روعة الإحساس

كنا نسير للأمام أو هكذا كنا نظن فنظرنا نكتشف ما قطعناه وجدنا أنفسنا نسير للخلف وفقدنا ما إحتويناه

<!--

 

<!--[endif] -->

ليس لعم رجب طموح ولا يعرف معنى الأحلام عاش حياته لا يشعر به احد ،ولا يشعر هو بأحد، ضاقت به الدنيا التي تخصصت منذ نشأته في نكده وكدره، منذ نعومة أظافره بقريته التي لا يسمع عنها احد، والمحصنة بالتهميش والفقر الذي غرقت فيه لم يتذكر يوما أن أبناءه قاموا ذات صباح وغسلوا وجوههم أو كان لهم أحذية للخروج يستيقظ قبل صلاة الفجر يجهز عربته ويحمل فوقها الفطائر يجوب شوارع القرية ذهابا وإيابا وهو يتغنى بفطائره وينشد فيها شعرا ، قليلون هم من يشترون منه وغالبا ما يكونوا أبناء الأثرياء والغنى في قرية عم رجب هو من يمتلك بيتا (بني بالاسمنت والطوب الأحمر ) وأمام بيته موتوسيكل أو عربة من الموديلات المنقرضة ،يرجع بعد أن تتورم قدماه، والعربة كما هي محملة بالفطائر، قرر عم رجب السفر إلى القاهرة فهناك يستطيع أن يبيع كل فطائره هكذا حدثه حجاج العاصمة والمناوبين عليها هناك الأثرياء كثر، شد رحاله وأولاده وزوجته واستقر به الحال في حي شعبي لم يكن أحسن حالا من قريته المنسية ،فلم يتحسن معه الحال كثيرا ولم يجد الجنة التي وعده بها معتمرى العاصمة قرر الرجوع ولكنه خاف من غمز ولمز أهل القرية عليه فأثر البقاء والمقاومة اخذ يتحثث أماكن مرور الناس والتجمعات البشرية يروج لفطائره هو لا يعرف معنى الوقوف في الممنوع أو مزاولة النشاط بدون بطاقة صحية فتتبعته عربات الشرطة ومجلس المدينة تطارده ثم يقتادوه إلى قسم الشرطة لا يخرج منه إلا بعد أن يتورم عنقه من ضرب الكفوف بأيدي أمناء الشرطة والعساكر وتتطاير فطائره في الشوارع تدوسها العربات وأقدام المارة ورغم كل ما حدث اخذ يقاوم ويتتبع أماكن التجمعات ليبيع فطائره وكان قد اكتسب خبرة في المناورة من عربات الشرطة أحيانا كثيرة كانت تخونه ذاكرته فيضل الطريق إلى بيته فيظل يجوب الشوارع فلا يصل إلا إذا سأل احد المارة عن العنوان الذي يضعه في جيبه وذات يوم وهو يتجول كعادته لمح جموع غفيرة وهرج ومرج وأجساد بشرية تتوافد وتتزاحم وهى تصيح وتولول قبض براحة يديه على أعمدة العربة وهو يراقب الناس فزغرد قلبه وانفرجت أساريره يبدوا أن اليوم يوم عيد له تمنى لو أن على العربة أطنان من الفطائر لتستوعب مبيعاته تلك الأعداد الغفيرة والتي لو جزم أن يشترى نصفهم لاحتاج الأمر إلى( مخبز آلي) ودون أن يدرى اندفع بين الجموع يروج لفطائره والتي انتهى من بيعها بسرعة البرق وعاد إلى البيت ليعلن حالة الطوارئ فالكل يجب أن يعمل وبلا حدود واخذ يحمل عربته ويذهب إلى تلك التجمعات في اليوم أربع وخمس مرات يبيع كل ما لديه قرر ألا يضيع وقته في الذهاب والعودة وعليه استثمار هذا الوقت في البيع، فاستقر على أن لا يبرح المكان، ويأتي له أولاده بما يحتاج من الفطائر قبل أن تنتهي من فوق سطع العربة لأول مرة يجد نفسه يضحك من قلبه فقد امتلئ جيبه بالنقود ، يقترب منه احد الشباب ليشترى منه فيسأله عم رجب عن هذا المكان فأخبره الشاب انه ( ميدان التحرير ) سأله عن تجمع الشباب ولماذا يبيتون فأخبره الشاب بأهوال يوم القيامة بالنسبة له فاحمر وجهه وارتعدت أساريره وتبخرت فرحته وتشنجت عروقه اخذ ينتفض وترتعش أنامله حتى صار غير قادر على الإمساك بالعربة تذكر عنقه المنتفخة والمحمرة بفعل أيادي أقسام الشرطة تذكر غرفة الحجز والتوبيخ والإهانةة من ضابط القسم والعربة المكسرة والفطائر المتناثرة على الأرض هو الذي عاش عمرا يسجد للنظام وأعوانه والذين يتشعبون إلى حدود الجنين في بطن أمه المرة الوحيدة التي تجرأ فيها واشتكى ( خفير قريته ) جاءته الشرطة ليلا وكسرت محتويات بيته وقبض عليه وأودع في الحجز أسبوعا كاملا ولم تعتق رقبته إلا بعد مساعي أهل الخير لدى الخفير وإرضاءه والاعتذار له وتقبيل يديه وقدميه ليصفح عنه هو الآن يرى هؤلاء الصبية المجانين يناطحون السحاب ليغرسوا في وحل المطر وطين الأرض نهايتهم و أنهم محظوظون