الرزق

كم فيك من الكوامن،  فإذا أوردت عليها الواردات أظهرتها, وأعظمها خطرًا ذنب الشك فى الله تعالى؛ لأن الشك فى الرزق شك فى الرزاق، والدنيا أحقر من أن يعال همها، وإذا صغرت الهمم عالت صغيرًا حقيرًا، ولو كنت عالى الهمة لعلت الهم الكبير، وهو الآخرة، ومن عال الهم الصغير، وترك الهم الكبير استقللنا عقله.

كفا بك جهلاً وحمقًا أن تعول الهم الصغير، وتترك الهم الكبير، عُل هم هل تموت مسلمًا أم كافرًا، عُل هم هل أنت سعيد أم شقى، عل هم النار الموصوفة بالأبدية التى لا انتهاء لها، عل هم أخذ الكتاب يوم القيامة باليمين أم بالشمال، هذا هو الهم الذى يعال حقًّا، لا تَعُل هم لقمة العيش تأكلها، أو شربة تشربها.

قم أنت بما يلزمك من وظائف العبودية، وما أمرك به ربك , وهو يقوم لك بما التزمه، أيرزق الجعران، والوزع، والدود، وينسى أن يرزقك؟, قال تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى).

وإذا رأيت من يصبح مهمومًا لأجل الرزق، فاعلم أنه بعيد من الله، فإنه لو قال لك مخلوق: لا تشتغل غدًا إلا بكذا وأنا أعطيك عشرة دراهم وثقت به، وأطعت أمره، وهو مخلوق فقير, لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، أفما تكتفى بالغنى الكريم، الذى ضمن لك رزقك ما دمت حيًّا؟, قال تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِى الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُبِينٍ).

ومن فرح بالدنيا إذا جاءته فقد ثبت حمقه، وأحمق منه من إذا فاتته الدنيا حزن عليها، ومثاله كمن جاءته حية لتلدغه، ثم مضت وسلمه الله منها وصرفها عنه, فحزن عليها؛ لأنها لم تضره، ومن علامات الغفلة وصغر العقل أن تعول همَّا هل يقع أم لا,  وتخاف من الفقر قبل وقوعه، ولاتعول همًا لا بد من وقوعه وهو الموت، وتصبح تقول: كيف السعر غدًا؟, وكيف يكون الحال إلى آخر الشهر؟ وكيف نفعل فى المعيشة هذا العام؟ وألطاف الله تأتى من حيث لا تعلم ولا تدرى.

فما دمت حيًّا لم ينقص من رزقك شىء، أيستخدمك الملك، ولا يطعمك؟, أتكون فى دار الضيافة وتضيع؟ إن أحب ما يطاع الله به، هو الثقة به, قال الله تعالى: (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ، فاعلم أن باب الرزق طاعة الرزاق، فكيف يطلب منه بمعصيته؟ أم كيف يستمطر فضله بمخالفته؟

قال عليه أفضل الصلاة والسلام: "لا ينال ما عند الله بسخطه" أى لا يطلب رزقه إلا برضاه وطاعته، وقد قال الله تعالى تصديقًا لذلك: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ).

ومثال المهوم بأمر دنياه، الغافل عن التزود لأخراه، كمثل إنسان جاءه سبع يريد أن يفترسه، فاشتغل بذب الذباب ودفعه عن وجهه، عن التحرز عن السبع حتى أكله, والحق أن هذا عبد أحمق، فاقد العقل، ولو كان متصفًا بالعقل، لشغله أمر الأسد وهجومه عليه عن الفكرة فى الذباب.

كذلك المهتم بأمر دنياه عن التزود للآخرة، دل ذلك منه على وجود حمقه، إذ لو كان زكيًا عاقلاً لتأهب للدار الآخرة، التى هو مسئول عنها بين يدى الله.

فلا تشتغل بأمر الرزق، فإن الاهتمام به بالنسبة للآخرة، كنسبة الذباب إلى مفاجأة الأسد وهجومه، ومثال العبد مع الله فى هذه الدار كالطفل مع أمه، ولم تكن الأم لتدع تدبير أمر ولدها، وهو فى كفالتها، ولا أن تخرجه من رعايتها وحمايتها.

كذلك العبد المؤمن مع الله تعالى، قائم له بحسن الكفالة، فهو سائق إليه المنن، ودافع عنه المحن، ومثال العبد مع الله كمثل أجير أتى به الملك إلى داره، وأمره أن يعمل عملاً, فما كان ليأتى بالأجير ويستخدمه فى داره، ويتركه من غير طعام, إذ هو أكرم من ذلك.

فكذلك العبد مع الله تعالى، فالدار دار الله، والأجير هو أنت أيها المؤمن والعمل الذى أمرك به هو الطاعة، والأجرة هى الجنة يوم القيامة، ولم يكن الله ليأمرك بالعمل، ولا يسوق إليك ما به تستعين عليه إلا لخيرك.

 

 

المصدر: من كتابى تحفة التصوف
  • Currently 215/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
71 تصويتات / 568 مشاهدة

ساحة النقاش

Atlanticocean

جزاك الله خيراً على مقالتك الرائعة التى أبردت صدرى من ضيق ألم بى فى الدنيا

الدكتور/ محمد محمود القاضي

mohamedalkady
موقع شخصي يهتم صاحبه باللغة العربية ودراساتها، والثقافة الإسلامية، والثقافة العامة، والتأليف للطفل. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

231,079