعوام، حتى عام 1893، عندما أصبح لها مسرح مستقل، عُرف باسم (السكاتنج رنج) بالأزبكية، وعلى هذا المسرح شهدت الفرقة - في مواسمها الأولى - نجاحاً لم تشهده في تاريخها السابق أو اللاحق، لا سيما وأنها جددت في عروضها، ومنها مسرحيات: هملت، ومونتجمري، والمريض الوهمي، والقائد المغربي، واللصوص، والأمير حسن، وشهداء الغرام، وثورة القيصر، وأوغسطس قيصر، وحبيس الظلم، ودليلة المحتالة، وصلاح الدين الأيوبي.

وفي نهاية عام 1894 أعطت الحكومة لسليمان القرداحي قطعة أرض بجوار شاطئ الإسكندرية، وتحديداً بجوار هيئة البريد بالمنشية، ليقيم عليها مسرحاً خاصاً به، أطلق عليه (مسرح القرداحي). ومما لا شك فيه أن الفرقة لاقت نجاحاً كبيراً على هذا المسرح، بدليل ما ذكرته مجلة (الهلال) في 1/2/1895، عندما قالت: " ذكرنا في الهلال الماضي ما أنبأنا به حضرة وكيلنا بالإسكندرية عن اتقان هذا الجوق، ويسرنا الآن أن الجناب العالي – أي الخديوي - قد اختاره للتمثيل بسراي القبة في ليالي الأفراح التي يحييها الجناب الخديوي احتفالاً بزفاف عصمتلو دولتلو شقيقة سموه فتهنئة بهذا الالتفات".

ومنذ نهاية القرن التاسع عشر حتى أوائل القرن العشرين، بدأت أخبار فرقة القرداحي تتقلص في الصحف اليومية، وأصبحنا نتابعها في ندرة كبيرة بين الحين والآخر، وبالأخص بعد أن هدمت الحكومة مسرح القرداحي بالإسكندرية لتوسيع الكورنيش عام 1900. وقبيل وفاة القرداحي - في عام 1909 - بقليل سافر في رحلة فنية إلى بلاد المغرب العربى، فأُنعم عليه بنيشان في تونس، قالت عنه جريدة الوطن في 5/2/1909: ‘‘ أنعم سمو باي تونس بنيشان الافتخار من الدرجة الثانية على حضرة النشيط سليمان أفندي قرداحي مدير الجوق المصري وكان قد قام هناك بتمثيل بعض الروايات الشهيرة فسر منها سمو الباي أيما سرور وفضلاً عن ذلك فإن المجلس البلدي هناك منحه مبلغ عشرة آلاف فرنك وكفى بذلك شهادة على براعة القرداحي أفندي من جهة وعلى تعضيد حكومة تونس لهذا الفن الجميل من جهة أخرى".

ويقول محمد شكري عن سليمان القرداحي: ‘‘ كان رحمه الله نشيطاً جداً في مهنته ويتكل دائماً على نفسه. وكان يجيد في التراجيدي إجادة أعطته شهرة كبيرة في التمثيل وقد مثل أمام الخديوي توفيق عدة روايات فنال عطفه ورضاه وأهداه دبوس على شكل طغراء كان يتقلده عندما كان يريد مقابلة المديرين ليساعدوه في إحياء حفلاته بالمديريات والمراكز وقد سافر إلى البلاد التونسية ومثل أمام الباي فنال استحسانه وأنعم عليه بنيشان من درجة أفسيه. وكان تمثيله رحمه الله كثير الشبه جداً بتمثيل الأستاذ جورج أفندي أبيض" ([2]).

وقال عنه أيضاً عمر وصفي: " كانت سلطة القرداحي على المترجم عظيمة. بل سلطته على مؤلف الرواية أعظم إذ كان يحذف من الرواية ما يشاء ويضيف إليها ما يشاء ويغير ويبدل من مواقفها ما يشاء فكانت تخرج الرواية من يد المترجم وإذا بها غيرها في يد مدير الفرقة. ولم يكن القرداحي يعرف الإعلانات التي نراها الآن .... بل كل إعلانه ينحصر في طائف ينادي في الشوارع يحمل جرساً وخلفه غلام يحمل إعلاناً مكتوباً باليد وعليه اسم الرواية" ([3]).

