روعة الإحساس

كنا نسير للأمام أو هكذا كنا نظن فنظرنا نكتشف ما قطعناه وجدنا أنفسنا نسير للخلف وفقدنا ما إحتويناه


 

العربة تزحف في الظلام تتوجع  من بقايا الليل العليل، تترنح بين المدقات تراقص جسده الموبوء  بالعلل.... على باب القرية توقف السائق وحملق له خلال المرآة، حمل جسده خارج العربة وأخرج من جيبه حزمة نقود سردها بسرعة وأعطى السائق بعض منها تلقف السائق الأجرة وانطلق دون أن يتكلم، حمل حقيبته راكبا ساقيه إلى جوف القرية ونسمات هواء الليل الطرية تدغدغ جسده تمر من بين أذنيه وصدره  ، على ضوء القمر يرى ظله يرافقه دون تردد اختفى ظله حينما اختفى القمر بين سرب من الضباب الأسود......الليل الذي ابتليت به القرية أجبر الناس على الزحف داخل البيوت، في البيوت تدور الحواديت وأحاديث الليل الدافئة تقترب القلوب وتختلج.

تذكر أن الشارع لا زال طويلا ولا بد أن يعيد ترتيب سيره.... تمرق منه الذاكرة فيتذكر حديث الجدة وهو يسند رأسه على فخذها وتلاعب أصابعها في رأسه، في هذه الطريق يخرج رجل وجهه كسواد الليل وأصابعه كحوافر الخيل  يمسك الأتي في ذيل الليل ويمسك الأطفال الصغار يوهمهم بأنه لا يعرف الطريق حتى يصل بهم للطاحونة وهناك يلقيهم  بين التروس.... لا يعرفون من أين أتى الرجل يسمونه (حمار الليل) لأنه يحملهم على ظهره، "أوعى يا (خميس) تطلع بالليل عشان ميخدكاش (حمار الليل) ويرميك في الطاحونة"  يسمع الصغير الحواديت من الجدة فيقشعر بدنه فيصر في نومه أن يحشو جسده بين الأجساد حتى لا يأخذه الرجل ويلقيه بين التروس......آفاق على  صوت الطاحونة البعيد الغادي يدق نغما حزينا مخيفا، ارتسمت في ذهنه ملامح (بلال) عامل الطاحونة بملامحه الزنجية السوداء وعينيه الحمراء مغموس في الدقيق الذي يكسو وجهه ويديه.... يخرج خميس مع أمه عند الأصيل وهي تحمل فوق رأسها (قفة) يمسك طرف ملاءتها إلى الطاحونة، تدس في يد (بلال) النقود فيبتسم ويومأ برأسه ثم يطرق براحة يده المنتفخة قمع الطاحونة ليزيد لها الكيل.   واصل سيره بين همس الليل يأتيه وقع قدميه الظامئة إلى إلى أحضان  فارقها كارها...... بانت له ملامح الحارة الناعسة  المستكينة، كلب أسود يرقد وسط الطريق يريح رأسه بين ذراعيه المبسوطتين، رآه قادم زام زوم مكتوم ثم راقص ذيله ولم يجهد نفسه بالوقوف...... على يمينه وتحت ضوء مصباح هزيل يرشق شعاعه المريض إلى مسافات متواضعة تبرك عربة وبجوارها حصان موثوق يطيح بذيله في الهواء (ينفر) برقبته حتى يتطاير الرزاز  من أنفه الوارمة،ثم يدفس فمه في مخول التبن أمامه، اشرأبت أذناه عندما رآه قادما من بعيد...تذكر انه كان يتعلق بمؤخرة العربة وهو صغير ثم يعدو على قدميه، كثيرا ما نهره العم (بدر) وأمسك بيده وسلمه لأمه التي أشبعته ضربا..... صوت الطاحونة ثقيل على أذنيه، وقعها يثير في نفسه شيء من شقاوات الصبا، نظر إلى الشرفات المعلقة وهي تناطح بعضها تطيح بها الرياح فتحدث صريرا خافتا، أطلت من النافذة فتاة حال الظلام دون استدراك ملامحها محررة الشعر، أفلتت من نعاسها استردت رأسها واختفت ثم عادت وبين يديها وعاء به ماء سكبته من النافذة ثم أوصدت الشباك. أحس بأن الحارة تنجذب إليه تطوي شوارعها السجينة وبيوتها الهزيلة وتتقدم ، اقترب من البيوت المتلاصقة غير المنتظمة ، رجال خرجوا من البيوت المثقوبة وفي ذيولهم خرجت النساء هاتكات ستر الليل، يدخلوا بيتا يرسو على ناصية الشارع، خرج صبي صغير من البيت يجري اختفى على امتداد الشارع ثم عاد وبين يديه يحمل شيء يبدو أنه مهم، من أسر المتسللين في رحم الليل خرج من أحد كوات البيوت طفل أشعث الشعر يحمل بين ضلوعه بقايا من دفء الفراش وفي حركة يخالطها النوم باليقظة تسرب بين النساء الواقفات وأمسك بمؤخرة أمه وبعيونه المنكسرة من آثار النوم يبرق في الواقفين في فضول...... "أحس خميس بأن جسده الكبير بدأ يتآكل ويتقوقع) ليتذكر أن الحارة كانت مكتظة بالأطفال يروق لهم اللعب على ضوء القمر فتيات وأطفال يبتدعون ألعابا هم نسجوها وهو يرمقهم من بعيد وصدره يصك بالصراخ....أفاق ليكتشف انه لا يزال يسير بلا شعور ود لو يضحك...... فتساقطت عيناه بالدموع أفاق على الحقيبة وهي تجذبه إلى أسفل امسكها بيده الأخرى   رأى أمه تخرج معكوفة الرأس والبصر تداخلت عيناها كعيون الوطاويط الضيقة وهرولت ثم وقفت أمام البيت الموبوء بالناس ألقت برأسها داخل البيت ثم سحبتها وطرقت بيديها على صدرها في حسرة، خرج أبيه من البيت يسحب خلفه حمار تحامل على رقبته وصعد على ظهر الحمار ، مشت نحوه يبدو أنها حدثته بما رأت، هز رأسه في زهد واستعطاف زم شفتيه....وقف ينظر إلى الأبوين غالبه الشوق فبكى...شدة الحنين... ساقاه العاصيتان تجرانه إليهم فجأة توقف...... أحس أنه يتعجل اللقاء ويخل بشروط الوهم النابتة في الظلام.... واصل السير لمحه العجوز من على حماره فلم تخن الأب أحاسيسه...... شيئا ما يجذبه إلى الظل القادم من رماد الظلام  شيئا ما يجذبه إلى هذا الغريب الذي يشق حرمة الليل، لاحقته الأم بالنظر غالبها البكاء فبكت  وقالت لأبيه مثله كان بيننا ولكن غالبه البؤس فهجر القرية، بعث إليهم شعاعا من بصره ثم واصل السير..... تحركت في رأسه مقاطع من أغنية قديمة أغنية لا يعرف حروفها ولكن يشديه وقع لحنها الحزين، اغرورقت عيناه بالدموع ود لو يرتمي بين أحضانهما  وهو يحس بحماس اللحن الخفي ...بدأت تتكاثر في رأسه أماني الحلم القديم، من أحد البيوت خرج من كان ينتظره وطال انتظاره رفع شيء ثقيل بين يديه وضغط بإصرار خرجت الأنوار الحمراء تتلاحق استقرت بين ضلوعه  لتضيء قلبا قتله الحنين، ضغط على صدره سائل دافئ يخرج منه....... تلاحقت الدماء وتدحرجت تحت أقدام الأبوين  لترسم لهم صورته القادمة

