مضت أيام شهر رمضان المبارك كالبرق الخاطف وبدأ العد التنازلي لِلَيالِيه الزاخرة، وها نحن على أبواب استقبال ليلة القدر والعشر الأواخر منه ، (نسأل الله أن يتقبل عملنا المتواضع وأن يجعلنا فيه من الفائزين) ؟
ونحن حين نقوم بسباحة وجدانية في أجواء ليلة القدر فإننا نطمح أن :
- يُغْفَر لنا ما تقدم من ذنوبنا حيث ورد عن الرسول الكريم (ص) قوله: (من قام ليلةَ القدر إينانا واحتسابا غُفِر له ما تقدم من ذنبه) (متفق عليه ).
- وأن ينالنا خيرات وبركات مما تتنزل به الملاكة وسيدنا جبريل في هذه الليلة الميمونة ؛ (تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر) (القدر ، 4).
- وأن تتنزل على قلوبنا وعلى بلادنا السكينة والسلام التي اختص بها الخالق عز وجل هذه الليلة: (سلام هي حتى مطلع الفجر) (القدر ؛ 5).
- كذلك أن ننال القدر والمنزلة عند ربنا ومثلنا كالذي يحاول الاقتراب من النور فيناله بعض ضيائه،
- وأيضا أن نصادف ليلة القدر فيفيئ الله علينا فيها من رحماته تفضلا منه وتكرما: فقد سألت السيدة عائشة (ر) النبي الكريم (ص) : (يا رسول الله ؛ أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟) ؟ فقال لها (قولي اللهم إنك عَفُوٌّ تحب العفو فاعفُ عني) (أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح) ولكن كيف نعلم أو نصادف ليلة القدر؟ سؤال يحتاج من كل منا إلى تدبر .
كذلك فإننا حين نعايش بوجداننا أجواء ليلة القدر نلمس لطائف عجيبة ، منها :
أولا ، من حيث الكم:
أ) أن عدد كلمات سورة القدر 30 كلمة وهي عدد أيام الشهر بصفة عامة –الذي تحدثت عنه السورة-وشهر رمضان الذي اختصه الله سبحانه بهذه اللَيلة.
ب) أن عدد آيات السورة 5 آيات وهي عدد الليالي الوترية في العشر الأواخر من رمضان والتي أمرنا بأن نلتمس ليلة القدر فيها كما ورد في الحديث الشريف: عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رضِيَ اللهُ عنهُ قال: خطَبَنا رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ فقال: ((إنِّي أُريتُ ليلةَ القَدْرِ، وإنِّي نُسِّيتُها (أو أُنسيتُها)؛ فالْتمِسوها في العَشرِ الأواخرِ من كلِّ وَترٍ)). ( رواه البخاريُّ ومسلم)
ج) أن لفظة (هي) فهي الكلمة رقم 27 في سورة القدر وهي إحدى الإشارات التي تسند قول بعض الفقهاء أن ليلة القدر هي اليلة السابعة والعشرون من رمضان، فالقول الصّحيح المشهور لدى جمهور الفقهاء , وهم المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة , والأوزاعي وأبو ثورٍ : أنّها في العشر الأواخر من رمضان لكثرة الأحاديث الّتي وردت في التماسها في العشر الأواخر من رمضان , وتؤكّد أنّها في الأوتار ومنحصرة فيها .
والأشهر والأظهر عند المالكيّة أنّها ليلة السّابع والعشرين .
وبهذا يقول الحنابلة , فقد صرّح البهوتي بأنّ أرجاها ليلة سبعٍ وعشرين نصاً .
وقال الطّحطاوي : ذهب الأكثر إلى أنّ ليلة القدر ليلة سبعٍ وعشرين , وهو قول ابن عبّاسٍ وجماعةٍ من الصّحابة رضي الله عنهم , ونسبه العيني في شرح البخاريّ إلى الصّاحبين .
