كتب أحمد حسن فتيحى بجريدة الأهرام المصرية ( عدد 20 مايو 2009 ) هذه القصة التي أوردها بنصها و أترك لك التعليق :
فتى في الثامنة عشرة من عمره التحق بأحد الأندية الرياضية ، يعشق كرة القدم ، ويقضي كل أوقات فراغه في مشاهدتها أو ممارستها ملتزماً ، مطيعاً ، منضبطاً في مواعيده ، وفي مظهره ، وفي تعامله ، جاداً منفتحاً ، مرحاً متحفظاً ، كلمته طيبة ، مهذبة ، أداؤه متقن إلى أقصى ما يستطيع ، لا يملك المدرب في الفريق إلا أن يشركه في كل المباريات ، رغم أن غيره يملك قدرة أكبر في الحرفنة الكروية.
سألت إدارة النادي المدرب : " لماذا هذا الإصرار على هذا اللاعب في كل المباريات ... !.
قال لهم : " إني هنا ، لتأصيل النماذج الخيرة للاعبين في كل المجالات ، فهذا اللاعب يلتزم في مواعيده ، مخلص في أدائه ، مقل في اعتراضاته ، مثال للخلق الكريم ، ونموذج يحتذي لزملائه ، فلو لم أقم بمشاركته ... فلن يكون هناك تكريم للقدوة بالعطاء والوفاء وتسقط من ثم هذه المثاليات دون تقدير .
بعد كل تمرين أو مباراة ، يلاحظ أن هذا الشاب يحتضن أباه ويسير به حول ساحة الملعب يوميا وبدون انقطاع في وقت محدد ، تري في هذه الصحبة حنان الوالد وبر الولد ، تسطع فيهما كل جوانب الخير ، متمثلة في أجمل أشكال المروءة بين الوالد وولده .
يوما أتي الابن وفي وجهه حزن وفي عينيه دموع يحاول إيقافها بين صخرتي مقأيه ، وقلب يحمل مأساة عصفت به ، استأذن من المدرب معتذراً عن المشاركة في المباراة المقبلة ، وأنه سيغيب لمدة ثلاثة أيام لوفاة والده ، وقد أبدي للمدرب أسفه العميق لهذا الغياب ، ولكن الظروف أكبر من أن يكون وفياً لناديه في مباراته المقبلة .
أقبل عليه المدرب مواسياً معجباً متألماً لألمه ، مبدياً له التقدير والثناء ، معدداً مواقفه الرجولية و هو في هذا السن المبكر قائلا : " أتمني أن يكون ابني مثلك يا بني " من خلف مثلك ما مات ".
قبل مباراة للفريق بساعة ... وصل النموذج إلى المدرب وأبدي استعداده للمشاركة في المباراة ووقف المدرب أمام هذا الحماس ! كيف يتعامل معه ؟! شاب يمر في حالة من الاحباط لموت والده !! ولم يشارك في التدريب مع الفريق في الأيام الأخيرة ! وكان لابد من علاج نفسي لا يؤثر على صاحبنا وعلى زملائه الآخرين ، قال المدرب الإنسان :
لقد تم تجهيز الخطة و اللاعبين المشاركين ، وسوف يصعب على أن أغير فيها الآن ، ولكن لمكانتك وثقتي بك ولحماسك وتفانيك سوف تكون في الاحتياطي ، وسوف تشارك ولو بوقت قصير ، لأحقق لك ما تتمناه وترغبه ، وقد كان .
بدأت المباراة بين الفريقين ، وانتهي الشوط الأول منها وفريقه متأخر بهدف ، وانطلق الشوط الثاني وإذا بفريقه يخسر هدفا ثانياً وثالثاً في خلال الخمس عشرة دقيقة الأولى من الشوط الثاني بدأ الاحباط على وجه المدرب والانهزام على زملائه ولاعبيه ، ثم قرر اشراك صاحبنا في المباراة ، رغم اقتناعه بعدم تجهزه ، دخل إلى الملعب ولم يبق من الوقت غير عشرين دقيقة ، ولعب كما لم يلعب من قبل ، لعب وحده كفريق كامل ، أثار الحماس في نفوس زملائه ، وأعطي عطاءً لم يعطه ولم يره أحد منه من قبل ذلك و قلب النتيجة ، وفاز فريقه بالمباراة في الدقائق الأخيرة وانقلب الإحباط إلى سعادة وأمل ، والحزن إلى سرور وانتهت المباراة ، والكل ينادي باسمه ويشد على يده وكتبت الصحافة عنه ، ونقل التليفزيون موقفه ، وكان يوماً لا ينسي انفرد به المدرب ، ودار بينهما الحوار الآتي :
قال المدرب : " يا بني ، لقد رأيت منك اليوم عجباً ، لقد فقدت والدك الذي أحبك وأحببته ، وإني أشهد على برك و حنانك و عطفك ، و لم تشارك في التمرين للتحضير للمباراة ، ولم تكن من اللائحة المنتقاة ، وحضرت قبل المباراة بساعة ، وأشركتك في الاحتياطي حفاظاً وتقديراً لظروفك ، و حتى لا أزيد أعباءك النفسية ، وأحاول جاهداً أن أخفف عنك ، وإذا بك تلعب كما لم تلعب من قبل ، وتكون النتيجة بفضل الله ثم بمشاركتك كما حصل أو بما فعلت !!! .
ماذا حصل وكيف ... ؟ فقد أمضيت خمسة عشر عاماً لاعباً وعشرين عاما مدرباً ، ولم يصادفني ما رأيت !!! هل يمكن لك أن تفسر لي أو تحاول أن تشرح لي ذلك ؟ فإنني - أصدقك القول – في دهشة وذهول "
قال صاحبنا : " الأمر في غاية البساطة ، فإن كفاءتي كما تعلمها ولكن الفرق الوحيد ، أن أبي قد أصيب في عينيه ففقد بصره ، وكان يردد دوماً " إن الله يري "
و أنا ابنه الوحيد كان يحضر التمارين والمباريات ، وبعدها يرافقني ويطلب مني أن أشرح له بعض أجزاء التمارين وبعض المواقف كان يرحمه الله يستمع بإنصات و يبدي إعجابه و توجيهه و أري في ملامحه سعادة كبيرة ومشاركة وجدانية و حباً أبوياً عميقاً.
" كان لا يراني " ويحمل كل هذه المعاني ، وأكثر ، وأكثر، وكان متأكداً واثقاً بأنه بعد وفاته سوف يمكنه البارئ عز وجل أن يراني فوددت أن أجعله سعيداً بين رفاقه وأتقنت وتفانيت حتى أجعله فرحاً مسروراً ، ينظر إلى ولده ، فقد كان دائماً يردد على :
اجعل ثقافتك في أخلاقك واعمل على أن تعرف بالخلق الكريم :
يا بني ، سوف تكون مشهوراً معروفا ملء السمع والبصر ، ولكن ، تذكر بأن الأيام دول .
يا بني ، كن أدبياً ، فإن الأدب جمال الحياة وهو منها و له شمول في معناه ، لا يحده خيال معروف فهو موسوعة تظهر حقائق الأشياء .
أعمل بإتقان دون النظر إلى النتيجة ، على المرء أن يسعي وليس عليه إدراك النجاح يا بني ، تذكر أن آفه النصح أن يكون جدالاً ، وأذى النصح أن يكون جهاراً.
يا بني ، تصدق ، فإن صدقتك تقول للوهاب أنا إيمان فلان ".
قال المدرب : " لقد بررته حياً ، وبررته ميتاً ، بارك الله فيك .
ساحة النقاش