العبد بين تدبيره لنفسه وتدبير الله له

من خرج عن تدبيره لنفسه كان الله هو القائم بحسن التدبير له؛ لأنه قد فوض أمره إليه، ومن يتوكل على الله فهو حسبه.

يا ابن آدم لا تدبر لك أمرا           فأولو التدبير هلكى

فوض الأمــــر إلينا            تجدنا أولى بك منك

 والتدبير على قسمين؛ تدبير محمود، وتدبير مذموم.

فالتدبير المحمود: هو ما كان تدبيرًا إلى ما يقربك إلى الله، وإلى ما يوصلك إلى رضوانه تعالى كالتدبير فى براءة الذمة، من حقوق المخلوقين، وسد ديونهم، إما وفاء وإما استحلالاً, وتصحيح التوبة إلى رب العالمين برد مظالم العباد إليهم, والتفكير فيما يؤدى إلى قمع الهوى المردى، وطرد الشيطان المغوي، فهذا كله محمود.

وأما التدبير المذموم: فهو كل تدبير ينعطف على نفسك بوجود حظها فيه, وتحقيق رغبتها منه، ليس لله فيه شىء، كالتدبير من أجل تحصيل معصية، أو فى حظ بوجود غفلة، أو لنيل طاعة بوجود رياء، أو لفعل خير بوجود سمعة، ونحو ذلك، فهذا كله تدبير مذموم؛ لأنه إما موجب عقابًا، وإما موجب حجابًا.

ومن عرف نعمة العقل، استحيا من الله أن يصرف عقله إلى تدبير ما لا يوصله إلى قربه، وما لا يكون سببًا لوجود حبه، والعقل أفضل ما منّ الله به على عباده؛ لأنه عز وجل خلق الموجودات، وتفضل عليها بالإيجاد، ودوام الأمداد، فاشتركت الموجودات فى إيجاده وإمداده، فلما اشتركت أراد الحق سبحانه أن يميز الآدمى عنهم, فأعطاه العقل، وأيده به، وفضله بذلك على الحيوان، وأكمل به نعمته على الإنسان.

وبالعقل ووفوره وكماله وإشراقة نوره تتم مصالح الدنيا والآخرة، فصرف نعمة العقل إلى تدبير الدنيا، التى لا قدر لها عند الله كفر لنعمة العقل واحتقار له، واستخدام له فى غير ما خلق لأجله، وتوجه العقل إلى الاهتمام بإصلاح شأنه فى معاده، هو قيام بشكر المحسن به.

والله تعالى الذى أفاض من نوره عليه أحق بهذا العقل، وأولى به من غيره، فيا عبد الله: لا تصرف عقلك الذى منّ به عليك، وفضلك به على جميع خلقه, لا تصرفه فى تدبير الدنيا الفانية، التى أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: "جيفة قذرة", وكما وصفها الضحاك رضى الله عنه حين قال له صلى الله عليه وسلم: "ما طعامك؟ قال: اللحم، واللبن، قال: ثم يعودان إلى ماذا؟ قال الضحاك: إلى ما قد علمت يا رسول الله, قال: فإن الله قد جعل ما يخرج من ابن آدم مثلاً للدنيا".

 

المصدر: من كتابى تحفة التصوف
  • Currently 20/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
6 تصويتات / 4839 مشاهدة
نشرت فى 6 أغسطس 2011 بواسطة mohamedalkady

ساحة النقاش

الدكتور/ محمد محمود القاضي

mohamedalkady
موقع شخصي يهتم صاحبه باللغة العربية ودراساتها، والثقافة الإسلامية، والثقافة العامة، والتأليف للطفل. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

230,700