وقال الشّربيني الخطيب : وقال ابن عبّاسٍ وأبيّ رضي الله عنهم : هي ليلة سبعٍ وعشرين وهو مذهب أكثر أهل العلم ؛ (موسوعة الفقه الإسلامي بالكويت).
والمتأمل في أحاديث النبي (ص) الصحيحة يلمس تدرجا في تخصيص ليلة القدر وترغيبنا في تلمسها والاستزادة من الخير في العشر الأواخر وربما يأتي هذا التدرج مراعاة لظروف المؤمنين ونفسياتهم والفروق الفردية بينهم وتيسيرا عليهم ،
ويسير هذا التدرج على النحو التالي:
· تشير المجموعة الأولى من الأحاديث الشريفة إلى تلمس ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان، ومن ذلك: ما روته السيدة عائشةَ رضِيَ اللهُ عنها قالتْ: كان رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ يُجاوِر في العَشْر الأواخِر من رمضانَ، ويقول: ((تَحرُّوا ليلةَ القَدْر في العَشْر الأواخِر من رمضانَ)) (رواه البخاريُّ ومسلم).
· ثم تأتي المجموعة الثانية فتخصص أكثر وتأمرنا بالتماسها في وتر العشر الأواخر أي الخمس ليالي من 21 إلى 29 ، ومن ذلك : ما رواه سيدنا أبو سعيدٍ الخُدريِّ رضِيَ اللهُ عنهُ قال: خطَبَنا رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ فقال: ((إنِّي أُريتُ ليلةَ القَدْرِ، وإنِّي نُسِّيتُها (أو أُنسيتُها)؛ فالْتمِسوها في العَشرِ الأواخرِ من كلِّ وَترٍ)). (رواه البخاريُّ ومسلم (.
· ثم تأتي المجموعة الثالثة من الأحاديث فتأكد على التماسها في السبع الأواخر ، ومن ذلك: ما رواه سيدنا عبد الله بن عُمرَ رضِيَ اللهُ عنهُما، أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال : ((الْتمِسوها في العَشرِ الأواخِرِ - يعْنِي: ليلَةَ القدْرِ - فإنْ ضَعُفَ أحدُكم أوْ عَجَزَ، فلا يُغْلَبَنَّ علَى السَّبْعِ البواقِي)) (رواه مسلم (
ويشير هذا الحديث إلى أهمية التماس ليلة القدرفي العشر الأواخر فإن حدثت ظروف طارئة كضعف نفس أو جسد أو عجز يأتي خارج إرادة الإنسان فليلتمسها في السبع الأواخر لكن الأمر يحتاج إلى مجاهدة النفس ومغالبة الشواغل والمشاكل وهو ما يشير إلىيه النهي في الحديث(فلا يغلبن).
· وتخصص المجموعة الرابعة أكثر فتحدد الليالي 25-27-29-من هذه السبع الأواخر ، ومن ذلك ما رواه سيدنا عُبادةَ بن الصَّامتِ قال: خرَج النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ ليُخبِرَنا بليلةِ القَدْر، فتَلاحَى رجُلانِ من المسلمين، فقال: ((خرجتُ لأُخبِرَكم بليلةِ القَدْر، فتَلاحَى فلانٌ وفلانٌ؛ فرُفِعتْ! وعسى أنْ يكونَ خيرًا لكم؛ فالْتمِسوها في التَّاسعةِ والسَّابعةِ والخامسةِ)) (رواه البخاريُّ ومسلم) وإذا كان التلاحي بين رجلين قد رفع تحديد ليلة القدر –كما ورد في هذا الحديث- فما بالكم حين تتسارع بل تتقاتل دول أو طوائف أو مذاهب كم من الخير سيرفع وتحرم منه هذه المجتمعات!.