جوق السرور

ظهر هذا الجوق في منطقة بولاق الشعبي بالقاهرة قبل عام 1887، لصاحبه ميخائيل جرجس، الذي كان يعرض مسرحياته في مسرح خشبي، على غرار خيمة السيرك، أو مشآت الموالد الخشبية! وكانت عروضه الأولى تُقام في الأقاليم المصرية حتى عام 1890، عندما عرض مسرحيتي (ناكر الجميل) و(الهوى العذري) على مسرحه الخشبي في بولاق. وفي العام التالي عرض مسرحياته على مسرح الألدورادو بسكة الرويعى قريباً من منطقة الأزبكية. وعلى هذا المسرح عرض الجوق مسرحية (قوت القلوب).

ومن الواضح أن جوق السرور لاقى نجاحاً كبيراً مما جعل مديره ميخائيل جرجس يستأجر مسرحاً جديداً وينشر إعلاناً بذلك في جريدة (المقطم) تحت عنوان (إعلان جمعية السرور الوطنية) في 18/2/1891، قال فيه: " إن فن التشخيص قد أزدهى في هذه الأيام وصار له المقام الأول بين الهيئة الاجتماعية ودليل ذلك إقبال العموم على المراسح واستماع الروايات الأدبية ..... ولما كنت من الذين خدموا هذا الفن مدة من الزمن وقمت بتشخيص روايات كثيرة في القاهرة والأرياف حائزاً من كرم المولى على رضى العموم وهو أمر أعده أكبر تعزية لي فأقتضى من ثم أن أقابل معروفهم باتقان حالة جوقنا إلى حد يضاعف سرورهم ويزيد حبورهم وإجابة لطلب كثيرين قد اتخذنا محلاً جديداً حسن الغاية في النصرية بجوار منزل سعادة قاسم باشا أمام مدرسة المبتديان لتشخيص كثير من الروايات التي شخصت والتي لم تشخص إلى الآن".

وافتتح جوق السرور هذا المسرح في 18/2/1891 بإحدى المسرحيات، وقام ببطولتها الممثل مصطفى علي، والممثلة لطيفة عبد الله، ثم توالت العروض بعد ذلك، ومنها مسرحية (يوسف الصديق). ثم قام الجوق برحلات فنية في أقاليم مصر، استغرقت عدة سنوات، عاد منها فى أكتوبر 1896، فقام ميخائيل جرجس بتجديد مسرحه الخشبي القديم ببولاق وأطلق عليه مسرح الكوكب العباسى، وبدأ الجوق التمثيل في هذا المسرح بعرض (صلاح الدين الأيوبي مع ريكاردوس قلب الأسد)، ثم توالت العروض، ومنها: أنس الجليس، ومحاسن الصدف، وشهداء الغرام، وهارون الرشيد، وحفظ الوداد، وعاقبة الصيانة وغائلة الخيانة، وعائدة، وبديع الزمان.

وفي عام 1897 ذهب الجوق إلى المنصورة فمثل فيها عدة مسرحيات منها: نابليون بونابرت، وعنترة، ويوسف الصديق. ثم انتقل إلى الفيوم والمنيا وأسيوط وقنا، ومثل فيهما مسرحيات: السيد، وصلاح الدين الأيوبي، وشهداء الغرام، والملك العادل. وفى نهاية يولية 1899 ذهب الجوق إلى الصعيد – مرة أخرى - في رحلة مسرحية، كانت آخر عهدنا به؛ ففى ملوي مثل مسرحيتي (السلطان صلاح الدين الأيوبي)، و(السيد)، ثم سافر إلى سوهاج ومثل بها آخر مسرحياته – تبعاً لما بين يدي من معلومات - في 29/10/1899، وهي مسرحية (صلاح الدين الأيوبي).

فرقة إسكندر فرح

أجمعت معظم المراجع على أن إسكندر فرح بدأ نشاطه المسرحي في الشام، عندما كوّن القباني فرقته المسرحية هناك، وكان إسكندر يعاونه في تدريب الممثلين. وعندما حضرت الفرقة إلى مصر عام 1884 كان إسكندر فرح يقوم بالمهام الإدارية فيها. وبعد فترة انفصل إسكندر عن فرقة القباني في منتصف عام 1888، وبدأ يمارس التمثيل بفرقة صغيرة، وكان يقحم نفسه وفرقته ضمن الجمعيات التمثيلية الشهيرة، لأن اسم إسكندر فرح كان مجهولاً تماماً، في ذلك الوقت.

