لم يدرك كيف داست أقدامه كل هذه المسافات وتلطخت خفوفه بهذا الوحل يفلت بصره على مداه فتتمد الشوارع أمامه فلا يبلغ نهايات المدى ففى الشوارع تحط كل الحكايات وتنثر فيها الهموم لتنبت روايات يرويها مجهولين عن اسرار البيوت المغلقة وفى الشوارع أيضا تنسج قصص العشاق فيتغنى بها الصغار على مصاطب النواصى فلم تعد المقاهى رفاهية شباب ولكنها ملاذ لكبت القلوب وقهر البيوت وعويل الصغار وردح النساء يرجع بصباه الى صباه فيتوهج داخله عابث صغير ثم يهيج فيركله فى الذاكرة المنسية فتسبح فى الفراغات الضيقة فليس للصبا الا الشوارع والمقاهى والترحال تنبت أغانيه لحن يدمى القلوب ففى القلوب تسكن كل المسافات وتتسع الاحلام ثم تبوروتتوه الطموحات امام الاقبية المعتمة وسراديب الغربة والابواب المغلقة فجاة وجد نفسه قد تعافى من الازقة الضيقة لتنحنى هيبته وصولاته وجولاته فى الغربة امام الباب المسجى على اعقاب الحيطان المنهكة ركل الباب بركبته فإنفلق المزلاج وسقط مسجى على الارض ، صاح بصوت يهز الفراغات من حوله ليذكر (عُمار المكان ) بملامح القادم كالعادة لم يجبه احد سارع الخطوات للداخل يكرر الصياح ويصفق بكفين مغتربين نبحت الكلاب بالخارج على وقع صوته المنكر وغير المألوف فللكلاب ايضا عتاب على المخترق لحرمة البيت بغير حساب ايقظ عوى الكلام النائمين ولم يوقظهم صوته الجهور فجاب باذنيه صوت من الداخل يسمح له بالدخول كان جسد الصوت مسحوبا للداخل ومن خلفه الباب موارب مرق من عتبة الباب واماط برأسه من بين ثقوب الغرف رأى العجوز ملفوفة بالسواد مكومة على السرير تعطى خدها للتلفاز الذى تغيرت الوان شاشته من هجر المستمعين وسكن بين ثناياه الغبار والتراب وصدأت مفاتيحه منذ زمن لم تغير هذه القناه يظل ينبح ليل نهار مثله مثل الكلب الرابض بمدخل الحارة يظل ينبح والناس تمر ولا تعره انتباها لما ايقنت انه نباح كاذب لا يتعدى هز ز يله ورفع رأسه للسماء يقول الناس انه نباح أمن ويقول اخرون انه يسبح ربه فترسل الصغار للبيع والشراء دون خوف منه ولا عناء فنظر للتلفاز وهو يروى للفراغات وهى راحلة عنه تتامل الشقوق التى تفلق الجدار فتخترقها اشعة الشمس هاتكة ستر الغرفة تضع بقع ضوءها على شاشة التلفاز تفقد الوجوم الذى يرعى على حوافر وجهها لاذ بالسكوت على وقع هدير الصمت المطبق وفى رحاب الهدوء (عالى المقام ) جلس على الكرسى ينتظر الأمر بالكلام طال انتظاره وهو يفتش فى احشاءه عن لغة يبدأ بها الحوار اكتشف ان مع الغربة يغترب الكلام وتتوه بين سنين غيبتها المعانى فتتلوى الالسنة بالسنة الاغراب ويضيق فى الافق الحوار وتتقلص الحروف وتتآكل حتى تصبح همسا او ايماء لم يدرك كم حرف تبقى بداخله حاول تركيب الحروف ليستجمع المعانى كما كانت ايام الصبا فلم تأتى بجملة واحدة تزيل ستائر الصمت فى الغرفه عاود التأمل فى إطار التلفاز ازداد وجومها اخذ يحصى الاجساد التى زاحمتها فى غربته يبحث عن الوجه الذى يلقى عليه احماله ويسترد منه دقات قلبه التى سلبت هب ليسألها (اين هى ) فتعطلت لغة الكلام فآثر الصمت تتسول عيناها من كل فتحات البيت بحثا عنها ولكن لم يجدها ادرك انه لم يعد بالبيت الا الثقوب والمرايا لم تعد موجودة بين كل تلك المخلوقات يرتع فى اذنيه صرير الباب تنبأ بالقادم تململت بين شفتيه ابتسامة كانت مسترخة فى ذهول انزل ساقه التى تركض فوق الاخرى واراح حقيبته المتخمة بالنقود و الهدايا بجوار فخذه الايمن ظن ان داخلها تسكن الاحلام فلا تبور الطموحات ولم يدرك بعد ان الاحلام قد شاخت والطموحات قد تاهت ،تأهب لاستقبال القادم فى صمت ازيز حذاء القادم اكد له نبوئته اختصر المسافات داخل عقله حتى رآه واقفا أمامه هب واقفا ليسلم عليه اشاح له بيده وتجاهله مخترقا السكون حتى لاذ بالسرير المتقرفصة فوقه وازاح الملاءة من على اكتافها ومددها (قال لها اغمضى عينيكى فلم يأتى الشروق بعد )فاطاعته وتمددت واغمضت عينيها مستسلمة للغروب عن المكان مسح الوجوه من حوله تأفف ورفع رأسه الى السماء محاولا اختراق السقف ببصره هب واقفا تيقن انها موجودة بأعلى تحسس السلم بخفين حانييين يسترق الخطوات لأعلى حتى وقف امام الباب الذى يقبض على الجدران التى تحويها يتوجع من عروقه التى شاخت وساقيه التى تخلت عن عزمها يسترق الانفاس من هواء غرفتها المعبأمن سنيين رآها من ظهرها وهى تنتصب أمام المرآه وفى يدها كتاب عن (عشق الاغريق)وبالاخرى ممشطة تمشط بها شعرها الذى يتدلى حتى مؤخرتها تتناثر منه رائحة الزيت التى تحاصر الغرفة ،قال لها (لقد أتى انه بالاسفل اعيته السنين جاء خانقا احلامه فى حقيبته اظنها ماتت من طول المسير) ،نظر الى الحائط رأى الشقوق تملا المرآة تحول وجهها الى انشطارات متعرجة تلاعبها امواج (العويل )حاول استجماع الملامح المبعثرة على صفحات المر آة الممدة على طول الجدار وعرضه يعقد جبهته فى ذهول وهو يسمع دوى صراخها فترتج اقفاص صدرها من طرقات قلبها النافر بين الضلوع تباعدت المسافات بين الشقوق حتى اخترقت المرآة وهى تمد له يدها تراجع خطوات للخلف حتى اصطدم بالسرير .....مدد جسده فى خشوع ساندا صدغه على راحة يده يتأمل الجدار