لأنه لم يكن عندهم خفر يذيقهم لعنة الآلهة. فكر أن يفر هاربا تاركا عربته ومنتجه الذي لاقى رواجا بعد كساد فكر في العدو وعدم الالتفات إلى الوراء تاركا خلفه حمم وبراكين ولعنة سوف يمطرها النظام على هؤلاء الأشقياء وربما يتطور الأمر ويستدعوا الخفر المتناثرة بربوع القرى لمح احد الشباب يضحك وهو يلوك فطيرته ويقسمها مع فتاة ترتدي ملابس هي بالنسبة له ولعقيدته القروية فسق وفجور فاقترب منه ووبخه على ضحكه وعدم مبالاته بالطوفان القادم وأمره هو والفتاه أن ينفد بجلد ولا يحسر عليه أهله الذين لاقوا معاناة السعي فى الشوارع ربما يبيعون فطائر أو كتب وكراسات أخذه الشاب إلى احد الخيام ليرى الأطفال والنساء والشيوخ تحت سقفها فتعجب حينما اخبره أن هذه هي أسرته وكل يوم يأكلون من فطائره .. لمح شاب آخر تقرفص يغنى جلس بجواره يستنير منه فاخبره أن هذا خير عمل يقوم به وانه ترك دراسته حتى يفرغ من هذا العمل وحدثه عن النظام والفساد والمحسوبية والرشوة والقهر والاستعباد شعر عم رجب أن الشاب كان يقصده بهذا الحديث انتفض من جواره خشية أن يخبره بأسرار بيته والتي هي بالنسبة له من المحرمات، أثار الشاب مشاعره وأحس انه صغير أمام كرامته التي أريقت طوال عمره اخذ يناغى نفسه وهو في طريقه إلى عربته يتسرب اليه بعض الحماس فاصطدم بها وقد أفرغت من أحمالها ووجد بعض النقود متناثرة عليها جمعها وعدها فوجدها مساوية لما على العربة من فطائر بل أكثر ضحك وحمد الله بعد أن استردت حمرة وجهه الدماء الهاربة فزعا على الفطائر ، فقد كان كل من لا يجده على العربة يأخذ فطيرته ويترك ثمنها لمح جمع من الشباب يقتربون منه في قلق وهلع عن سبب غيبته وقد ظنوا به مكروه وأنهم كانوا قلقين عليه زاد ذهوله، أول مرة يجد من يسأل عنه ويقلقه غيابه شعر عم رجب بالدفء والحنين لعائلته الجديدة وفجأة كثر الكر والفر وطلقات الرصاص تدوي في الميدان حمد الله انه باع كل فطائره اخذ ينتفض وهو يرى الدماء المراقة وشباب في عمر الزهور مسجاة على الأرض، وجدهم يتدافعون على الموت وكل لحظة يرجعون وبين أيديهم وردة في ربيع عمرها مغتسلة بالدماء الوردي ورائحته الذكية إنه يشم رائحة الدماء الذكية رأى زجاجات الملوتوف تتطاير بألسنة اللهب تصب فوق رؤؤس الشباب وهم لا يبالون كثر الكر والفرو تعالت الصيحات والهتافات ولا زالت الجموع تتوافد بدلا من أن تهرب من (قانص الموت وحاصد الأعمار )التي تأتى بها أسطح المنازل والأقبية المجاورة للمكان تناثرت الجثث والأشلاء من حوله انهمرت الدماء من تحت قدميه شباب في عمر الزهور يقصفهم ملك الموت بلا رحمة شعر بأنه تافه فقد حاصره الخوف والفقر والتهميش ملك الموت يطوف بالميدان وزهور بريئة تفتح صدورها له ولا تهابه رأى الخيول والبغال والجمال تخترق صدور الشباب وتجتز الرؤؤس تيقن انه لم يقدم لدنياه شئ ولا يريد أن يرجع إلى الآخرة خاوي اليدين وضع يده في جيبه واخرج النقود وأعطاها لأحد الأطباء بالميدان وأوصاه أن يوصلها لأهله إن لم يرجع إليه ثم اندفع بين الصفوف تحت أعقاب الخيل وخفوف الجمال يقتنص ويضرب ويصيح( فليسقط الخفير فليسقط النظام ) ...فليسقط النظام كلمة سمعها على مر الأيام التي قضاها بالتحرير ولم يستطع أن ينطقها فمخزون الخوف عنده اقوي من نبرات صوته، أحاط خصره بأطراف جلبابه وهو يقفز على منتعلي الخيل والإبل أبحر بين الجموع إبحارا لا مدى له وطريق العودة فيه غير آمن زاد في الإبحار بدأ يبهت ويتآكل بين الملايين وهو يصيح ( فليسقط الخفير ) فليسقط النظام اختلط صوته بصوت الثوار فذاب فيهم ارتمى بين صدور وحناجر الشباب حتى راق دمه المعبأ بالحزن واليأس منذ ستون عاما على ارض الميدان ليفرغ ما به من جبن وخوف ، سرى دمه تحت أقدام المنتفضين تدفعهم وتثيرهم وتلهب صدورهم حماسا فاغرق دمه شرايين الشباب دماء تطهرت من الرق والخوف ولم يدرى أن صورته علقت وسط الميدان باسم الشهيد (عم رجب بياع) ليصرف أولاده معاش الشهيد ويختم حياته بمخزونها الردئ بطلا غفلت عنه الأقدار ثم أنصفته

