جاءت تستشيرني في أن ترتدي النقاب , فقلت لها هذا أمر يخصك , فقالت ولكن ذلك سيستدعي تركي لوظيفتي بالضرورة , فسألتها : ولماذا تتركين وظيفتك وقد تعبت أسرتك حتى وفرتها لك وهي وظيفة حكومية محترمة , وأنت مازلت في الثالثة والعشرين من عمرك وأمامك مستقبل مبشر خاصة وقد كنت من المتفوقات في دراستك ؟ .. ردت بأنها ترغب في التفرغ للدراسات الشرعية وأنها ستلتحق بمعهد إعداد الدعاة ؟ .. فسألتها إن كانت ترغب أن تتحول لداعية فأجابت بالنفي , إذ هي لا تملك مقومات الداعية , ولكنها ستتعلم لنفسها .. وانصرفت وعرفت بعد سنوات أنها تركت وظيفتها وانتقبت , ولم تكمل مشوارها في معهد إعداد الدعاة حيث تعثرت فيه كثيرا , وهي تجلس في البيت ولا تفعل أي شئ سوى التردد على دروس العلم الشرعي المنزلي لدى بعض الدعاة الهواة , وهو يقنعها بأن ما فعلته هو الصواب .
سيدة أخرى تعب والدها وقطع من قوته الكثير لكي تدرس في الجامعة الأمريكية , وتخرجت وكان ترتيبها الثانية على دفعتها وحصلت على شهادة متميزة في علوم الإدارة تبعتها بدورات متقدمة في نفس الجامعة وتعرفت على زميل لها من نفس الجامعة وتزوجا , وكان في تخطيطهما أن يعملا معا في مشروعات خاصة ليحققا طموحاتهما العالية , ولكنها بعد الإنخراط في بعض الجلسات الدينية المنزلية قررت التوقف عن كل شئ والتفرغ لحضور الدروس والندوات الدينية وابتعدت عن معارفها وصديقاتها وحتى عن أسرتها الأصلية , وأصبحت تشعر بالغربة تجاه زوجها , فهو منشغل بالنجاح في مشروعاته الحياتية وهي منشغلة بالآخرة , فانفصلا , وأصبحت تعاني معاناة شديدة في توفير وسائل العيش لها ولولديها وتعتمد في ذلك على ما يأتيها من معونات من إخوتها , ومما يجود به أهل الخير الذين يشاركونها حضور الندوات المنزلية , وهي لا ترى بأسا في ذلك على اعتبار أنها فعلت ما يجعل الله عنها راض فالدنيا فانية والآخرة باقية , وليس من الخير أن تزاحم الرجال في الشوارع والطرقات وأماكن العمل .
شاب قرر ترك الدراسة في كلية الطب , وقد كان من أوائل الجمهورية في الثانوية العامة وكان الجميع يعول على أنه سيكون أحد علماء مصر في الطب نظرا لتميزه الواضح وذكائه المتوقد , ولكنه قرر التفرغ للخروج في سبيل الله حيث انتمى إلى جماعة التبليغ والدعوة وأقنعه بعضهم أن دراسة الطب عمل دنيوي أما الدعوة إلى الله فهي ما سيتبقى له . وشبيه بذلك زميل قبطي رحت أتفقد أخباره لأنني كنت أتوقع أن يحقق إنجازات علمية هائلة في مجاله فإذا بي أعلم بأنه ترك كل شئ وأقام في أحد الأديرة بالصحراء الغربية .
هي للأسف ليست حالات فردية وإنما هو توجه يكاد يكون ظاهرة , حيث يهجر كثيرون من أبنائنا الحياة ويهاجرون إلى الآخرة قبل أن يعمروا الحياة الدنيا , وبينما تمارس الدول المتقدمة تنمية مواردها وتطوير حياتها ورعاية أبنائها وإرساء قواعد التفكير العلمي الذي ينهض بالحياة ويحسن جودتها , نرى انشغالا هائلا في مصر بما يمكن أن نسميه "فرط التدين العشوائي" , وهو نوع من الإستغراق والتشبع بمفاهيم وتصورات دينية بعضها موافق لصحيح الدين وبعضها صناعة بشرية مغلفة بغلاف ديني . وهذا التدين العشوائي يتم على يد أشخاص هواة يميلون إلى زرع توجهات دينية عدمية أو انسحابية أو هروبية , ويتلقاها منهم أشخاص يجدون صعوبات في التكيف مع الحياة فيسعدون بهذه الرؤى الدينية التي لا تتطلب منهم إلا حضور بعض الجلسات الدينية وإقامة بعض الشعائر .