وبعد عام تقريباً أصبح جوق إسكندر فرح من الأجواق المعتمدة، التي تجوب الأقاليم وتمثل في ليالي الجمعيات الخيرية، وكان من أعمدة هذا الجوق سلامة حجازي والممثلة ميليا ديان. وأول إشارة لجوق إسكندر فرح، ولنشاطه الفنى نقلتها إلينا جريدة (مصر) يوم 22/5/1889 قائلة: "مثل جوق إسكندر أفندي فرح ليلة الأحد رواية (البرج الهائل) الشهيرة التي قدمتها جمعية منتزه النفوس الخيرية الأدبية فحضر التمثيل كثيرون من الأدباء والفضلاء يتقدمهم أصحاب السعادة مدير الفيوم وباسيلى بك تادرس ومجدى بك القاضيين بمحكمة الاستئناف الأهلية وأحسن رجال الجوق التمثيل وخصوصاً حضرة الممثل البارع الشيخ سلامة حجازي والست ميليا البارعة فإنهما أطربا وأعجبا حتى صفق لهم الحضور مراراً وخرجوا مسرورين شاكرين".

وفى عام 1891، وبعد رحلات إقليمية فنية كون إسكندر فرقة جديدة، وبنى مسرحاً متواضعاً – تحت الإنشاء - في شارع عبد العزيز بالعتبة - مكانه الآن سينما أوليمبيا - وتم افتتاحه مؤقتاً بمسرحية (عائدة). وعندما اكتملت جميع تجهيزات هذا المسرح، خصوصاً ألواج الحريم المغطاة، افتتحه رسمياً يوم 2/11/1891 بمسرحية (أفيجيني) أو (الرجاء بعد اليأس)، بطولة سلامة حجازي وسليمان الحداد، وألقى بين فصول العرض المحامي إسماعيل عاصم خطبة عن فوائد التمثيل.

وهذا المحامي – إسماعيل عاصم – ألف عام 1893 مسرحية (هناء المحبين) – وصورة أول صفحة من مخطوطتها هي السابقة - وخصّ بها فرقة إسكندر فرح دون باقي الفرق لتمثلها، وتوصل – المؤلف - بما له من نفوذ إلى أن الفرقة تمثلها بالأوبرا الخديوية، وكانت هذه هي المرة الأولى التي تمثل فيها فرقة إسكندر فرح في الأوبرا، ووصل اهتمام المؤلف بهذه المسرحية إلى أن مثّل فيها أحد الأدوار، وكان بذلك أول محامٍ مصري يعتلى خشبة المسرح كهاوٍ. ولأهمية هذه المسرحية حضرها الخديوي وكبار رجال الدولة، وتم عرضها يوم 8/4/1893.

ومع بداية عام 1896 بدأت القصور الخديوية في أجمل زينتها للاحتفال بزواج نعمت هانم شقيقة الخديوي، وكانت لفرقة إسكندر فرح الشرف دون باقي الفرق في تقديم عروضها على مسرح خاص بني لهذه المناسبة في قصر القبة، ومثلت الفرقة مسرحيات: أنس الجليس، وأبو الحسن المغفل، مع فصول مضحكة منها فصل (نسيم).

وفى عام 1897 أصبحت فرقة إسكندر فرح من أشهر الفرق المسرحية في مصر، حيث قرظتها جريدة (الكمال) يوم 7/11/1897، قائلة: " لا تعجب إذا ظهر جوق حضرة الفاضل إسكندر أفندي فرح في تمثيله العجائب والغرائب وكثر الازدحام على أبوابه فإن من حضر ليلة الأربعاء والجمعة الماضيتين وشاهد بعيني رأسه في أولاهما رواية (صلاح الدين الأيوبي) لا بد أن يكون أندهش من أمرين الأول من جودة ملابس الجوق والثاني من التمثيل أما الأول فنشكر عليه مدير الجوق وأما الثانى فنشكر عليه حضرة الفاضل البارع الشيخ سلامة حجازي الذي سار بهذا الجوق شوطاً بعيداً وإذا أردنا أن نثني على مشخصي رواية صلاح الدين في تلك الليلة وأردنا أن نعدد أسماءهم لاحتجنا لجريدة من الجرائد التي تحب أن تملأ صفحاتها بكل كلام ولكن جريدة الكمال مع وفرة موادها تثني على حضرة الشيخ سلامة وعلى الست لبيبة وحسين أفندي حسني صاحب دور صلاح الدين الأيوبي وأحمد أفندي فهيم صاحب دور قلب الأسد فإنهم أجادوا الإجادة المطلوبة. وفي ثانيتها رواية (السيد) أو الغرام والانتقام وهي الرواية التي يجل قدرها كل عارف باللغة الفرنساوية وقد ترجمها إلى اللغة العربية حضرة الرصيف المفضال نجيب أفندي حداد أحد أصحاب جريدة لسان العرب الغراء وشخصها جوق حضرة إسكندر أفندي فرح لأول مرة وقد حازت الاستحسان العام وازدحم المرسح ازدحاماً عظيماً حتى أن ثمن اللوج كان يساوي ماية غرش صاغ والكرسي عشرون غرشاً صاغاً وقد صفق الناس تصفيقاً حاداً لحضرة المعجب المشخص المتفنن الشيخ سلامة حجازي وللسيدة لبيبة ولحضرة علي أفندي وهبي لزيادة سرورهم".