· تحدد المجموعة الخامسة أكثر فتشير إلى تلمسها في الليلة السابعة والعشرين وهي -من وجهة نظرنا- القاسم المشترك في مستويات هذا التدرج
ومما ورَد في أنَّها ليلةُ السَّابع والعِشرين ما رواه سيدنا أُبيُّ بنُ كَعبٍ رضِيَ اللهُ عنهُ في لَيلةِ القَدْرِ قال : ((واللهِ، إنِّي لأَعلمُها، وأكثرُ عِلمي هي اللَّيلةُ التي أَمرَنا رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ بقِيامِها، هي ليلةُ سَبعٍ وعِشرينَ)) رواه مسلم(
وعن أبي هُرَيرَةَ رضِيَ اللهُ عنهُ قال: تَذاكَرْنا ليلةَ القَدْرِ عند رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ. فقال: ((أيُّكم يَذكُرُ حين طلَع القمرُ وهو مِثلُ شِقِّ جَفْنَةٍ))؟ رواه مسلم. و شِقِّ جَفْنَةٍ أيْ: نِصف قَصعةٍ؛ قال أبو الحُسَينِ الفارسيُّ أيْ: ليلة سَبْع وعِشرين؛ فإنَّ القَمَر يطلُع فيها بتلك الصِّفة
قال بعض أهل العلم : أَبْهَمَ اللّهُ تعالى هذه اللّيلة على الأمّة ليجتهدوا في طلبها , ويجدوا في العبادة طمعاً في إدراكها كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة ليكثروا من الدعاء في اليوم كلّه , وأخفى اسمه الأعظم في الأسماء , ورضاه في الطّاعات ليجتهدوا في جميعها , وأخفى الأجل وقيام السّاعة ليجدّ النّاس في العمل حذراً منهما؛ (موسوعة الفقه الإسلامي السابق الإشارة إليها ).
ثانيا، ومن حيث الكيف:
أ) فإن سورة القدرتستهل –كما هو دأب كل سور القرآن الكريم (عدى سورة التوبة) ببسم الله الرحمن الرحيم والتي تشير إلى أن الرحمة هي السمة التي اختارها الخالق عز وجل لتكون العنوان والطابع المميز للعلاقة بينه وبين عباده والتي من صورها إرسال النبي (ص) (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (سورة الأنبياء؛ 107)
وجميع الأنبياء: (... إنا كنا مرسلين ، رحمتة من عندنا إن ربك هو العليم الحكيم) (الدخان ، 5-6).
ونزول القرآن الكريم : (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمةللمؤمنين....) (الإسراء ؛ 82 )
والتي من صورها أيضا شهر رمضان وليلة القدر وما يحدث فيها.
ب) وتبدأ سورة القدر باقتران حرف التوكيد(إن) والفعل الماضي (أنزل) بضمير (نا العظمة) كما يطلق عليه علماء البلاغة ، وهو هنا يشير إلى أن إنزال القرآن وشرف ليلة القدر وتنزل الملائكة وسيدنا جبريل (عليه السلام) وإنزال السكينة والسلام وغيرها من الإحداث التي تتفرد بها هذه الليلة لا يقدر على إنفاذها إلا الخالق وحده جل في علاه
ج) كما تلحظ أنه لم يأت ذكر مباشر للقرآن الكريم في سورة القدر رغم أنه صاحب الليلة –كما يقولون-وإنما أشير له بضمير الغائب (الهاءفي أنزلناه ) وفيه إشارة إلى سمو القرآن ومنزلته الرفيعة حتى أنه أصبح معلوما من الدين بالضرورة وليس محتاجا إلى التصريح به (والشمس لا تُعَرَّف) ، ولو سألت أبسط المسلمين ثقافة عن الليلة التي بدأ فيها نزول القرآن لأخبرك بأنها ليلة القدر.
د) والعدد 1000 شهر في السورة لا يشير إلى 83 سنة و4 أشهر فحسب ، كما يجتهد بعض العلماء فلا حرج على فضل الله وإنما يشير إلى كثرة الخير الذ سينال من يتعرض لهذه الليلة والله يضاعف ويختص برحمته من يشاء.