 

mohamedzeinsap

كتبنا وكنا نظن أننا نكتب وقرأت ما كتبنا أكتب تعليقك ربما يكون نافلة القول التى تقيمنا إنتقد أو بارك أفكارنا لربما أنرت لنا ضروبا كانت مظلمة عنا أو ربما أصلحت شأننا أو دفعتنا لإصلاح شأن الآخرين

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 377 مشاهدة
نشرت فى 27 أكتوبر 2012 بواسطة mohamedzeinsap

محمد زين العابدين

mohamedzeinsap
نحن نتناول إحساسك ومشاعرك وغربتك نكتب لك ..... وتكتب لنا فى السياسة والادب والشعر والقصة والسيرة والدين نحن هنا من أجلك و...... ومن أجلنا لكى نقاوم حتى نعيش بأنفاسنا المحتضرة وآمالنا المنكسرة وآحلامنا البعيدة نحن المتغربين بين أوطانهم والهائمون فى ديارهم »

عدد زيارات الموقع

143,132

تسجيل الدخول

ابحث

ذاكرة تغفل..... ولكن لا تنسى




في قريتنا الشئ الوحيد الذي نتساوى فيه مع البشر هو أن الشمس تشرق علينا من الشرق وتغرب علينا من الغرب نتلقى أخبار من حولنا من ثرثرة المارين بنا في رحلاتهم المجهولة نرتمي بين حضن الجبل يزاحمنا الرعاة والبدو الأطفال عندنا حفاة يلعبون والرجال عند العصارى يلقون جثثهم أمام البيوت على (حُصر ) صُنعت من الحلف وهو نبات قاسى وجاف والنساء ( يبركن بجوارهم ( يغزلن الصوف أو يغسلن أوعيتهم البدائية حتى كبرنا واكتشفنا بأن الدنيا لم تعد كما كانت .... ولم يعد الدفء هو ذاك الوطن.......... كلنا غرباء نرحل داخل أنفسنا ونغوص في الأعماق نبحث عن شئ إفتقدناه ولا نعرفه فنرجع بلا شئ .. قريتنا ياسادة لا عنوان لها و لا خريطة ولا ملامح وكائناتها لا تُسمع أحد نحن يا سادة خارج حدودالحياة في بطن الجبل حيث لا هوية ولا انتماء معاناتنا كنوز يتاجر بها الأغراب وأحلامنا تجارة تستهوى عشاق الرق وآدميتنا مفردات لا حروف ولا كلمات لها ولا أسطرتُكتب عليها ولا أقلام تخطها نحن يا سادة نعشق المطر ولا نعرف معنى الوطن نهرب إلى الفضاء لضيق الحدود وكثرة السدود والإهمال... معاناتنا كنز للهواة وأمراضنا نحن موطنها لا تبارحنا إلا إلى القبور ... وفقرنا حكر احتكرناه ونأبى تصديره نحن أخطاء الماضي وخطيئة الحاضر ووكائنات غير مرغوب فيها...طلاب المجد نحن سلالمهم وطلاب الشهرة نحن لغتهم ... نحن يا سادة سلعة قابلة للإتجار بها ولاقيمة لها .. نحن مواطنون بلا وطن