روعة الإحساس

كنا نسير للأمام أو هكذا كنا نظن فنظرنا نكتشف ما قطعناه وجدنا أنفسنا نسير للخلف وفقدنا ما إحتويناه

لم يعد للخريف حفيف بعد أن تجلطت نائبته على حافة القرية فأدبر يسعى ثم ذهب يتمطى على شغف الصحاري يهزوا الربيع.... يا له من أريج لم تتبدد ملامح كرم النخيل بعد، بعد مئات الأعوام يصمد أمام عجرفة السنين ..... ذهب من زرعوه وهو يحتضن أنفاسهم يحاكم السنين التي أهدرتهم..... يا إلهي ضيعة خضراء معلقة في السماء تراقصها الرياح وتدنو منها وساوس الغزل .... هذا أفضل ما كتب في الربيع في نظري أنا المدرس وهذا ما أفضل شرحه للتلاميذ. النخيل يا زمزم النخيل وفقط في قريتنا النخيل يا ربيع قد تمرد على فصوله، لا أدري إن كان قد خالطني الحوار أم الإحساس بهذا النداء ولكن كل ما أتذكره أن شفتاي ظلتا منطبقتين ولم ينفرجا  وأنا أسعى بين دروبه ألتقط الثمر المنفلت من الشماريخ الذي يشبهني أنا المنفلت من أغلال القرية التي لا أدري كيف انزرعت  فيها أنا الغريب عنها،كل صباح أحمل كراساتي وأذهب إلى المدرسة التي قيدوني فيها أظل أمشي حتى تدمي قدماي من طول الطريق، بجدارها المتشققة المتآكلة، الجدران على بعضها في إعياء شديد، وأبواب الفصول مسندة في عناد وإصرار على البقاء. ألفى بنا يأس داخل الفصل، تطالعني وجوه التلاميذ الممسكة على البؤس ومتقوقع داخلها الطموح، في مؤخرة الفصل تلميذتان ملتصقتان بالجدار، (زمزم) التلميذة الشقية التي تبحث عن حل تقف من بين التلاميذ تسأل أسئلة لا يفهمها التلاميذ ولكني أفهمها، وقفت ذات مرة....."لماذا يا أستاذ تسافرون ولا نسافر؟..... لماذا لا تسمعوا لنا؟..." تحسست ساعتها عنقي براحة يدي وانكفأت رأسي مجذوبة للأرض "إجلسي يا (زمزم)" جلست وفي عيونها أسئلة كثيرة....تجالسها (دعاء) المتأهبة دائما للترحال تحلم بعالم لا تسمع فيه صوت زوج أمها، تحلم بعالم يسألها عن صحتها، ضيقها.... ألصقت ظهري على نخلة عجوز منحنية وعيناي تتأملان الثمر العالق في الأعالي في تعالي وكبرياء.....حفيف أجساد يطارد أذني، همسات أسمعها "صباح الخير يا أستاذ" قالتها (زمزم) وهي تلتقط الثمر على الأرض "لماذا يا أستاذ تعدو لنا المقابر؟.... يا أستاذ أود أن أدس كلمة في أذنك " انحنيت في إذعان متداعيا الخنوع لتلك الشقية الصغيرة فقبلتني، كانت شفاها ساخنة طرية تركت بعض الرضاب على خدي"والنبي يا أستاذ لا تردنا إليهم" قالتها في تودد ثم جرت فجأة إلى نخلة عالية وتسلقتها....صحت بها "انزلي يا (زمزم) المغيب يا (زمزم)" هرولت (دعاء) واحتضنت جذع النخلة التي تتسلقها (زمزم) خشية مكر الرياح تلاعب ثوبها في الهواء وتطاير الحزام الذي يحوي خصرها، أخذت تراقصها الرياح، تجردت (دعاء) هي الأخرى من لفحتها وأحدقت في وجهي جرت إلي واحتضنتني ثم قبلت خدي وانخرطت عيناها بالدموع وعلى شفتيها أريج الفرح، عادت وتسلقت النخلة وصعدت بجوار (زمزم) تراقصهما الرياح التي تعوي وتطيح بهما في الأعالي ترنح سقف السماء وتراشقت العصافير وراحت ترفرف بأجنحتها تزف الصغيرتين المتوجتين...... توهجت القرية المظلمة ولمعت طوابق المآذن لتذيب الظلمة المعتلية أنفاس القرية. صوت المؤذن يخرج من جوف القرية يعلن عن فقد القرية للصغيرتين، ثم هتف في بوق القرية "إن لله وإنا إليه راجعون".

