اعتادت آذان المصريين منذ بضع عشرات من السنين على سماع مصطلحات من نوع "اللحظة التاريخية" و"عنق الزجاجة" و"عبور النفق"، حتى فقد التعبير بها الكثير من تأثيره على وعي ووجدان المواطنين. ولكني أستأذن القارئ الكريم في إعادة استخدام هذا التعبير، وأرجو أن يكون استخداما في موضعه، عندما نقول أن مجتمعنا المصري يمر حاليا بمرحلة دقيقة يقف فيها بين الأمل والرجاء على معبر الحضارة عند مفترق الطرق أمام لافتة ضخمة عنوانها "نكون أو لا نكون". ومن السمات الأساسية لهذا المنحنى الخطر الذي تتوقف مسيرتنا عنده اليوم هو اختلال مؤلم في منظومة القيم العامة الحاكمة واختلاط واضح في الكثير من المفاهيم التي كانت تعتبر وحتى وقت قريب ثوابت مؤثرة في العقل الجمعي ومحركة في السلوك الاجتماعي لعموم المواطنين.
فمن أغرب ما يمكن أن يحدث لأمة، بل ومن أسوئه أيضا، أن يصير التقصير والانحراف هو الأصل في القيام بمهام الوظيفة العامة، فيصبح أداء الواجب استثناء من القاعدة يستوجب الإشادة والتكريم والتقدير، وكأن أغلبنا قد فقد القدرة على التمييز بين العادي وما هو أقل منه وما هو أكثر وأعلى وأفضل.
ومن أكثر الظواهر التي تستلفت النظر والتي ربما أقلقت الشرفاء والمخلصين من أبناء هذا البلد الأمين، هي ظاهرة استغلال الوظيفة العامة واستباحة المال العام لتحقيق أغراض أو منافع شخصية، مادية أو أدبية أو سياسية. فلم يعد يثير الانتباه أو الاستهجان أو يؤذي الشعور العام أن ترى موظفا عاما يتقاضى راتبه من أموال دافعي الضرائب -وأغلبهم من بسطاء وعامة المواطنين- يستخدم مقدرات الوظيفة وإمكانياتها، من صلاحيات وخدمات وسيارات وعاملين، وهي كلها أموال عامة، لتحقيق مآرب تخصه، بالرغم من أنه قد تقاضى راتبه وأخذ حوافزه وأثيب ماديا وترقى وظيفيا وكرم إداريا لأدائه ما يتوجب عليه القيام به من مهام وظيفته.
بل ومما يثير الضحك، وشر البلية سادتي ما يضحك، أن تجد من بين أصحاب الوظيفة العامة من يجترئون على إضافة مهامهم الوظيفية -التي يتقاضون رواتبهم لأدائها على الوجه الأكمل- إلى سجل إنجازاتهم الشخصية، يفعلون ذلك بكل علانية وبلا خجل ولا مداراة، وكأنهم وكأن المجتمع في مجمله قد فقد للأسف القدرة على التمييز بين ما هو شخصي وخاص، وما هو ملك عام. ولا يعني هذا أن نغفل تكريم المتميزين، ولكن ما أعنيه بالفعل هو أن نتقي الله جميعا في هذا الوطن وفي أبنائه وفي المال العام، فنستعيد كلنا، أشخاصا ومجتمعا، صحوة وحساسية الضمير، فتزول الغشاوة وتنقشع الغمة ونتمكن من تمييز الغث من السمين. والله من وراء القصد، وهو يهدي إلى سواء السبيل.
ساحة النقاش