رؤيتي المتواضعة أنه ليس فقط من حقنا وواجبنا المناقشة والتعليق على ما يجري في مصر من أحداث، بل أنه واجب وحق أصيل لكل مصري أن يشارك في صناعة وصياغة وتشكيل الواقع الجديد -كل بقدر علمه وطاقته- الذي يولد بتضحيات أولادنا ودمائهم الطاهرة في مخاض عسير على أرض مصر الآن. وأرجو أن يتوقف كل منا ليسائل نفسه -بعيدا عن اعتبارات الحماسة والعاطفة- هل نريد حقا لهذا الجنين أن يولد ناضجا مؤهلا للبقاء في بيئة صحيحة ومناخ سليم فينمو نموا متسارعا متصاعدا بإذن الله، أم نريد له أن يولد مشوها مبتسرا فينمو نموا عليلا بطيئا مشوشا متعسرا متعثرا، أو أننا نريد أن نجهض هذا الجنين أو أن نئده في مهده فيعود الحال -ولو بعد فترة قد تطول أو تقصر- إلى وضع قريب أو مشابه لما كان عليه قبل هذا التاريخ المهيب المشهود: 25 يناير 2011؟.
في البداية أرى أنه يتوجب علينا أن نعترف أنه ولأول مرة منذ زمن طويل، ربما يفوق طول أعمارنا، نشعر أننا بإزاء ما أطلقوا عليه في السابق -مبالغة أو مجاملة أو بهتانا- "المنعطف التاريخي"، فبأيدينا نستطيع الآن أن نستخلص لوطننا –وربما لأمتنا العربية كلها- أفضل النتائج من هذه "الانتفاضة الشبابية العفوية" التي انضمت لها لاحقا كل ألوان الطيف السياسي -الفاعل منها والخامل- لتتحول إلى كرة ضخمة من الثلج تتحرك بقوة وتنطلق متسارعة لتسبق في حركتها ونموها وتفاعلها كل استجابات المؤسسسات الهيكلية القائمة والتي اعتادت في الغالب أن تحتفظ لنفسها بموقف رد الفعل القاصر والمجزأ والبطيء، ربما بسبب ما يعانيه النظام ومؤسساته منذ فترة ليست بالقصيرة من مظاهر متزايدة لا تخطئها العين لاسترخاء وترهل ورخاوة وشيخوخة وتفكك وتحلل الدولة، ولتكتمل لهذه الانتفاضة بذلك كل المعالم الشرعية لما يسمى بـ "الثورة الشعبية".
ومن جانب آخر بإمكاننا -إذا تغلب صوت العواطف والمشاعر على اعتبارات العقل والحكمة والضمير الوطني، وإذا ارتفعت دعاوى الولاء للفرد على قيمة الانتماء للوطن- أن نقزم هذه الثورة وأن نهدر دماء شهدائها فتتحول من "نقطة مفصلية في تاريخ تحرر ونهضة الوطن وتقدمه نحو إقامة دولة مدنية ديمقراطية مؤسسية عصرية حديثة" إلى مجرد "حركة احتجاج مطلبي" تتمخض عن بعض الإصلاحات الجزئية، فنجهض بهذا حلم شباب الأمة ونبيعه بحزمة مبتسرة من الإصلاحات الاقتصادية أو الرشاوى السياسية.
وفي هذه اللحظة التاريخية فعلا والحرجة حقا، وحتى لا تأخذنا الحماسة فنقفز إلى نتائج قد تكون انفعالية أو قاصرة أو خاطئة، أتصور أن يتوقف كل منا ليسأل نفسه عددا من الأسئلة:
الأول: لقد اعتدنا تاريخيا أن نتعامل مع الحاكم -كل حاكم- على أنه الأب والملهم والقائد والزعيم (في اعتراف ضمني بصحة ما قاله أحد السادة من رؤساء الوزارة السابقين بأننا شعب قاصر)، فهل نود أن نبقي في المستقبل على هذا النوع من العلاقة، أم أننا نشعر (أو أجبرنا شبابنا الحر أن نشعر) بأننا قد شببنا عن الطوق ونستحق أن نغير طبيعتها ليكتسب الحاكم (وكل مسئول) شرعية وجوده واستمراره في المنصب من القبول الشعبي والتوافق الجماعي، فيكون الحاكم "خادما للشعب" وليس "وصيا عليه"؟.
(ملحوظة: كل حاكم ومسئول في كل الدول الديمقراطية يطلق عليه
"Public Servant" وهم بالمناسبة لا يشعرون بأية غضاضة، بل ويشعرون بالفخر، لحمل هذا اللقب).
الثاني: هل النظام الحاكم -أي نظام- يمكن اختزاله فقط في شخص الحاكم، أم أن هناك بالضرورة عددا من المؤسسات التي تخطط له وتسانده وتدعمه وتحدد له أولوياته وتنفذ له سياساته وبرامجه؟.