وظلت فرقة إسكندر فرح ناجحة بقية أعوام القرن التاسع عشر، وكانت أفضل فرقة مسرحية في تاريخ الفرق المسرحية في هذا القرن؛ بسبب وجود الشيخ سلامة حجازي، بدليل أن هذه الفرقة انهارت عام 1905، عندما انفصل عنها سلامة حجازي، وكوّن لنفسه فرقة مستقلة. ولم يستطع إسكندر فرح الاستمرار بدون الشيخ سلامة، فقد لازمه الفشل إسكندر فرح في جميع الفرق المسرحية التي حاول تكوينها، حتى وفاته عام 1916.

المسرح المدرسي

يعتقد أغلب الدارسين أن النشاط المسرحي للمدارس في مصر، بدأ عام 1936، عندما اعترفت به وزارة المعارف فأنشأت له تفتيشاً خاصاً بقيادة زكي طليمات أول مفتش للتمثيل بوزارة المعارف العمومية. والحقيقة أن النشاط المسرحي للمدارس كان أسبق من هذا التاريخ، وبالأخص نشاط المدرسة السعيدية، والتوفيقية، والخديوية في عشرينيات القرن الماضي، ولا أظن أن باحثاً من قبل استطاع أن يصل في تأريخه لهذا النشاط أبعد من ذلك، غير المرحوم الدكتور محمد يوسف نجم.

وأول نشاط مسرحي مدرسي في مصر كان في عام 1870، عندما نشرت مجلة (وادي النيل) تغطية شاملة لأول مسرحية مدرسية تمثل من قبل طلاب مدرسة العمليات أي مدرسة الصنائع والفنون (مدرسة الهندسة)، مع ذكر أسماء الطلاب، بوصفها أول قائمة لممثلين مصريين هواة في تاريخ المسرح المصري. وهذه التغطية كانت بعنوان (امتحان تلامذة مدرسة العمليات المصرية)، أما العرض المسرحي فكان بعنوان (أدونيس) أو (الشاب العاقل المجتهد في تحصيل العلم الكامل)، من تأليف (لويس) مدرس اللغة الفرنسية في المدرسة.

ومن الصعب تتبع جميع الأنشطة المسرحية، التي تمت في المدارس المصرية طوال القرن التاسع عشر، لذلك سنشير إلى أهم المدارس التي تميزت بنشاط مسرحي منتظم ملموس في هذا القرن، ومنها: (مدارس الفرير) .. التي تُعدّ بفروعها وجمعياتها المنتشرة في مصر من أهم المدارس التي مارست النشاط المسرحي في القرن التاسع عشر. ففي يناير 1890 مثلت جمعية تلامذة مدرسة الفرير القدماء رواية هزلية فرنسية في ساحة المدرسة، وفي ديسمبر 1893 مثلت شركة التلامذة المتخرجين في مدرسة الفرير رواية (الملك والوزير والحشاش والظريف)، ثم فصل مضحك بعنوان (الأدباتي) بالأوبرا الخديوية، وفى فبراير 1894 مثلت جمعية المتخرجين بمدرسة الفرير إحدى الروايات بالأوبرا الخديوية أيضاً، كما مثلت الجمعية نفسها في إبريل 1896 رواية (محاسن الصدف) بالأوبرا، وفي أبريل 1898 مثل طلاب مدرسة الفرير بالمنصورة رواية فرنسية بمسرح التفريح ([4]).

وآخر حفلة لمدارس الفرير في القرن التاسع عشر، كانت في 2/6/1899، وقالت عنها جريدة (مصر): " أزدحم تياترو حديقة الأزبكية مساء الجمعة الماضية بالأدباء والفضلاء لحضور رواية (لافيل ده ثامبور ماجور) التي قدمتها جمعية التلامذة المتخرجين من مدارس الفرير وخصص دخلها لمساعدة التلامذة الذين يتعلمون مجاناً فيها وقد قام رجال الجوق الإيطالي بتمثيل هذه الرواية تمثيلاً أعجب الحضور وأطلق حضرات أعضاء لجنة الجمعية سرباً من الحمام الأبيض فطار في المرسح كأنه يحمل شكراً منهم للممثلين ولجميع الحاضرين ثم شنفت الست ملكة سرور الآذان بصوتها الرخيم وقدمت إليها سلة من الزهور دليلاً على الاستحسان فتناولتها شاكرة ".