mohamedzeinsap

كتبنا وكنا نظن أننا نكتب وقرأت ما كتبنا أكتب تعليقك ربما يكون نافلة القول التى تقيمنا إنتقد أو بارك أفكارنا لربما أنرت لنا ضروبا كانت مظلمة عنا أو ربما أصلحت شأننا أو دفعتنا لإصلاح شأن الآخرين

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 470 مشاهدة
نشرت فى 28 ديسمبر 2012 بواسطة mohamedzeinsap

محمد زين العابدين

mohamedzeinsap
نحن نتناول إحساسك ومشاعرك وغربتك نكتب لك ..... وتكتب لنا فى السياسة والادب والشعر والقصة والسيرة والدين نحن هنا من أجلك و...... ومن أجلنا لكى نقاوم حتى نعيش بأنفاسنا المحتضرة وآمالنا المنكسرة وآحلامنا البعيدة نحن المتغربين بين أوطانهم والهائمون فى ديارهم »

عدد زيارات الموقع

144,864

تسجيل الدخول

ابحث

ذاكرة تغفل..... ولكن لا تنسى




في قريتنا الشئ الوحيد الذي نتساوى فيه مع البشر هو أن الشمس تشرق علينا من الشرق وتغرب علينا من الغرب نتلقى أخبار من حولنا من ثرثرة المارين بنا في رحلاتهم المجهولة نرتمي بين حضن الجبل يزاحمنا الرعاة والبدو الأطفال عندنا حفاة يلعبون والرجال عند العصارى يلقون جثثهم أمام البيوت على (حُصر ) صُنعت من الحلف وهو نبات قاسى وجاف والنساء ( يبركن بجوارهم ( يغزلن الصوف أو يغسلن أوعيتهم البدائية حتى كبرنا واكتشفنا بأن الدنيا لم تعد كما كانت .... ولم يعد الدفء هو ذاك الوطن.......... كلنا غرباء نرحل داخل أنفسنا ونغوص في الأعماق نبحث عن شئ إفتقدناه ولا نعرفه فنرجع بلا شئ .. قريتنا ياسادة لا عنوان لها و لا خريطة ولا ملامح وكائناتها لا تُسمع أحد نحن يا سادة خارج حدودالحياة في بطن الجبل حيث لا هوية ولا انتماء معاناتنا كنوز يتاجر بها الأغراب وأحلامنا تجارة تستهوى عشاق الرق وآدميتنا مفردات لا حروف ولا كلمات لها ولا أسطرتُكتب عليها ولا أقلام تخطها نحن يا سادة نعشق المطر ولا نعرف معنى الوطن نهرب إلى الفضاء لضيق الحدود وكثرة السدود والإهمال... معاناتنا كنز للهواة وأمراضنا نحن موطنها لا تبارحنا إلا إلى القبور ... وفقرنا حكر احتكرناه ونأبى تصديره نحن أخطاء الماضي وخطيئة الحاضر ووكائنات غير مرغوب فيها...طلاب المجد نحن سلالمهم وطلاب الشهرة نحن لغتهم ... نحن يا سادة سلعة قابلة للإتجار بها ولاقيمة لها .. نحن مواطنون بلا وطن