mohamedzeinsap

كتبنا وكنا نظن أننا نكتب وقرأت ما كتبنا أكتب تعليقك ربما يكون نافلة القول التى تقيمنا إنتقد أو بارك أفكارنا لربما أنرت لنا ضروبا كانت مظلمة عنا أو ربما أصلحت شأننا أو دفعتنا لإصلاح شأن الآخرين

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 299 مشاهدة
نشرت فى 28 ديسمبر 2012 بواسطة mohamedzeinsap

محمد زين العابدين

mohamedzeinsap
نحن نتناول إحساسك ومشاعرك وغربتك نكتب لك ..... وتكتب لنا فى السياسة والادب والشعر والقصة والسيرة والدين نحن هنا من أجلك و...... ومن أجلنا لكى نقاوم حتى نعيش بأنفاسنا المحتضرة وآمالنا المنكسرة وآحلامنا البعيدة نحن المتغربين بين أوطانهم والهائمون فى ديارهم »

عدد زيارات الموقع

144,842

تسجيل الدخول

ابحث

ذاكرة تغفل..... ولكن لا تنسى




في قريتنا الشئ الوحيد الذي نتساوى فيه مع البشر هو أن الشمس تشرق علينا من الشرق وتغرب علينا من الغرب نتلقى أخبار من حولنا من ثرثرة المارين بنا في رحلاتهم المجهولة نرتمي بين حضن الجبل يزاحمنا الرعاة والبدو الأطفال عندنا حفاة يلعبون والرجال عند العصارى يلقون جثثهم أمام البيوت على (حُصر ) صُنعت من الحلف وهو نبات قاسى وجاف والنساء ( يبركن بجوارهم ( يغزلن الصوف أو يغسلن أوعيتهم البدائية حتى كبرنا واكتشفنا بأن الدنيا لم تعد كما كانت .... ولم يعد الدفء هو ذاك الوطن.......... كلنا غرباء نرحل داخل أنفسنا ونغوص في الأعماق نبحث عن شئ إفتقدناه ولا نعرفه فنرجع بلا شئ .. قريتنا ياسادة لا عنوان لها و لا خريطة ولا ملامح وكائناتها لا تُسمع أحد نحن يا سادة خارج حدودالحياة في بطن الجبل حيث لا هوية ولا انتماء معاناتنا كنوز يتاجر بها الأغراب وأحلامنا تجارة تستهوى عشاق الرق وآدميتنا مفردات لا حروف ولا كلمات لها ولا أسطرتُكتب عليها ولا أقلام تخطها نحن يا سادة نعشق المطر ولا نعرف معنى الوطن نهرب إلى الفضاء لضيق الحدود وكثرة السدود والإهمال... معاناتنا كنز للهواة وأمراضنا نحن موطنها لا تبارحنا إلا إلى القبور ... وفقرنا حكر احتكرناه ونأبى تصديره نحن أخطاء الماضي وخطيئة الحاضر ووكائنات غير مرغوب فيها...طلاب المجد نحن سلالمهم وطلاب الشهرة نحن لغتهم ... نحن يا سادة سلعة قابلة للإتجار بها ولاقيمة لها .. نحن مواطنون بلا وطن