أما (مدرسة العائلة المقدسة)، فتعدّ الثانية من حيث الاهتمام بالنشاط المسرحي المدرسي في مصر – في القرن التاسع عشر - وبدأت هذه المدرسة نشاطها بتمثيل مسرحية (أخو الخنساء) عام 1896، من تأليف الأب أنطون رباط اليسوعي مُدرس اللغة العربية بالمدرسة. وفي عام 1897 مثلت المدرسة مسرحية (أصحاب الأخدود)، وقالت عنها جريدة المقطم في 25/1/1897: " احتفلت مدرسة العائلة المقدسة في العاصمة أمس بعيد المدرسة السنوي فتصدر الحفلة صاحب السعادة فخري باشا ناظر المعارف والأشغال العمومية وكان عن يمينه صاحب السعادة عنانى باشا وحضرها جناب المسيو برتران من قبل فرنسا والكونت زلوسكي وكثيرون غيرهم من الكبار والوجهاء. فمثل التلامذة أعضاء المحفل الملقب بمحفل شهداء نجران رواية كانوا قد ألفوها بالاشتراك تحت إدارة حضرة مدير المدرسة وهي رواية (أصحاب الأخدود) أخذوها عن بعض كتّاب العرب مثل ابن الأثير والرازي وقسموها إلى ثلاثة فصول الأول موضوعه نجران أيام الجاهلية والثاني الحرب والثالث الاستشهاد فأجاد الممثلون كل الإجادة وكانت الموسيقى العربية تتخلل الفصول وانصرف الحضور وهم يثنون على حضرة مدير المدرسة ويدعون للمدرسة بالتقدم والفلاح".

أما (عبد الله النديم) – المُلقب بخطيب الثورة العُرابية - فيُعدّ أحد رواد المسرح المدرسي في مصر؛ فقد بدأ نشاطه في هذا المجال عام 1879 عندما كان مديراً لمدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية بالإسكندرية، حيث كوّن من الطلاب جماعات للخطابة والتمثيل، وكتب مسرحيتين، هما: (العرب) و(الوطن وطالع التوفيق) - وقد نشر شقيقه بعضاً من حوارهما في كتاب (سلافة النديم) - وكان يقصد من كتابتهما تدريب الطلاب على أساليب الخطابة. ولم يكتفِ هذا الرائد بالتدريب النظري، بل أتبعه بتدريب عملي؛ حيث مثّل مع طلابه المسرحية الثانية على مسرح تياترو زيزينيا بالإسكندرية عام 1881. وقد نجحت المسرحية نجاحاً كبيراً لما اشتملت عليه من نقد للعيوب الاجتماعية والسياسية في مصر.

النقد المسرحي

هناك اعتقاد خاطئ بأن المسرح في مصر في القرن التاسع عشر، لم يعرف الكتابات النقدية!! والدليل على عدم صدق هذا الإدعاء، ما نشره الأديب محمد أنسي عام 1870 في مجلة (وادي النيل) عن عرض مسرحية (سميراميس)، التي عُرضت في الأوبرا الخديوية. وفى هذا المقال نجد الناقد يتحدث - بفهم ووعي لطبيعة المسرح - عن أهمية وجود المسرح في مصر، ويأمله من تعريب هذه العروض المسرحية، التي تمثل بالأوبرا قائلاً: " إن ذوقية الملاعب التياترية قد أخذت في الانتشار بالديار المصرية في هذه الحقبة العصرية، وهي بدعة حسنة وطريقة للتربية العمومية مستحسنة من حيث ما يترتب عليها من تفتيق الأذهان وتصوير أحوال الإنسان للعيان حتى تكتسب فضائلها وتجتنب رذائلها إلى غير ذلك من الفوائد الجميلة والعوائد الجليلة. ويا ليته يحصل التوفيق لتعريب مثل هذه التأليفات الأدبية وابتداع اللعب بها في التياترات المصرية باللغة العربية حتى ينتشر ذوقها في الطوائف الأهلية فإنها من جملة المواد الأهلية التي أعانت على تمدين البلاد الأوروبية وساعدت على تحسين أحوالهم المحلية".