ونظرا للفراغ السياسي والجمود السياسي الذي يميز ربع القرن الأخير في مصر فإن الناس ارتمت في أحضان التيارات الدينية التي تلوح لهم بالخلاص والسعادة في الدنيا والآخرة وتلطف من أثر ما يعانونه في حياتهم اليومية من شقاء . وفي مقابل انعدام الأحزاب السياسية الحقيقية في مصر ترى ازدهارا وتعددا في الجماعات والتيارات الدينية بما يناسب كل الأذواق والتوجهات من أقصى درجات التشدد إلى أكثر درجات التسامح , ومن السلفية الموغلة في التقليد إلى التيارات الموغلة في التحديث والحداثة . والفقر ليس فقط سياسيا وإنما هناك حالة من الفقر المادي وحالة من الفقر العلمي وحالة من الفقر الثقافي , وفوق كل هذا هناك انعدام للأهداف الوطنية أو القومية أو الأممية الكبرى التي تجمع شتات الناس حول مشروع مشترك . وحين قرر السادات أن حرب أكتوبر هي آخر الحروب , وحين ذكر مبارك أن السلام هو الخيار الإستراتيجي الوحيد , وصلت رسالة للناس أن ينصرفوا كل يبحث عن لقمة عيشه بطريقته , فالدولة قد اتجهت إلى الخصخصة , ولم تعد تقوم بدورها في تشغيل العاطلين أو رعاية المرضى , وإن قامت بشئ من ذلك فهو قدر رمزي لا يغطي احتياجات الجماهير الغفيرة . وهنا أصبح كل شخص يبحث عن مشروعه الفردي , واستشرت الأنانية والذاتية لدى الناس وضعفت الروابط بينهم , ولم يعودوا أصحاب وطن واحد بل أصبحوا وكأنهم سكان في مكان جغرافي واحد ليس بينهم أكثر مما بين سكان العمارات من علاقات سطحية عابرة وأحيانا بلا علاقات .
السلفية السياسية والسلفية الدينية :
في انتخابات نقيب الصحفيين الأخيرة رفع جموع الصحفيين شعار: "الكبير كبير ... مش عايزين تغيير" ... وكان غريبا جدا أن يصدر هذا الشعار عن فئة الصحفيين بالذات , والذين يفترض أنهم من النخبة المثقفة وأنهم هم المحركون لوعي المجتمع وأنهم مواكبون للتغيير السريع في العالم وفي االحياة , ومدركون أن التغيير هو سنة الحياة السوية الطبيعية . وربما يفسر لنا هذا بقاء الحال على ما هو عليه في مصر لأكثر من ربع قرن على الرغم من أن الدنيا حولنا تتغير , ويفسر حالة الجمود والركود التي نحياها , فهاهي النخبة الثقافية تعلن انحيازها لبقاء الحال القديم دون تغيير , وأنه ليس بالإمكان أبدع مما كان , وأن الكبار والقدامى على حق دائما , وأن الصغار والشباب والمحدثين لا يصلحون لقيادة الحياة , وهذا هو بالضبط نفس المنظور السلفي الديني , وكأننا الآن في مصر نعيش بين سلفيتين إحداهما دينية والأخرى سلفية , وكلاهما تحاولان تثبيت الزمن على التوقيت القديم وتكفران بكل ما هو جديد أو مستحدث .
والسلفية السياسية (مثل السلفية الدينية تماما) لا تؤمن بتعدد الرؤى والتوجهات , ولا تؤمن بتعايش المختلفين , وإنما تؤمن بوجود حزب واحد لا شريك له في الحكم , ورئيس واحد لا بديل له , وأن الخروج عن هذه الواحدية السياسية خيانة (كما أن الخروج عن عقيدة السلف كفر على المستوى الديني) . ومن هذا المنطلق يصبح هناك توجها نحو نبذ الآخر وإنكاره واستنكاره ومحاولة إلغائه أو على الأقل تطويعه واحتوائه لينضوي تحت اللواء الواحد . هذه هي العقيدة السياسية التي تحكم مصر في الربع قرن الأخير على الرغم من بعض المظاهر والأشكال الديموقراطية التي لا ترقى لمستوى الحقيقة الديموقراطية إلا في مجال واحد وهو حرية التعبير الإعلامي (المشروط) .