ه) والطمأنينة والسلام هي من الغايات العظمة التي يسعه إلى الوصول إليها الأطباء والمعالجون النفسيون والأخصائيون المشتغلون في هذا المجال ، ويتمنى الأب أن يحققها لأسرته والمعلم لتلاميذه والهيئات والمؤسسات الاجتماعية لمن يتعاملون معها ، والدول لرعاياها والهيئات العالمية –كالأمم المتحدة- للمنضمين لها ... ، وتلفتنا سورة القدر إلى أن هذه الغايات تتحقق بالاقتراب من الله الخالق والقرآن المعجز والتعرض لإشراقات ليلة القدر؛ (سلام هي حتى مطلع الفجر) وهذه الينابيع يمكن لأي إنسان مؤمن أن يتعامل معها ويتذوقها. بل ويرتوي منها
المطلوب منا:
وبعد هذه السباحة الشعورية الوجدانية في أجواء ليلة القدر، ما هو المطلوب منا؟
1- أن نلتمس ليلة القدر وأن نسعى إلى القيام فيها ما استطعنا حتى نصنع ماضيا جديدا خاليا من الذنوب والآثام كالصفحة البيضاء فقد سبق الإشارة إلى الحديث الشريف الصحيح: (من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه).
2- أن نُعَرِّض قلوبنا لإشراقات وأنوار هذه الليلة المباركة بأن نغسل القلوب من الذنوب بالدموع وبالتوبة النصوح ، وأن ندعو كما أخبر النبي الكريم (ص) السيدة عائشة (ر) (اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفُ عني)
فنور الله مبسوط كالشمس ، وأنت حين تريد نور الشمس أنت الذي تفتح النافذة والماء موجود فإن أردت الري فأنت الذي تذهب إليه لترتوي ، والنافذة التي سيدخل إليك منها النور ، والوعاء الذي سترتوي من خلاله بنور الحق وبأنوار ليلة القدر وغيرها من الرحمات والإشراقات هو قلبك الذي بين جَنْبَيك ، فاجتهد في تنظيف وعائك .
3- حاول أن تمتع روحك ونفسك وقلبك بالسكينة والسلام في هذه الليلة لتكون بداية لصنع حاضر ومستقبل تعمه السكينة والسلام في غالب الأوقات .
4- ألِح في الدعاء من أجل مستقبل أكثر إشراقا ففي هذه الليلة يفرق كل أمر حكيم كما ورد في سورة الدخان؛ (فيها يفرق كل أمر حكيم ، أمرا من عندنا ... ) (الدخان؛ 4-5)، حيث يقول العلماء في تفسير ذلك :
فيها يقضى ويفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة من الملائكة كل أمر محكم من الآجال والأرزاق في تلك السنة وغير ذلك مما يكون إلى آخرها لا يبدل ولا يغير هذا الأمر الحكيم أمرا من عندنا فجميع ما يكون ويقدره الله وما يوحيه فبأمره وبإذنه وعلمه) (التفسير الميسر).
5- وأيضا إذا أردت الرفعة والقدر والمكانة في الدنيا والآخرة فاقترب من القرآن فالليلة صارت ذات قدر لبدئ نزول القرآن فيها ، وشهر رمضان صار عرسا كونيا وكرنفالا بشريا لنزول القرآن فيه (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدا للناس وبينات من الهدى والفرقان ... ) ( البقرة، 185 )
- وقد ورد في الحديث الشريف الذى رواه عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقال لصاحب القران اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها) (صحيح الجامع)
وأفضال ومزايا عديدة لا يتسع المقام هنا لتفصيل الحديث عنها:
فهيا جدد حياتك في ليلة خير من ألف شهر ، أعد رسم خريطة ماضيك وحاضرك ومستقبلك في سويعات مباركات ، متع روحك ونفسك وقلبك بالسكينة والرضا والسلام : نسأل الله أن يوفقنا لها وأن يجعلنا فيها من الفائزين وأن ينعم على نفوسنا وأسرنا وأوطاننا بالأمن والطمئنينة والسلام إنه ولي ذلك والقادر عليه ؛ وكل عام وأنتم بخير.
ساحة النقاش