وفى عام 1870 أيضاً، نشرت المجلة مقالاً نقدياً آخر عن عرض مسرحية (فوست) بالأوبرا، نجتزئ منه هذه العبارات، لندلل بها على فهم النقاد لطبيعة المسرح: قالت المجلة: "التياترو ...... هو عبارة عن تصوير بعض الحوادث التاريخية والوقايع الزمنية مع تخلله بالألحان الموسيقية فهو يجمع بهذه الطريقة التفننية بين لذات الحواس الظاهرية والباطنية ...... ولا ينبغى أن يتوهم أن اقتصاصها هو مجرد حكاية وقائع الرجل المنفسد الأخلاق المسمى فوست وقصة مصائب الفتاة المسكينة المسماة باسم مرجريته هذه كما يحكي لنا قصاصنا حكاية ألف ليلة وليلة أو سيرة عنترة بن شداد مثلاً بل هي حكاية بطريقة شعرية عجيبة وكيفية سحرية غريبة على لسان فوست ذاته بحيث يقص بنفسه قصة ما أصابه من العشق والغرام واعتراه فيه من خيبة الأمل والآلام وتقص مرجريته بذاتها أولاً قصة ما كان قائماً بها من صفات العفة وبساطة الأخلاق ثم كيفية وقوعها بإغواء الشيطان في شرك الفساد والنفاق ..... وكل ذلك يتراآى للعيون على مثال عجيب ومنوال غريب جداً بحيث يتصور للناظر أنه عين اليقين وبينما البصر يتلذذ برؤية مجموع تصوير هذه الهيئات التي تتعاقب صورها وتتوالى مناظرها على ميدان اللعب بحيث يشاهد كلما انكشف الستار منظراً جديداً وملعباً مفيداً وتتلذذ الآذان بما يتخلل ذلك بواسطة طقم الموسيقى من بديع الأنغام والألحان إذ تمتلئ القلوب بالشفقة على حال مرجريته المسكينة وتشتد من الغضب والنفور من الشيطان الغرور ويعترينا حينئذ من الحزن والانقباض كما لو اعترانا بعض الأمراض أو حصل لنا مصاب في بعض الأقارب والأحباب سواء بسواء ومتى رجعنا إلى منازلنا من بعد رؤية هذه المناظر العجيبة ومشاهدة هذه الملاعب الغريبة نقول في أنفسنا إن العلم ولو بلغ من الاتساع فإنه يضر بصاحبه إذا لم يكن مصحوباً بالدين وأن الأولى بالإنسان أن يبقى بحالة الجهل من أن يتحلى كمثل فوست هذا بقلائد العرفان إذا كانت قد أودت به وأدته للوقوع في النيران ويرينا الاعتبار بمصائب مرجريته هذه ما قد يحصل لبعض البنات البريات في العشائر والفامليات ذوات البيوتات من الوقوع في مثل هذه المصيبة الخطيرة ..... فنعتبر بتلك الآثار أجمل الاعتبار ونستنتج من ذلك أنه يجب أن يكون مطمح الأنظار في تربية البنات ما أمكن هو حسم مادة هاتين الرذيلتين اللتين تكونان غالباً هما السبب في سقوطهن في مهاوي الإغواء وإيقاعهن في أشد البلوى وهما شدة الميل للزهو والبهرجة وحب الزينة المبهجة".

وفي عام 1888 نشرت مجلة (الراوي) مقالاً عن معنى النقد المسرحي، تحت عنوان (الانتقاد)، قالت فيه: "علمتنى التجارب أن الانتقاد مرقاة الكمال وأنه الواسطة الوحيدة لإطراح رداء الجهل ولذلك نرى أمم المدنية وشعوب الحضارة ورجال الأدب وأهل العلم معتمدين عليه يخصصون له ساعات برمتها ويصرفون عليه من أوقاتهم الثمينة ما يضنون به على سواه من أعمال الأدب وأشغال الصناعة والعلم ولعمر الحق أن البلاد التي نتمثل بها في دقة الصنائع وتقدم المعارف وانتشار الآداب ونحاول التشبه بها في المدنية والحضارة والحرية والمساواة لم تصل إلى الدرجة التي نراها فيها ولم تبلغ المنزلة التي بلغتها إلا بالانتقاد فكم بينهم من عالم وكم من كاتب وخطيب وشاعر وصانع برع في عمله وحذق في مهنته ونبغ في عمله وأصبح في مقام تخفض له الرؤوس والهام وما كان تقدمه وفلاحه إلا بما يراه من نقد العارفين ويؤخذ عليه من الخطأ والغلط الذي أتاه وهو غير عالم به. وكيف يرجى تقويم أودٍ وإصلاح خطأ وفاعله لا يدري به ولا يعرف إلا أنه مصيب في قوله محسن في عمله أيهبط عليه وحي من السماء أم يجيئه ملك ليبين له موضع الغلط ومحل الهفوة فيسعى في إصلاحهما. أم حظرت علينا كلمة الحرية وحكم علينا بالخمول حتى لا تقوم للعرب قائمة ولا ينهض للغتهم ساقط .... كيف لا نترك مؤلفاً ولا عملاً دون أن تنتقده وتظهر غثه من سمينه سالكة في ذلك مسلك الجد طالبة كمال العمل فإذا كان أهل تلك البلاد وهي في زهوة المدنية وقمة الحضارة ويانع العلم وباهي الآداب والتقدم والنجاح تطلب المزيد وتشكو القصور والإهمال والفتور فماذا نقول نحن وبأي كلام بقى قومنا يخاطبون. تلك حزازة صدر أودعتها القرطاس مستلفتاً إليها أنظار الأدباء ليمعنوا فيها النظر حتى إذا رأوني مصيباً يعملوا بالانتقاد عملاً يكفل لنا الإصلاح والفلاح".