التكتلات الدينية المستقطبة :
تحتل الظاهرة الدينية مساحة كبيرة في الوعي المصري بعنصريه المسلم والمسيحي , وربما يرجع ذلك إلى سببين رئيسين : الأول هو تجذر العقائد الدينية على مدى تاريخ طويل من الأديان في مصر القديمة وما تلاها في الحقبة اليهودية ثم القبطية ثم الحقبة الإسلامية حيث احتضنت مصر الأديان السماوية الرئيسية وساهمت بقوة في نشرها على مستوى العالم , الثاني هو حظر الفعل السياسي على المصريين في حقب تاريخية كثيرة مما دفع المصريين إلى الإنصراف إلى لقمة عيشهم ودينهم .
ولما كانت فكرة الأحزاب والتعددية السياسية وتبادل السلطة مرفوضة على المستوى العملي والواقعي (على الرغم من التغني بها ليل نهار ) فإن الناس اتجهوا إلى تجمعات دينية بعضها رسمي وأغلبها غير رسمي وأحيانا محظور , وأصبحت الإنتماءات الدينية بديلا للإنتماءات السياسية . ولما كانت الدنيا تضيق وتضيق بالمصريين فقد تزايدت الأعداد التي تفر إلى الآخرة وتبحث عن طريق الجنة لدى التجمعات الدينية . ومن هنا ازدهرت التجمعات والجماعات الدينية في مصر , وكل منها توحي بالخلاص من عناء الدنيا وتوحي بالوصول إلى نعيمي الدنيا والآخرة , وتقلصت الإهتمامات بجهود إعمار الحياة وتطويرها بالعلم والجهد والإبتكار , وازدحمت المساجد والكنائس وخربت المدارس والمعاهد والكليات والمصانع ومراكز البحث . وانتشرت معاهد إعداد الدعاة ومدارس اللاهوت على أمل أن يتحول أكبر عدد من الناس إلى دعاة ومبشرين . وهذه المعاهد والمدارس الدينية تعطي للدارسين علوما دينية متخصصة جيدة , ولكنها لا تهتم بعلوم الحياة فمثلا لا تعلمهم اختيار شريك الحياة ولا تعلمهم طرق المعاملة بين الزوجين ولا تعلمهم كيف يربون أبناءهم , ولا تعلمهم كيف ينجحون في وظائفهم وأعمالهم ولا تعلمهم قبول الآخر , وإذا أشارت إلى أي من هذه الأشياء فهي إشارات سطحية غير منطقية وغير علمية وغير ناجحة .
وكل مجموعة دينية تعتقد أنها تمتلك الحقيقة المطلقة وبالتالي فإن ما عداها باطل أو كفر , ومن هنا نشأت حالة شديدة من الإستقطاب المتباعد الذي لا يسمح بالتقارب أو التفاهم أو التعايش , لأن اعتراف أي مجموعة بالمجموعة الأخرى يسحب بساط الحقيقة المطلقة التي تجتذب بها مريديها وأعضائها والمنتمين إليها .
وراحت كل مجموعة دينية تربي منتسبيها على مبادئها , وغالبا ما يحدث هذا في مجموعات صغيرة في دور العبادة المفتوحة أو المغلقة أو في البيوت , ثم اتسع الأمر وامتلكت كثير من المجموعات أسلحة تربوية وإعلامية ثقيلة متمثلة في قنوات فضائية أو إذاعات أو مواقع ومنتديات على الإنترنت , ومن هنا يتوقع أن يحتدم الصراع ويشتد , وأن يتحول إلى مواجهة بالأسلحة الدعوية والإعلامية الثقيلة .
وقد كانت المؤسسات الدينية الرسمية في الماضي لها القدرة على ضبط إيقاع الحياة الدينية بما يحقق التناغم والتعايش ويوسع دائرة الإيمان المتسامح للجميع ويعلي من جوهر الدين وروحه , ولكن لأسباب سياسية داخلية وخارجية ضعف دور هذه المؤسسات نسبيا أو تم تسييسها واحتوائها , مما أعطى للتكتلات الدينية غير الرسمية مساحة أكبر للتأثير والحركة والإستقطاب فخرج الأمر – أو كاد أن يخرج – عن السيطرة , خاصة وأن كثيرا من هذه التكتلات الدينية تعلي من قيمة الشكل الديني بما يعطي لونا صارخا للتدين الظاهري على الرغم من ضعف الجوانب الإيمانية والروحية , وهذا الشكل الصارخ للتدين يؤدي إلى حالة من استفزاز المجموعات الدينية الأخرى والتي تبادر هي الأخرى بالإعلان الصارخ عن تدينها .
ساحة النقاش