المؤمنون أولياء الله

قال الله تعالى: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِى الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

اعلم أن أولياء الله هم الذين فروا بقلوبهم وعزائمهم من الدنيا، حتى وصلوا إلى حضرة القدس، وجلسوا على بساط الأنس, ولبسوا لباس التقوى، وفطموا أنفسهم عن شهوات هذه الحياة الدنيا، وزهدوا فى ملذاتها، وابتعدوا عن مظاهرها، وصاموا كل أيامهم عن حرماتها، وتجردوا من المظالم، واجتنبوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، واقتنعوا بالحلال الطيب، وعفوا عن المكروه والمباح، وأقبلوا على طاعة الله بعزائم صادقة, وقلوب نقية طاهرة، وأرواح زكية صافية، ونيات سليمة خالصة، حتى أصبحوا محل المفاتحة، والمواجهة، والمجالسة، والمشاهدة، والملاطفة.

وأكثر ما أوتى العباد من كثرة الكلام، وقلة الصمت، فلو تقربت إلى الله مخلصًا صادقًا، لسمعت مخاطبته على الدوام فى سوقك، وبيتك، ومسجدك، وخلوتك، ولكن من استيقظ شهد، ومن نام لم تسمع أذن قلبه، ولم تشهد بصيرته شيئًا؛ لأن حجاب المعاصى مرخى عليه.

ولو أن العباد فطنوا إلى نور الهداية، لم يقبلوا إلا على الله فى جميع أحوالهم، ولم يجلسوا إلا بين يديه، ولم يستفتوا غيره، لقوله صلى الله عليه وسلم للسائل: "استفت قلبك، وإن أفتوك الناس، وأفتوك"؛ لأن الخواطر الإلهية تأتى من الله تعالى، فهى موافقة للشرع؛ لأنها إلهام من الله لعباده الصالحين الصادقين فى عبوديتهم له، وربما أخطأ المفتى, والقلب لا يخطئ، وهذا مخصوص بالقلوب الطاهرة النقية التى ملأ جوانبها نور الإيمان، وعلم اليقين، وإنما يستفتى عالم، ولا علم لمن غفل قلبه عن الله سبحانه وتعالى.

واحذر من أن تستهزئ بواحد، أو تعترض عليه، أو تقيس أحواله بأحوالك، أو تطبق أعماله على أعمالك، بل طبقها على الكتاب والسنة النبوية، فإن هؤلاء القوم قد جلسوا مع الله على حقيقة الصدق، وإخلاص الوفاء، ومراقبة الأنفاس مع الله، وسلموا قيادهم إليه، وألقوا أنفسهم سلمًا بين يديه، وتركوا الانتصار لأنفسهم حياء من ربهم، فكان هو المحارب عنهم لمن حاربهم، والغالب لمن غلبهم.

قال أحد العارفين: ليس الفقيه من فقأ الحجاب عينى قلبه، وإنما الفقيه من فهم سر الإيجاد، وأنه ما أوجده تعالى إلا لطاعته، ولا خلقه إلا لخدمته، فإذا فهم هذا كان هذا الفقه منه سببًا لزهده فى الدنيا، وإقباله على الآخرة، وإهماله لحظوظ نفسه، واشتغاله بحقوق سيده وخالقه، مفكرًا فى المعاد، قائمًا بالاستعداد، حريصًا على جمع الزاد، ذاكرًا ليوم التناد, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوى خير عند الله من المؤمن الضعيف وفى كل الخير".

والمؤمن القوى هو الذى أشرق فى قلبه نور اليقين، قال تعالى فى كتابه العزيز: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِى جَنَّاتِ النَّعِيمِ) سبقوا إلى الله فخلص قلوبهم مما سواه، فلم تعقهم العوائق، ولم تشغلهم عن الله الخلائق، فسبقوا إلى الله مسرعين إذ لا مانع لهم، وإنما منع العباد من السبق جوانب التعلق بغير الله، والتوكل على سواه.

فكلما همت قلوبهم أن ترحل إلى الله، جذبها ذلك التعلق الذى تعلقت به، فكرت راجعة إليه، مقبلة عليه، فالحضرة مع الله محرمة على من هذا وصفه، وممنوعة على من هذا نعته، وافهم ها هنا قوله تعالى: (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)

والقلب السليم هو الذى لا تعلق له بشىء غير الله عز وجل، وقوله تعالى: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ) ، يفهم منه أنه لا يصلح مجيئك إلى الله، ولا الوصول إليه، إلا إذا كنت فردًا مما سواه، منقطعًا عن غيره. وقوله تعالى: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى) ، يفهم منه أنه لا يأويك الله تعالى إلا إذا صح يتمك مما سواه.

إن أهل الفهم أخذوا عن الله، وتوكلوا عليه، فكانوا بمعونته لهم، فكفاهم ما أهمهم، وصرف عنهم ما أغمهم، واشتغلوا بما أمرهم عما ضمن لهم، علمًا منهم بأنه لا يكلهم إلى غيره، ولا يمنعهم من فضله، فدخلوا فى الراحة، ووقفوا فى جنة التسليم، ولذة التفويض، فرفع الله بذلك مقدارهم، وأكمل أنوارهم.

 

المصدر: مقتطفات من كتابى تحفة التصوف

ساحة النقاش

الدكتور/ محمد محمود القاضي

mohamedalkady
موقع شخصي يهتم صاحبه باللغة العربية ودراساتها، والثقافة الإسلامية، والثقافة العامة، والتأليف للطفل. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

230,468