كما نشرت المجلة مقالة أخرى بعنوان (التمثيل)، قالت فيها: "رأي لنا في التمثيل اقتبسناه بطول التجربة والاختبار .... نقول إن الروايات مرآة الأخلاق تنعكس بها آشعة عادات الأقوام الغابرين وتظهر على وجهها عوائد القوم الحاضرين فتظهر للرائي في شكل من التمثيل لا يظنه إلا واقعة جارية تحت أبصاره. والناظر إلى مشهد تمثل به أشخاص عديدون يميل بالطبع إلى الصالح منهم وينفر من رجال السوء فيكتسب الحسن من خصال البعض ويصحبه وينظر إلى القبيح من أفعالهم فيتجنبه فلذلك يجب في الروايات مهما كان مغزاها ومبناها أن يكثر فيها الحث على العمل الجيد والحذر من الدنيئات وأن تختم بخذل اللئيم الخسيس والظالم المعتدي والمتكبر الجائر والمرائي المخادع والغادر الخائن والنمام الواش .... وإظهار شأن الفاضل العفيف المحسن الباسل المقدام ورفعه إلى منزلة تثير الغيرة في نفوس الناظرين فتتولد في صدورهم الرغبة في محاكاة أفعاله واتباع خطة سيره. ولما كانت الروايات مقصود بها تهذيب الطباع وتثقيف الأخلاق وإفادة الناظرين كان لابد فيها من براعة الإنشاء وحسن النسق في التأليف وإيراد حوادثها بكلام فصيح وتعبير رشيق يؤثر في النفوس ويكون له في قلوب السامعين وقع حسن. ويجب مع ذلك أن تخلو الرواية من الألفاظ البزيئة والتعبيرات السفيهة وأن يحافظ فيها على الآداب وقواعد التهذيب لكي تتم بها الفائدة ولسنا ننكر أن الروايات التمثيلية مطلوب فيها شيء آخر وهو تسلية الخواطر وإبهاج العين والناظر وتشنيف الآذان ولهو البال وبالنتيجة فإن هناك غاية أخرى غير الاستفادة فهي قضاء ساعة طرب وسرور فإذا لم تكن الجوقة الممثلة مستعدة كامل الاستعداد من حيث الأهلية للتمثيل والعلم بمواقع التأثير مع لمحة جمال على وجوه الممثلات ورخامة صوت وحسن غناء في أفواه المغنين والمغنيات لم تف بالغرض المقصود ولم تأت بالغاية المرغوبة".