الثالث: فماذا إذن إذا كانت هذه المؤسسات -وبسبب احتكارها الممتد للحكم وانفرادها الطويل بالجمع بين مقاليد السلطة ومفاتيح الثروة- قد تحولت من خدمة الشعب إلى تكريس وحماية مصالحها من خلال الإبقاء على النظام القائم لأطول فترة ممكنة تحت دعاوى حماية وحب الحاكم، فاستبدت حتى طغت، وفسدت حتى تعفنت، من أعلى رأسها وحتى أخمص قدميها، إلا من رحم ربي؟، وماذا إذن إذا كانت هذه المؤسسات قد تشكلت على مدار عقود من الزمن من خلال إجراءات يشوبها التدليس والتزوير والبطلان، ففقدت شرعيتها الشعبية وإن احتفظت بالشكل الهيكلي للشرعية الدستورية؟.
الرابع: هل من المنطقي أن تتطوع الرموز القديمة والمؤسسات الفاسدة والتي اعتادت -حتى احترفت- أعمال التربح والوصولية والانتهازية والانتفاع، والتي ترتبط مصالحها الضخمة عضويا باستمرار النظام، والتي وصلت إلى مواقعها وحافظت عليها بممارسات تفتقد الشرعية الشعبية وإن تدثرت زورا بغطاء من الشرعية الدستورية المصنوعة أو الزائفة أو الشكلية، هل نتوقع من هذه الشخوص والمؤسسات أن تتبنى إصلاحات جذرية تنطلق من قناعات ثابتة وتدعمها نوايا صادقة وتعززها إرادة ماضية ويترجمها فعل نافذ، هل يفعلون ذلك وهم يدركون أن إعمال هذه الإصلاحات سوف يطيح أول ما يطيح بمواقعهم وبمناصبهم وربما بشخوصهم؟. أم أنه من المنطق أن نتوقع منهم التفافا ومناورات لإجهاض مشاريع الإصلاح أو لتقزيمها وابتسارها في أصغر صورة ممكنة؟.
الخامس: إذا افترضنا "جدلا" أن "الحداية ممكن ترمي كتاكيت"، فلنتساءل "حكما": لم لم تتكرم هذه الشخصيات والمؤسسات التي استأثرت زمنا بصلاحيات صناعة واتخاذ القرار بإلقاء كتاكيتها علينا من قبل في صورة الإصلاح السياسي (الديمقراطية) والاقتصادي-الاجتماعي (العدالة الاجتماعية) وغيرها من الاحتياجات الأساسية للعيش الحر الكريم؟، وما الذي يدفعنا للأمل أو يدعونا للثقة في إمكانية أن تتوفر لديهم النية الصادقة لفعل هذا الآن؟.
السادس: أتمنى أن يخيب ظني، ولكن هل أكون مفرطة في التشاؤم إذا تصورت ما يمكن أن يرتب خلال المدة الزمنية الباقية حتى نهاية سبتمبر 2011 موعد إجراء الانتخابات الرئاسية من سيناريو يمكن أن يكون معدا سلفا (وإن كانت شرارة ثورة تونس قد حركت المياه الراكدة وفاجأت النظام فاضطر للتعجيل بتنفيذه) للتعامل مع مثل هذا الموقف الذي يعيشه النظام مع شعب مصر الآن. فمن غير المستبعد أن يعمل النظام سريعا على الإطاحة بالبعض من الرموز الفجة للفساد ككباش فداء ولغسل يد النظام ظاهريا من الفساد والإفساد، متزامنا مع بعض المميزات الاقتصادية كرفع محدود للرواتب وتحسين ضئيل للمعاشات وإلغاء أو تخفيض الضرائب العقارية على سبيل المثال كنوع من الرشاوى المالية لامتصاص حنق الشارع ولتطويق غضب الفقراء ومحدودي الدخل والموظفين، إضافة إلى تنفيذ بعض الأحكام القضائية ببطلان العضوية ببعض دوائر مجلس الشعب مما يسمح بدخول بعض الأعضاء من أحزاب المعارضة والإخوان والمستقلين، تصحيحا جزئيا لأخطاء سياسية فادحة حدثت في انتخابات مجلس الشعب الفائتة، شريطة ألا يخل قبول الطعون باحتفاظ الحزب الوطني بالأغلبية المطلقة وبهامش مريح يتيح للوطني تشكيل الحكومة وتمرير ما يود تمريره من تشريعات من البرلمان، وهو من خلال هذا الإجراء الشكلي يقدم تنازلات محدودة لا تؤثر على استئثاره بالسلطة ولا تخل بوضعية انفراده بعملية صنع واتخاذ القرار كنوع من الرشاوى السياسية لاحتواء أحزاب المعارضة التي تضررت بشدة في الانتخابات الأخيرة للبرلمان. وعندما يهدأ الشارع ولو جزئيا، هنا إما أن يقوم الحزب الوطني بتسيير مظاهرات تطالب الرئيس أو نجله بالترشح للرئاسة بدعوى استكمال مسيرة الإصلاح والبناء في سيناريو شبيه بما تلا خطاب عبد الناصر بالتنحي موديل 67، فيترشح "مضطرا" نزولا على رغبة شعبه، أو أن يحدث تدبير أو تنسيق مخابراتي مصري-إسرائيلي مخطط يوحي بمخاطر محدقة تهدد سيادة البلاد، تحت دعاوى تهويل خوف أو تعظيم رعب إسرائيل -وربما أميريكا أيضا- من قيام دولة دينية على أنقاض النظام الحاكم في مصر، وساعتها بالطبع ستتقدم اعتبارات الأمن القومي على مطالب الإصلاح الداخلي فتتجدد المطالبة بترشيح الرئيس، أو يأتي نجل الرئيس، أو يستمر نظام الرئيس في شخص "محلل" يحكم لفترة قصيرة فاصلة ما بين حكم الرئيس وحكم نجل الرئيس؟. (أرجو قبيل القفز إلى الإجابة أن نستدعي تجاربنا السابقة لعشرات السنين في التعاطي مع فكر هذا النظام).
