"ما أروع نسائم الخريف في أكتوبر"، هكذا حدثتني نفسي، وإن النفس لأمارة بالسوء أحيانا، إذ كنت أبتسم لها وأمنيها بأمسية خريفية استثنائية، نستمتع معا فيها بصحبة كتاب جديد، عانى طويلا من الوحدة على مكتبي، ينتظر يدا حانية تمتد لتقلب صفحاته، منذ أكثر من شهرين. وحيث تهيأت نفسيا للسهرة، وتذكرت ما تعلمناه بدرس الجغرافيا بمدرستي الابتدائية - أيام كان هناك تلاميذ يتعلمون بالمدارس - وما طفقنا نردده وراء معلمتنا الجليلة، رحمها الله، حول لطافة المناخ ونعومة الجو بمصر في فصلي الربيع والخريف. فجلست في شرفة منزلي أحتسي فنجانا من الشاي عصر أحد أيام أكتوبر، وأرسلت ناظري عبر نيلنا الساحر وريفنا الأخضر الوارف والشمس تميل للغروب، في تأمل عميق لإبداع الخالق العظيم، مستدعية من خزائن ذاكرتي كل ما يناسب الموقف من ألوان الفنون وصور الإبداع، بدءا من "شمس الأصيل" التي طالما ذهبت خوص النخيل، وفقا لرواية الست أم كلثوم، ووصولا إلى "نسمة الجنوب" التي تجاوزت يوما وداعبت وجنتي الحبيب فغار عبدالوهاب
جمال الأصيل هل يقتله الدخان
وكنت هكذا على هذه الحال الوادعة، قبالة لوحة من الطبيعة الناعمة، وفي هذه الظروف التي ظننتها مناسبة، والمؤشرات التي رأيتها حينئذ مبشرة، فسميت بالله، واستفتحت بأم الكتاب، وشرعت نشطة في تصفح كتابي، ولكن لأسفي لم يهنأ بالي إلا لدقائق معدودة، إذ فاجأتني على حين غرة – قاتل الله هذا النوع من المفاجآت – نسائم محملة، ليس بروائح الورود ولا بعبير الزهور، وإنما ولدهشتي بكل ما هو مؤلم وسام وحارق من أنواع الأبخرة وألوان الأدخنة البيضاء والرمادية والسوداء، تهاجم بها بصورة شرسة وبلا هوادة عيناي وأنفي وحلقي، فما عرفت أعزتي إن كانت رياحا شرقية أو غربية، وما ميزت إن كانت قادمة من الشمال أم الجنوب، وما استطعت سادتي لهجومها صدا، ولا لأسلحتها الفاتكة ردا، فآثرت انسحابا تكتيكيا كريما ينجو بما تبقى سليما من حواسي المحترقة المعذبة، على هزيمة نكراء في معركة غير متكافئة أخوضها مع عدو جهول، مجهول الهوية غير معلوم الأصل ولا النسب، يحارب بلا قضية، ويؤذي بقسوة وعن عمد ضحايا أبرياء بلا تمييز. وبالرغم من أنني أسرعت فلملمت أوراقي وأغلقت أبوابي ونوافذي وتحصنت لاجئة بجدران بيتي، إلا أن الروائح الكريهة والأبخرة السامة والأدخنة المؤذية لاحقت فلولي الهاربة، وطاردتني بغير رحمة مقتحمة كل منفذ إلى داخل منزلي، فقضيت ليلي مؤرقة، أشكو حرقة في عيني، وجفافا في حلقي، وصداعا في رأسي، وضيقا في نفسي، وحساسية مؤلمة في أنفي وجيوبها التي كنت أظنها خاوية.
واستيقظت سادتي بعد نوم متقطع بائس على ذات الحال التي دخلت عليها سريري، بل وأسوأ، وغادرت لعملي ومستشفاي لأجد حال الناس في كل مكان ليس بأفضل من حالي، والأخبار المؤسفة تترى من وسائل الإعلام عن سحابات سوداء ومن كل الألوان ناتجة عن حرق تلال من قش الأرز وجبال من القمامة. ومرت أيام تلتها ليال، والحال كما هو الحال، والكل يتساءل، إذا كان هذا هو حالنا ونحن لسنا من كبار زراع الأرز ومنتجيه، فبالله عليكم، ماذا كان يمكن أن تكون عليه أمورنا لو كنا من بين هؤلاء؟!، بل ولقد تجاوز البعض في التساؤل، قاتل الله حرية التعبير، عن الكيفية التي تتعامل بها مع القضية مجتمعات غيرنا يشكل الأرز فيها محصولا زراعيا رئيسيا؟. وبالطبع، وكعادتنا في هذا التوقيت من كل عام، ضج الناس بالشكوى، وعلا صوتهم بالحيرة والتساؤل، بلا إجابات شافية، وبلا خطة موضوعة، أو على الأقل معلنة، وبالتالي بلا وعود مقطوعة، بتلافي وقوع أزمات من هذا النوع مستقبلا. وبالرغم من التحسن النسبي للمشكلة في الأيام الأخيرة من شهر أكتوبر،
إلا أن ضحايا هذه الحرب الشرسة من مرضي حساسية العين والأنف والصدر ما زالوا يتساقطون ويعانون ويتعذبون، في معركة ليس فيها من كاسب، سوى جيوب أساتذتنا وزملائنا من أطباء الأنف والصدر والعيون، اللهم لا حسد. ولا عزاء لمرضى الحساسية من المصريين، الذين ليس لهم إلا أن يلوموا أنفسهم إذا سولت لهم مرة أخرى الخروج إلى الهواء الطلق أو التمتع برحلة خلوية في هذا الوقت من العام. توبة من بعد النوبة، أقولها بكل صدق. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ساحة النقاش