أما نقد النصوص المسرحية، فكان له نصيب أيضاً من مقالات مجلة (الراوى)، عندما قالت في 1/9/1888 ، تحت عنوان (رواية عواقب الأمور في الحسد والغرور): " هذا عنوان كتيب ليوسف أفندي جورجي المحامي أمام المحاكم الأهلية لفقه قصة لا يعرف أولها من آخرها وأصدرها في ثوب من اللغة خلقه اتسعت فيه الخروق حتى عجزت عنها إبرة الرافئ. وإنا نأخذ على حضرة الكاتب تعرضه للتأليف دون أن يكون على استعداد لشيء من أنواع الإنشاء فإنك ترى الرواية مشحونة بالأغلاط المتنوعة الأشكال حتى تكاد لا تخلو فيها عبارة من التشويش والغلط. فنحن وإن نكن نثني على همته ونشكر له سعيه في طريق الأدب إلا أننا ننصح له أن يقرأ أولاً قواعد اللغة ويطالع كتب الإنشاء فتحسن عبارته وتسلم جملته ثم يكتب ويؤلف. هذه كلمة نسوقها على سبيل التذكير والنصح راجين من صاحب الرواية غض الطرف عما دميناهُ به فما هو إلا صادر عن إخلاص نية وصدق خدمة للآداب وذويها والله المستعان. وما نخص بهذا القول رواية جناب المحامي فقط بل نوجهه على حد مثل من يخاطب الجارة لتسمع الكنة فلقد أطلعنا عند أحد الأصدقاء على كتاب ضخم الحجم كبير القطع عنوانه رواية (زنوبيا) نموذج السيدات فخبط في كتابته خبط عشواء وجاء فيه بعبارات مشوشة مشحونة بالأغلاط وحشاه من الألفاظ العامية ما جعلنا نظن عند أول وهلة أنه قصد به تسلية سائقي المركبات وأمثالهم من أولاد الطرق والشوارع. ولكنا لما رأيناه يستبيح الكتاب عذراً في تطفله على مائدة التأليف وعفواً عما ربما يقع له فيه من الهفوات علمنا أن صاحبنا ممن يحسبون التأليف جمع كلمات إن طابقت قواعد اللغة أم خالفتها. ثم رأينا له في ختام كتابه الذي جعل ثمنه الزهيد ثلاثة فرنكات إعلاناً عن رغبته في طبع كتاب آخر من مثله وأنه لا يضعف همته ما قد يراه من انتقاد البعض على عمله أو عدم استحسانهم له".

وهناك مقالات نقدية كثيرة عن العروض المسرحية، التي عُرضت في القرن التاسع، نختار منها مقالة جريدة (مصر) يوم 2/8/1899، وهي عن تمثيل مسرحية (عطيل)، وفيها قال الناقد الفني: " حضرنا أمس تمثيل رواية أوتلو التي وضعها شكسبير الشاعر الإنكليزي الطائر الصيت في مرسح العتبة الخضراء يمثلها جوق حضرة الممثل البارع سليمان أفندي القرداحي فعرفنا من تفنن أوتلو في إلقائه وتمثيله ومن إحسان يعقوب في تحايله أن التمثيل العربي قد يمكن أن يبلغ يوماً من الأيام الدرجة التي يناظر بها التمثيل الأفرنجي بالنظر إلى استعداد المشتغلين بهذا الفن وقابليتهم للتقدم والارتقاء ولقلة مؤلفي الروايات في الشرق قياساً على فقر الأجواق العربية وعدم وجود شعب ينشط هذا الفن الجميل ويرقيه تجد الروايات التمثيلية قليلة لا تتجاوز الطيبة منها اثنتين أو ثلاثاً. ولخوف أصحاب الأجواق أن يمل تمثيل رواية تجدهم يبدلون أسماءها كما اضطر ممثل أوتلو أمس أن يلقب هذه الرواية التي طبعت شهرتها الآفاق بأم العجائب والغرائب أو رواية الخائن سيده وهذا لا يمكن تلافيه إلا بتقدم هذا الفن وغناه الذي يحمل كتاب العربية بعدئذ على الانصراف إليه بمؤلفاتهم وبنات أفكارهم".



([1])-ينظر: عمر وصفى - التمثيل منذ 40 سنة - مجلة روز اليوسف - عدد 20 - 24/3/1926 - ص(14)، و توفيق حبيب - تاريخ التمثيل العربي - مجلة الستار - عدد 15 - 9/1/1928 - ص(23).

([2])-محمد شكري - مجموعة التياترو - مطبعة الرغائب - أكتوبر 1925 - ص(21).

([3])- عمر وصفي - التمثيل منذ 40 سنة - مجلة روز اليوسف - عدد 20 - 24/3/1926 - ص(14).

([4])-راجع: جريدة المقطم - عدد 279 - 27/1/1890، وعدد 1452 - 22/12/1893، وعدد 2151 - 21/4/1896، جريدة الرشاد - عدد 4 - السنة الثانية - فبراير 1894.

المصدر: محاضرات الفرقة الرابعة بكلية دار العلوم جامعة المنيا، وهي محاضرات مستخلصة من كتاباتي المنشورة في الكتب والبحوث المختلفة
sayed-esmail

مع تحياتي ... أ.د/ سيد علي إسماعيل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 1130 مشاهدة

ساحة النقاش

أ.د سيد علي إسماعيل

sayed-esmail
أستاذ المسرح العربي بقسم اللغة العربية - كلية الآداب جامعة حلوان »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

752,100