السابع: ما هي الدوافع الحقيقية لمن يخططون أو يروجون الآن لبقاء الرئيس حتى نهاية فترة حكمه بالمخالفة لرغبة شعبه بالرحيل: هل هي حقا دوافع إنسانية وأخلاقية، كالوفاء والولاء، كما يظهرون؟، أم هي المقاومة الطبيعية لكل تغيير حتى وإن كان إلى الأفضل والأصلح والأرحب، خاصة ممن لم يألفوا أو يشهدوا لعقود أي تغيير لا في الوجوه ولا في السياسات؟، أم هي مناورة لكسب الوقت ولملمة الأوراق المبعثرة وإعادة ترتيب تكتيكات جديدة للالتفاف حول قضايا الإصلاح السياسي تمهيدا لاستمرار نفس النظام المعيب بعد ذهاب الرئيس وبعد إجراء جراحة تجميلية صغيرة تستهدف تحسين صورة النظام أمام قوى الداخل والخارج ببعض الإصلاحات الشكلية أو الجزئية، كما يعتقد المعارضون المتشككون، وهم كثيرون؟.
الثامن: سؤال أخلاقي: أليس من اللائق أن ينهي رئيس مصر فترة حكمه معززا مقدرا، إكراما لتاريخه -مهما كانت أخطاؤه أو خطاياه- واتساقا مع قيمة ومكانة وسيادة دولة كبيرة بحجم مصر؟.
التاسع: سؤال سياسي: ولكن ماذا عن مسئوليته السياسية المباشرة وغير المباشرة عما حدث طوال فترة حكمه تحت سمعه وبصره -وربما في كنف حمايته- من استبداد وفساد وقمع وإرهاب وتنكيل، بما أجهز تماما أو تقريبا على علاقة الاحترام والثقة المتبادلة والتواصل والتفاعل المشترك التي يجب أن تتوفر –بداهة وبداية وتأكيدا وتأصيلا واستمرارا- بين الحاكم وشعبه، وبما أوصل العلاقة بينهما إلى نهاية طريق مسدود؟.
العاشر: ألا يمكن التوفر على صياغة سيناريو بديل يحقق المعادلة الصعبة ويزاوج ويوازن ما بين اعتبارات الإصلاح الجذري غير القابل للالتفاف أو التراجع أو الانتكاس مع تقديم ضمانات كافية -عملية لا شفهية- المعززة للثقة والدالة والمؤكدة لصدق النوايا من ناحية، ومراعاة اعتبارات السيادة والأمن القومي وتحقيق الاستقرار والنقل السلمي الآمن للسلطة والخروج المشرف للرئيس من ناحية أخرى؟.
أعتقد أن الوصول إلى هذا الحل ما زال ممكنا، شريطة توفر النوايا الصادقة والعزيمة الماضية والإرادة النافذة على إحداث التغييرات والإصلاحات الجذرية التي تتسق مع مطالب الأمة ومصالح الوطن، مع إعطاء الضمانات العملية الحقيقية التي تؤسس للثقة المتبادلة، ومع الوعي الكامل من الجانبين –الشعب والنظام- بدقة اللحظة وحساسية الموقف في الداخل والخارج. وهذا هو التحدي الحقيقي الذي تواجهه على أرض الواقع "ثورة شباب الفيس بوك" التي تطورت سريعا لتصبح "ثورة الغضب"، والتي تنتقل بسقف الحلم المصري الذي تجمد طويلا إلى آفاق متصاعدة في كل يوم، والتي تدفعني للقول وبكل ثقة في شبابنا الحر ومن قبله في وجه الله الكريم "أن مصر الآن لا تتحدث وتفصح عن نفسها فقط، وأنها لا تصلح من شأنها وتصحح أوضاعها فحسب، وإنما بتوفيق الله وبالغضبة الشريفة لأبنائها الأبرار هي تتنفس الفجر فتوهب الحياة وتولد كل يوم وتبعث من جديد".
ساحة النقاش