المنكوب حقًّا

ليس المنكوب فى هذه الحياة من مات ولده، أو ضاع ماله، أو فقد أهله وأحبابه، ولكن المنكوب حقًّا من محقته الذنوب، وقهرته الشهوات، وطحنته الخطايا حتى جعلته مثل الجلد البالى، هذا هو المنكوب المعزى، ذهبت مآكله بحسناته، وملأ بشهواته المراحيض، وأرضى بها زوجته، وياليتها كانت من حلال، وأضاع شبابه فى السعى لتحصيل الملذات، وقطع العمر فى اكتساب المحرمات، ولا تعتقد أن المنكوب من كان فى الأسر، أو المرض، أو الفقر، أو السجن، فربما كانت هذه الأمور سببًا فى صلته بالله. وينال من ورائها المغفرة والرضوان، وربما جاء الشفاء من مر الدواء، وجاء الخير عن طريق الشر.

ولكن المنكوب المصاب هو من عصى الله تعالى، ولم يتب من ذنبه، وأدخل فى هذه المملكة الطاهرة نجاسة المعصية، وأشعل نار الذنوب فى قلبه حتى جاءه الموت، ونظر فلم يجد فى يده دنيا ولا آخرة، وذلك هو الخسران المبين، كثير من ينفق المال والدنانير فى سبيل الله تعالى، ولكن من ينفق الروح فى سبيل مرضاة الله قليل.

وإذا قيل لك: من يُبكى عليه؟ فقل: عبد رزقه الله الصحة والعافية والمال، فأنفق عافيته وماله فى معصية الله، والإفساد فى الأرض، واتباع شهوات نفسه. إذا نمت وأنت على معصية، وخلطت بين الصالح والطالح رأيت الخلط فى منامك، فينبغى لك أن تنام على طهارة وتوبة، وأن تكثر من الاستغفار عند نومك؛ فيفتح قلبك بنور الإيمان، وترى العجب فى نومك، ويحفظك الله من هواجس الشيطان، عن أبى أمامة رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من آوى إلى فراشه طاهرًا يذكر الله، حتى يدركه النعاس، لم ينقلب ساعة من ليل يسأل الله خيرًا من خير الدنيا والآخرة، إلا أعطاه الله إياه".(رواه الترمذى فى صحيحه).

ولكن من كان فى نهاره عاصيًا لاغيًا، كان فى ليله عن الله غافلاً ساهيًا.

غلطوا والله فى النواح على زوجة، أو زوج، أو والد، أو ولد، بل كان الواجب عليهم أن يقيموا النوائح على فقدانهم تقوى الله، وخلو قلوبهم من خوفه، وحرمانهم من حبه وخشيته.

واعلم أن أول ما ينبغى لك أن تبكى عليه هو عقلك، فكما يقع القحط فى الكلأ الأخضر والزرع يقع فى عقول الرجال.

وبالعقل عاش الناس مع الله، ومع الناس، مع الناس بحسن الخلق، ومع الله تعالى باتباع شرعه.

وكل كسر فإن الدين يجبره       وما لكسر قساة الدين جبران

قال رسول الله r: "من لم يرعو عند الشيب، ويستحى من العيب، ولم يخش الله فى الغيب، فليس لله فيه حاجة".(ذكره الديلمى بلا سند عن جابر رضى الله عنه مرفوعًا.)

المصدر: من كتاب تحفة التصوف شرح تاج العروس لابن عطاء ضبط وتعليق صاحب الموقع
  • Currently 38/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
12 تصويتات / 372 مشاهدة

ساحة النقاش

الدكتور/ محمد محمود القاضي

mohamedalkady
موقع شخصي يهتم صاحبه باللغة العربية ودراساتها، والثقافة الإسلامية، والثقافة العامة، والتأليف للطفل. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

231,086